صورة السعادة
لي صديقٌ مصوِّرٌ كَلِفٌ بتصوير المعانى النفسية والتعبيرات الغريبة على وجوه النابهين والعظماء. قال لي مرة إنه شرع في تخيل صورة مبتكرة للسعادة وأراني مسودة من ملامحها في خياله؛ فإذا هي صورة فتاة في نحو العشرين ممشوقة القَدِّ مرهفة الجوارح مستهامة بالسرور، وضعت قدمًا على الأرض ما تكاد تمسها مسًّا ورفعت الأخرى كأنها ترقص أو تتهيأ للرقص، وسطع في عينيها بريقٌ من نشوة الحبور كبريق الخمر في عيون السُّكارى، وتهدَّل شَعْرها منثورًا يطير في الهواء حول جِيدها ورأسها كالأشعة المذهبة حول الجذوة اللامعة، وفي يديها دف ممزوق تنقر عليه في عنفٍ وخيلاء، وعلى الصورة كلها سمة التوثب والجموح تتراءى في نظرات العين كما تتراءى في حركات الأصابع وهزات القوام.
وكان يُريني المسودة ويشرح لي ما قصده منها ومواضع التعديل التي ينوي أن يُدخِلها عليها. فأُعجبتُ بالصورة ولم أوافق على الاسم الذي اختاره لها، وقلت له: لو غيَّرت الاسم لتمت الإجادة وأَمِنتَ الانتقاد. سَمِّهَا الطرب أو الفرح، أما السعادة فلا أتخيلها يا صديقي على هذا المثال.
وكانت معرفة الصديق المصور بخوالج النفس وعبارات العواطف أكبر كثيرًا من معرفته بمفردات اللغة ومعاني الكلمات، فقال لي: وما الفرق بين الطرب والسعادة؟
قلتُ: أنا أتصور أن السعادة هي الاكتفاء واليقين، وليس فى هذين الشعورين معًا ما يجمح بقياد النفس ويثور بالأعضاء، إنما تكون النفس إذا اكتفت وأيقنت قريرةً باسمة ووديعة حالمة، وراضية في سكون وغبطة ومسترسلة في هناءة مضمرة، إذا بدا منها أثرٌ على الوجه فقد يكون ذلك الأثر أقرب إلى السوداء والخضوع منه إلى الابتهاج والعربدة، أما الطرب فهو نوبة تملك النفس وتستفزها فتُخرِجها عن صوابها وتدفع بها إلى الحركة في ثورة هياجها. فالنفس فيها مُسخَّرة من خارجها لا تستطيع أن ترجع إلى بطنها ولا تطيق أن تخلو إلى ضميرها، ولن يكون الإنسان سعيدًا وهو نافر من الخلو بنفسه مضطر إلى إسكات الألم بالحركة وإخفاء القلق الذي يفعم الخاطر باللجب الذي يساور الأعضاء. السعادةُ راحةُ صديقٍ ناعمةٌ تمسح على الوجوه والقلوب، أما الطرب فمهماز راكب يجور على مطيته وينحي عليها بسوطه. السعادة مظللة وارفة، أما الطرب فساطع متلهب. السعادة ملك رحيم يرافق السعيد ويهديه ويسقيه من شرابه في صمتٍ وسكينةٍ وجمالٍ، أما الطرب فشيطانٌ مريدٌ يستولي على الطروب فيتخبط به ويعتسف قياده ويضله عن هداه.
إنني قد أتصور الوحش الفاتك طروبًا ولكني لن أتصوره سعيدًا، وقد أتصور الإله الخالد سعيدًا ولكني لن أتصوره طَروبًا، فالسعادة كمال وأنس والطرب حاجة وقلق، وبينهما من التباين ما يوشك أن يجعلهما من طبيعتين مختلفتين أبعد الاختلاف.
قال: وكيف تتخيل السعادة إذا أردتَ أن تصورها؟
قلتُ: أول شيء لا أتخيلها في العشرين من العمر، وإنما أختار لها سنًّا يكثر فيها الوعي والدراية ويقل فيها الجهل والغرارة؛ لأن السعادة شعورٌ عاقل متزن سميح، وليس هذا الشعور مما تحسه بنت العشرين ولا هي تُراد لأجله حين يعشقها العاشقون. إن الطرب أغلب على هذه السن عاشقة كانت أو معشوقة، أما السعادة فلها بعد ذلك سِنٌّ يضيء عليها نورها الساجي العميم، ولا يدع الإضاءة فيها كلها لومضات البرق وخطفات اللهيب.
قال: وبعد؟
قلتُ: وبعد، فإني أختار لها ملامح الرضا الذي يشوبه الحزن، والأمل الذي تلطفه الذكرى، واللذة التي يطهرها الحنو، والنشاط الذي يلوح عليه التعب، وأجلوها في شارةٍ لو جلست بها في مأتم لما ظهرت عليها غرابة ملحوظة بين شاراته، وأصور سرورها إلى داخل نفسها الذي تدركه البصائر وتناجيه العاطفة وليس إلى خارج أعضائها الذي تسمعه الآذان وتنزعج له الحواس، وأتوسمها حالمة في يقظةٍ شاعرةٍ، وليست جامحة في غيبوبة الجنون وسورة الهياج.
