الإصلاح الأدبي
كُلُّ إصلاحٍ في شأنٍ من شئون الأمم لا يتناول تصحيح مقاييس الحياة فيها هو عبثٌ فارغٌ لا يَستَحِق عناءه، وفي مقدمة ذلك إصلاح الآداب والفنون.
ويجب أن يكون مفهومًا بالبداهة أن إصلاح الآداب شيءٌ غير تنقيح صِيَغ الألفاظ، أو تحوير أوزان الشعر، أو تعديل النحو والصرف، فإنما هو في الحقيقة لا يقل عن تصحيح حياة الأمة ومن ثَمَّ تصحيح التعبير عن تلك الحياة. فهو بمثابة خلق جديد للأمم وهو من صناعة الآلهة لا من صناعة الخلائق الهالكين.
وأصدق ما تُمتَحَن به مقاييس الحياة في الأمم أن تُعرَف الفضائل التي يَزِنُون بها مقادير الرجال؛ ماذا يبتغون منهم وفي أية هيئة يحبون أن ينظروا إليهم؟ أيطلبون منهم حياة تكفيها حدود من الطعام والشراب والثياب المزركشة والأسماء الطنانة، ويوم واحد من الزمن يفتأ يتكرر على وتيرةٍ واحدةٍ ويُعَاد كما بُدئ إلى أن يطويَه الموت في ظلماته؟ أم يبتغون منهم حياةً لها حدودٌ ضاربةٌ في أوائل الآزال وأواخر الآباد تحتاج إلى سماءٍ عالية وآمادٍ غير متناهية وفضاءٍ مترع بالنور والجمال وأكوانٍ مفعمة بالقوى والأسرار وآلهةٍ تعمل في الجهر والخفاء، ولحظاتٍ سرمدية تمر كل لحظة منها باستكشافٍ جديد من الحياة وفنٍّ جديد من فنون الوجود؟ فإن كانت الأولى فانفض يديك منهم ولا تحدثهم عن عليين فإنهم يمشون إلى أسفل، ولا عن الجمال فإنه غير جميل لديهم، ولا عن معاني الحياة فإن حياتهم معنى واحد لا يفهمونه ولا يستحق أن يفهمه أحد.
وان كانت الثانية فلا تأس عليهم، ولا تَهُولنَّك العقبات التي في طريقهم؛ فإنهم لعلى بصيرةٍ من أمرهم، وإنهم لمهديُّون إلى الآداب العالية والفنون الرفيعة وإن صَرَفَتْهُم عنها بعض الدواعي إلى حين.
يعثر الباحث الأثري على جثةٍ هامدةٍ في لفائف شاحبة، حولها كسرٌ من الفخار بينها قطع من الورق فلا يلبث أن يُنشيء في خياله عالمًا حافلًا من تلك الآثار ودنيا حية من تلك البقايا الميتة؛ يجمع من تلك الكسر آنيةً صحيحةً، ويضع تلك الآنية في البيوت التي تلائمها، ويعمِّر تلك البيوت بمظاهر الحضارة التي تدل عليها الجثة المحفوظة والأكفان البالية والأوراق المتهافتة والعمارة المُتخيَلَة، فإذا هو قد أسبغ من خياله عالمًا رحيبًا جليلًا عن هيكلٍ ضعيف ضئيل.
فالآن هَبْ أن باحثًا أثريًّا عثر بعد ألف عامٍ على ديوانٍ من دواوين الشعراء الذين يُنعتون بيننا اليوم بالعظمة والخلود، وأراد أن يستدل منه على الحياة التي كانوا يحيونها والعالم الذي كانوا يعيشون فيه، فأي عالم يكون هذا العالم الذي يتخيله الباحث الأثري على هذا المقياس؟
أتريد الجواب بصراحةٍ وإيجازٍ؟ إنه ولا شك عالم مطموس لا يختلف عن عالم «الحمير» مضروبًا في عشرة أو في عشرين، بل مقسومًا في بعض الصفات والأبعاد على عشرة أو عشرين …! عالم العلف والمذود والقيد واللجام والأتان …! عالم لا يتطلب من النازلين فيه إحساسًا أكبر من إحساس الدواب السائمة في الفلاة، ولا يشعر المتفقد لآثاره أنه كانت له سماء أو كانت له آزال وآباد، أو كانت فيه أرواح وأسرار أو كانت فيه أفراح وأهوال أو كان له إلهٌ قدير … ولو كلفني خلق هذه العالم المطموس لو كلفني أنا الإنسان الحائن تعب خمس دقائق لما رأيته جديرًا بهذا التعب القليل في حياتنا المزدحمة بالمتاعب والأشغال.
وأنت يا مصلح الآداب، يا مَن تريد من الناس أن ينظموا الحياة شعرًا من لحن السماء، وفنًّا من الخلق والإنشاء، وصورًا إلهيةً من حقائق الأشياء ما عملك أنتَ بين هذه المخلوقات التي تتماجن الأقدار بخلقها وتُكلِّفك أنت ثمن مجونها ودعابتها؟ عملك أن تنقلها من عالمها المقبور الذي هي فيه إلى العالم الحي الفائض بالمعاني التي فكر فيها أفلاطون، وعبَّدَها الغزالي، وشعر بها شكسبير، وغَنَّاها فاجنر، وتطلَّع إليها نيتشه، وصوَّرها ليوناردو، واستنشق هواءها ألوف الملايين ممَّن هم أقل حظًّا من هؤلاء في العبقرية والابتكار، ولكنهم إخوانهم في وطن المعرفة والإدراك، فأين أنت ياصاح من هذا العمل وماذا لديك من العُدَّة؟ أملُ إلهٍ ويدُ إنسانٍ وصبرٌ تتلقي به الحوادث هو صبر مخلوق من أبناء الفناء.
لقد عالجتُ هذا العمل الموبق سنين طوالًا، ووهبته حياتي فخسرتها وما استفاد هو منها شيئًا … وكاد أن يتسرب إليَّ اليأس، وورد على خاطري مرات أن هذا الشرق العربي أو المُستعرب ما كان قط في عصرٍ من عصوره الماضية خيرًا مما نراه الآن، وزعمتُ أن الأنبياء والروحانيين ما ظهروا فيه إلا كما يظهر الأطباء حيث ينتشر الوباء، فلا قداسة ولا روحانية ولا شعور وإنما هو فقر في الروح عالجته الطبيعة بدواء النبوة، وقد ذهب الأنبياء وبقي الداء بعدهم كما كان، وسيبقى هكذا إلى آخر الزمان ولكننا لا نزال نعمل.
وأخشى أن يكون عمل اليأس لا عمل الرجاء. إن الزاد لَيُثقل ظهورنا في الصحراء المجدية، ولسنا نأمل أن نعيش فيها حتى نأكله فنطرحه عن ظهورنا مرغمين، ثم نقول: لعل غمامة تعبر به في هذه المفازة فتكون منه واحة وتكون من الواحة حياة! ولكن ترى هل تعبر الغمامة؟ أو تعصف السموم بالبذور قبل أن تدركها رحمة السماء؟!