معنى الجمال في الحياة والفن
وقد أجبتُ الأستاذ بخطابٍ قلتُ فيه إن اعتراضه الذي أبداه على وحدة المعنى في الحياة والفن قد يكون وجيهًا حاسمًا لو أنني زعمتُ أن الحياة فنٌّ إنسانيٌّ يخلق الإنسان ما فيه من تموجات الحب والبغض وقواعد الإيمان ووساوس الشك، ولكني لم أقل ذلك ولا إخال أحدًا يقوله، وإنما قلتُ إن الفكرة التي تتمثل في جمال الحياة هي الفكرة التي تتمثل في جمال الفن، أما صانع الحياة وصانع الفن فيختلفان صنعًا، ويتفاوتان قدرة ويستمد أحدهما أسرار الجمال من الآخر، ولكنه لا يخرج عن نمطه ولا يشذ عن فكرته.
فإذا سألَنا سائلٌ كما يسأل الأستاذ نعيمة «أي فنٍّ يتمكن من تصوير كل تموجات الحب والبغض والإيمان والشك؟» قلنا إنه هو الفن الإلهي الذي نحكيه نحن بفنوننا من وجهةٍ ونستنبيء غاياته البعيدة من وجهةٍ أخرى، فنلتزم حدوده إذا حاكيناه، ونُضيف إليه ونوسعها إذا نظرنا إلى غاياته البعيدة.
وقد أحببتُ أن أُبيِّن هنا ما أردته بوحدة الفكرة في الحياة والفن فأقول أولًا: إن الحرية في رأيي هي العنصر الذي لا يخلو منه جمال في عالم الحياة أو في عالم الفنون، وإننا مهما نبحث عن مزيةٍ تتفاضل بها مراتب الجمال في الحياة لا نجد هنالك إلا مزية «حرية الاختيار»، التي يَفضُل بها الإنسان الكامل مَن دُونَهُ من المرجوحين في صفات النفوس وسمات الأجسام، ثم يفضل بها الناس عامة الأحياء، ثم يفضل بها الأحياء طبقات النبات، ثم يفضل بها النبات الأشياء الجامدة أو المادة الصماء، على أن المادة الصماء نفسها تتفاضل في الجمال بحسب ما يبدو لها من حرية الحركة ومشابهة «الإرادة»، فتروقنا النيران والرياح والأمواه وتطلق في نفوسنا خوالج الحياة ونعاطيها شيئًا من العطف لا نعاطيه لغير الأحياء، وليس لها فضلٌ ظاهرٌ على عامة الجماد إلا بما تخيله للناظر من حرية الإرداة ومحاكاة الحياة.
ولكننا نعود فنسأل: كيف تكون هذه الحرية؟ هل تتأتى لنا حريتنا في فضاءٍ مطلقٍ لا عائق فيه ولا قوة نزن بها قدرتها ونعرف بها قيمتها؟ وهل للحرية من معنى إلا أنها تغلب العوائق التي تصدها أو تختار بينها إذا هي لم تقدر على مغالبتها؟ فنحن إذا أردنا أن نمتحن «حرية» المسابق في العَدوِ أقمنا له الحواجز، وحدَّدنا له المسافة والوقت وقيدناه ﺑ «حريات» المسابقين الآخرين، فألزمناه أن يبين سرعته بالنسبة إلى السرعة التي تناظره وعرفنا مقدار حريته بمقدار القيود التي نهض بها والحدود التي تكلف مراعاتها، وكذلك الحياة فيما تمنحه من السعة لأبنائها إنما تقيس حريتهم بما تسلِّطه عليهم من الضرورات والتكاليف، وإنما تخوِّلهم إباحات الحقوق بحسب ما تُحمِّلهم من أوقار التكاليف والواجبات، وتجلب لهم المسرَّات والأفراح بقدر ما تُحيله عليهم من الشدائد والآلام، ومن ثم ربما كان الأصوب والأوضح أن نقول إن الجمال هو «تغلب الحرية على الضرورة.» وإن هذه الفكرة هي فكرة الجمال في الحياة وفي الفنون كلها من موسيقى وشعر وتمثيل وتصوير ورقص ورياضة.