قال: إذن ما هي السعادة عندك؟
قلتُ: إنني لا أحاول تعريف السعادة حين أرسم صورتها أو أستحضر ذكرياتها، ولكني هكذا أشعر بها حين أظنني سعيدًا، وإخال أننا لا نخطيء في الشعور بالسعادة ولا في طلبها إلا يوم تدخل علينا التعريفات والحدود ونبدأ في فهمها بالرأي قبل أن ننالها بالتذوق والإحساس، وقديمًا خُيِّل إلى الناس أن السعادة نهاية ما يختلج به قلب الإنسان من الفرح والبهجة فهي على هذا طرف في هذه الجهة والغم الشديد طرف مقابل لها في الجهة الأخرى، وهي تثير الإنسان طربًا وهو يثيره حزنًا وهلعًا، وليست السعادة فرحًا شديدًا يقابل الغم الشديد كما خُيِّل إلى الذين عرَّفوها هذا التعريف، ولكنها يقين كافٍ في النفس لا يثور ولا يثير.
•••
والحقُّ إننا إذا بحثنا عن السعادة بالتعريفات والحدود فقد نطلبها وهي تطرق بابنا وقد نُعرِض عن طلبها ونحن أحوج الناس إليها، وأحسب أن سعادات الصبا كلها من قبيل تلك السعادة المتنكرة التي نستمتع بها ولا نعرف ما اسمها ولا يخطر لنا أن نرفع القناع في تلك اللحظة عن مُحيَّاها، وكأنني كنتُ في حالةٍ قريبةٍ من هذه الحالات يوم قلت في نحو الثامنة عشرة أخاطب السعادة:
ثم علمت لما انقضت تلك الأيام أن سعادة من السعادات التي نطلبها ونلح في طلبها قد زارتني يومئذٍ مرارًا، وسألتني حتى ملت طول سؤالي خلافًا لما زعمتُ من أنني قد سألتها حتى مللتُ سؤالها … وكان خطئي أنا أنني لم أستقبلها بحفاوتها التي تستحقها، وكان خطؤها هي أنها لم تعلن لي حقيقة اسمها، ومضت كما قلت بعد سنين «كأنها قُبلَة في ثغرٍ مخمورٍ!»
ولما جاوزتُ الثلاثين وضح لي رأيٌ جديدٌ في السعادة الإنسانية فقلتُ إنها هي شيء خُلِقَ لنفسين اثنتين تشعران بها معًا لا لنفسٍ واحدةٍ تشعر بها منفردة، وإننا إذا طلبناها وحدنا فقد شطرناها شطرتين فلا تقع في حوزتنا إلا وهي سعادة ميتة …! وذاك إذ أقول:
على أنك قد تُغيِّرُ رأيك في السعادة من عامٍ إلى عامٍ ومن فترةٍ إلى فترةٍ، ولكنها هي فيما بين ذلك لا تحرمك زياراتها المختلسة على غير مذهبك أنت في آداب هذه الزيارات، فانتظرها في كل زيٍّ وفي كل لحظةٍ أو لا تنتظرها على الإطلاق! فإنها تجيئك في أكثر الأحيان على غير انتظار.
وهناك سعادة واحدة تتفق عليها جميع التعريفات وتتوافى لديها جميع الآراء، تلك هي السعادة المطلقة أو هي سعادة الاكتفاء التام الذي لا يتوق إلى شيءٍ واليقين الدائم الذي لا يعتريه شك ولا اشتباه. وليست تلك السعادة منَّا ولا نحن منها؛ لأنها فيما نظن هي السعادة الربوبية الغنية عن كل أملٍ والخلود الآمن من كل آفةٍ، وهل نطمع نحن في هذه الأمنية؟ بل هل نريد نحن في هذه الحياة أن نكتفي فلا نأمل وأن نوقن فلا نرتاب؟ كلا، هذا ما لا نحبه ولا نريده ولا نناله إذا أردناه، فإنما طلبتنا نحن معلقة بغير السعادة التي تتفق عليها التعريفات وتتوافى لديها الآراء، وإذا تركنا هذه السعادة المطلقة جانبًا فقد بقيت لدينا سعادات كثيرة بغير حصرٍ ولا تعريفٍ وليس سعادة مفردة يحدها تعريفٌ واحدٌ، وكل واحدةٍ منها كالمرأة التي تحبها هي خير النساء وأجملهن في الساعة التي تتجلى فيها على قلبك وخيالك، وكلهن قمينات أن يصاحبن أغرب خوالج النفس وأبعدها عن فكرة السعادة الدارجة في أوهام الناس، ولكنهن لا يخلون أبدًا من علامةٍ ثابتةٍ تميزهن بها بين أخواتهن السعادات الدَّعيَّات الكاذبات، وتلك هي علامه اليقين والاكتفاء.