ما الجسم الجميل؟ لا أظننا مستطيعين أن نجيب عن هذا السؤال بأصدق ولا أوجز من أنه هو الجسم الحر الطليق، وسواء أنظرنا إلى الجسم في جملته، أم إلى كل عضوٍ من الأعضاء على حدته فإننا لا نرى له صفة جمالٍ إلا وفي طيها صفة حرية وطلاقة؛ فالجسم يُعاب إذا عطلت إحدى وظائفه، والعضو يُعَاب إذا زاد أو نقص عن حد حريته، وكل وجه تنكر منه وصفًا من الدمامة لا بد أن تحس بعد تأمله أن مانعًا يمنع وظائف الحياة فيه عن حرية الحركة؛ فيزيد أو ينقص في لمحةٍ من ملامحه أو قَسَمَةٍ من قسماته، بل قد يتم «تناسب الشكل» في وجهٍ قسيمٍ صحيحٍ ثم لا يعجبك ولا تنشط إليه روحك؛ لأنك لا تحس فيه ما يدل على حركة الحياة في نفس صاحبه، وذلك ما يسمُّونه بثقل الروح، وهو تعبير غاية في الدقة والعمق لو أنعمت فيه لاستوحيت منه معاني لا يوحيها الدرس الطويل والتمحيص الدقيق؛ لأنه يدلك على حقيقة الإحساس بالجمال في طبائع الناس وأنه شيء ينافي «الثقل» ويصاحب الخفة والطلاقة.
فلا شأن للتناسب في «جوهر» الجمال وإنما هو تبع لحرية الوظيفة وحركة الحياة في الجسم، وقد يضخم العضو في بعض الأحياء ويستدق في الأحياء الأخرى، وقد يطول في بعض الأنواع ويقصر في غيره، ولكن الشأن الأول في استحسانه — على أشكاله المختلفة — لحرية الوظيفة فيه لا للضخامة والدقة أو للطول والقصر أو للنسبة بينه وبين الجسم الذي تركب فيه، فلا تعيب الغزال ولا العصفور دقة الساق مثلًا، ولكنها تعيب الإنسان إذا نمَّت فيه على الإعياء واختلال وظائف الأعضاء.
ودَعِ الأعضاء والأجسام وانظر إلى الفضائل والأخلاق، فإنك لا تجد خصلة معدودة في الخصال الجميلة المحمودة إلا كان فيها معنى من غلبة الحرية على الضرورة وحكم الإرادة الباطنة على البواعث الخارجية؛ فالشجاعة والأنفة والصبر والعفة وما شاكلها من المناقب المأثورة لا تُحمَد في الإنسان إلا لأنها دليل على أنه مالك لحريته يقود البواعث الخارجية ولا ينقاد لها، ويتصرف في نفسه تصرف القادر في شئونه، وانظر إلى «التجمل» الذي يتصف به ذوو السمت والظرف تجده إنما يظهر حيثما ظهر في هيئةٍ واحدةٍ؛ هي ألا يكون المرء مغلوبًا على أمره في حركةٍ من حركاته أو كلمةٍ من كلماته أو سجيةٍ من سجاياه، فيكون حزينًا موجعًا ولا يُظهِر الحزن والتوجع، ويكون مريضًا مدنفًا ولا يئنُّ أو يتململ، ويكون غاضبًا مهتاجًا ولا يصخب أو يتفزز، وإذا اضطر إلى التخفيف عن نفسه بحركةٍ أو إشارةٍ حاول أن يعطيها من هيئة الاختيار والتأنق ما يخفي الاضطرار والاندفاع؛ فتلوح للناظر كأنها مقصودة مرسومة وتعبر عن نفسٍ لا تضيق بأمرها ولا ترتخي قبضتها على زمام مشيئتها.
وفكرة الجمال في الحياة هي بعينها فكرة الجمال في الفنون، فلا فن بغير تطلعٍ ولا تطلع بغير حريةٍ، ولكن ينبغي أن نذكر أن الحرية تستلزم المنع وأن الجمال هو غلبة الحرية على القيود، أو هو ظهور الحرية بين الضرورات وليس هو بالحرية الفوضى التي لا يمازجها نظامٌ ولا يحيط بها قانون، فلا عجب أن يمثل «الفن» قيود الجمال وأنظمته كما يمثل حريته وانطلاقه، وأن نرى الفن حافلًا بالأوزان والأوضاع كما نراه حافلًا بالتطلع والرجاء.
والفن بَعدُ هو صورة مختصرة من جمال الحياة نرسمها لأنفسنا لنتبعها بالأمل والاحتذاء، وماذا تصنع أنت إذا أردتَ أن تختصر المعاني والكلمات؟ إنك تأخذ منها صفاتها البارزة وخلاصتها الجامعة، وكذلك يصنع الفن؛ إذ يجمع لديه في وقتٍ واحدٍ نظامًا أوضح من نظام الحياة، وحرية أطلق من حريتها أو يستخلص من جمال الحياة عُنصُرَيْهِ البارزين وهما النظام والرجاء.
وكأن الإنسان قد أراد بالفن أن يتمم حرية الحياة أو يستدرك عجزها عن قهر ضروراتها التي تثقل عليها؛ فقد خَلَقَ الفنُّ للإنسان أجنحةً قبل أن يطير في الهواء، وأنشأ لنا في الشعر أجيالًا من الأبطال هزموا نواميس الكون وأحكام القدر، وجمع في جسمٍ واحدٍ من رشاقة الأعضاء وملاحة القسمات ما تضن به الحياة على الكثير من الأجسام، وأرسل أحلامنا في سماوات من الغبطة والكمال لا تُفتَح لأبناء الفناء، فتمت به آمال الحياة، وأصبنا في عالمه حريةً لا نصيبها في عالم الحاجة والاضطرار.
وصفوة ما تَقدَّم أن الحرية المنظومة أو الحرية التي تظهر بين قيود الضرورات؛ هي سر الجمال في الفنون كما أنها سر الجمال في الحياة، وأن أمنية الإنسان القصوى التي يتطلع إليها من الحياة والفنون هي الحرية لا القوة ولا الغنى ولا السعادة نفسها؛ إذ هو يطلب القوة والغنى ليكون حُرًّا وهو ينال السعادة بفضل الحرية ولا ينال الحرية بفضل السعادة، وقد يخطر لك أن تسأل: مَن يطلب القوة لماذا أنت تطلبها وما هي غايتك منها؟ ولكنك لا تسأل مَن يطلب الحرية هذا السؤال؛ لأن كراهة الموانع غريزة مركبة في جميع النفوس إن لم نَقُل في جميع الأشياء.
•••
وبعد، فقد يحسن أن ننبه إلى أمرين ينظر فيهما مَن يود التوسع في نقد هذا الرأي؛ ليستوفي بهما بيان الفكرة التي نذهب إليها، فالأمر الأول هو أن الجمال ليس بصفةٍ واحدة محدودة، ولكنه صفات كثيرة منوعة تتراءى لنا في الأشكال والألوان والأصوات والمعاني، وقد تجتمع هذه الصفات معًا؛ فيتم الجمال ويتسق أو تتفرق فينقص أثرُه ويختلف مدلوله، فمن ذلك أنه ربما تهيَّأ لجسمٍ حَسَنِ التكوين والهندام دلائل كثيرة على النشاط وحرية الأعضاء، ولكنه لا يروق النظر ولا يعجبنا الإعجاب الأكمل؛ لأنه أسود اللون — مثلًا — ونحن نحب أن نرى تلك المحاسن في جسمٍ مشرق البياض، ولا يبعد أن يكون سر تفضيل البياض في هذه الحالة أنه يطلق سمات الجمال ولا يمنعها؛ إذ كنا قد تعودنا أن نستشف منه دم الجسم يسري في أعضائه وينضح على إهابه ويجلو لنا بشاشة الحياة التي تمنعها البشرة السوداء.
والأمر الثاني التفريق بين الإحساس بالجمال والرغبة في الاستيلاء على الشيء الجميل، فإن الإحساس بالجمال يطلق النفس من أَسْرِها، ولكن الرغبة في الاستيلاء على الشيء الجميل قد توقع النفس في أَسْر الحاجة، فإذا سلب العشق حرية العاشق وقيَّده بأهواء معشوقه فليس ذلك بحجَّةٍ على أن الجمال ينافي الحرية في صاحبه أو في الناظر إليه.