رأي شوبنهور في معنى الجمال في الفن والحياة
آرثر شوبنهور فيلسوف ألماني متشائم عَبوسُ الفكرِ، ولكنه جريءٌ على تشاؤمه ظريفٌ على عُبُوسة فكره، وهو أشبه الفلاسفة المحدثين بالشعراء وأقربهم إلى المتصوفة وأعرفهم بالحياة على ما في مذهبه من الولع بذم الحياة.
وكأنه كان منكرًا للحياة لا شاكيًا منها، أو كأنه كان يعيب خلقتها عيب الزميل الناظر في عمل زميله لا عيب المخلوق الذي برحت به صروف المقادير وثقلت عليه وطأة القضاء، فهو لا يصوِّب سهمه إلى عصرٍ من العصور ولا إلى أنظمة الأحياء في جميع العصور، ولا إلى صور الحياة وهيئاتها وما يتناوله التغيير والتحسين من عروضها وصفاتها، ولكنه يصوِّب السهم إلى صميم الحياة نفسها بل إلى صميم كل حياةٍ متخيلَةٍ حتى حياة الكون العظمي! وقلَّ في الناس مَن يوغل هذا الإيغال ويجتريء هذا الاجتراء، فهو لا يُسمعك صرخة ألم ولا ثورة نفس ولكنه يُبدِي لك ملاحظة الناقد المتأمل الذي كأنما يلاحظ على شأنٍ بعيدٍ عنه يعرضه العارضون عليه، والذين يحسبون شوبنهور كغيره من المتشائمين عبدًا متمردًا على حكم الحياة صارخًا في قفاها يظلمون مذهبه أشد الظلم، ويقفون به عند منتصف طريقه، فإنما هو خصمٌ عنيدٌ للحياة صارخٌ «في وجهها» لم يعترف بسلطانها، ولم «يعتمد أوراقها»، ولم يسلِّم قط بحقوقها من أصلها حتى يُقَال إنه متمرد عليها.
وإني لأرى في هذه الجرأة من الطموح وحيوية الفكر ما لستُ أراه في تفاؤل الفلاسفة الآخرين الذين لا يكلفهم التفاؤل شيئًا كبيرًا من جهد الفكر ورياضة النفس، ولا يكونون فيه إلا منقادين للقضاء انقياد الصخرة لقوة الجذب والحيوان لغريزة الحياة، ومن الغرائب أن يحتاج الفكر إلى الحيوية حتى في الاجتراء على الحياة نفسها والإنحاء عليها في أساس وجودها، ولكنها هي الحقيقة التي لا مراء فيها، وهي بعبارةٍ أخرى؛ إن حيوية الفكر تظهر في إنكار الحياة والدعوة إلى رفضها كما تظهر في انغماس المنغمسين فيها وإعجابهم بحظوظها ومحاسنها، وربما كانت حيوية شوبنهور في اجترائه على أصول الحياة أكبر من حيوية تلميذه «نيتشه» في الاجتراء على أصول الآداب وفضائل الأديان، وإن كان نيتشه قد تخيَّل أنه أبعد النقلة، ووثب من النقيض إلى النقيض حين تحوَّل من إنكار الحياة على مذهب شوبنهور إلى توكيد الحياة وإرادة القوة على مذهبه هو، الذي دعا إليه بعد ثورته على الأستاذ الكبير وعُزُوفه عن دين العدم وسُنَّة الإنكار، وليس الفرق بين «لا» الكبرى التي كان يقول بها شوبنهور، و«نعم» الكبرى التي كان يقول بها نيتشه إلا كالفرق بين النهي والأمر من فم الجبار القدير الذي ينهى ويأمر بقوةٍ واحدةٍ وحقٍّ واحدٍ؛ فكلاهما لا يفوه به إلا قائل مُطَاع في «لائه» وفي «نعمه» مخوَّل أن يشير بيده ذات اليمين أو ذات الشمال.
ولشوبنهور فلسفة واسعة زاخرة طَرَقَ فيها مباحث الفلسفة على اختلافها بحماسة المتدين وزكانة المتصوف وبساطة الفنان، وفصَّل فيها رأيًا في معنى الجمال يَشفُّ عن غورٍ عميق وإحساس دقيق ونفس خُلِقَتْ للحياة، ولكنها صُرِفَتْ إلى إنكارها بلفتةٍ صغيرةٍ في أداةٍ من أدواتها أو بزيادةٍ طفيفة أُضيفَت إلى بعض مواهبها فجارت على بقيتها، ورأيه في الجمال هو الذي يعنينا هنا، وهو الذي أردنا أن نخصص له هذا المقال بعد أن بيَّنا رأينا آنفًا في معنى جمال الحياة وجمال الفنون.
وأَقْوَم ما في رأي شوبنهور في معنى الجمال الفني هو قوله إن مهمة الفن هي فصل الشكل «القالب» عن المادة لا أن يحكي لنا الشكلُ والمادةُ معًا حكايةً صحيحة محكمة؛ لأن الفن موكل بالصور الباقية والنماذج الخالدة لا بالكائنات التي توجد في الحياة مرةً واحدةً، ثم تمضي لطيتها غير مكررة ولا مردودة، فإذا أراد المصوِّر أن يمثِّل إنسانًا لفت نظره فليس الذي يعنيه من ذلك الإنسان أنه فرد من أفراد نوعه مستقل بمادته وشكله وعمره، ولكن الذي يعنيه منه أنه «قالب» يصلح أن يكون نموذجًا عامًّا لأفرادٍ كثيرين أو للنوع كله، وهذا النموذج هو الذي يأخذه المصوِّر، ويفصله عن مادته ليمثِّله مستقلًا عنها إما في تمثالٍ أو صورةٍ أو قصيدةٍ من الشعر تُنسِيك الرجل الفاني بما تروي لك عنه من الأشكال الإنسانية الخليقة بالدوام ومعانيها التي تعبر عنها تلك الأشكال، ويقول شوبنهور: «إن إبراز الشكل وحده بغير مادته جوهريٌّ في كل عملٍ فنيٍّ؛ ولهذا لم يكن لتماثيل الشمع أثرٌ في النفس من الوجهة الجمالية، ولم تُحسَب من هذه الوجهة بين أعمال الفنون ولو أنها حين تُجَاد صناعتها أقمنُ مائة مرة أن تخدع الناظر عن حقيقتها من أحسن تمثال وأجمل صورة، فلو أن الخداع بمحاكاة الحقيقة هو غرض الفن لكانت تماثيل الشمع في المكان الأول بين الآثار الفنية، غير أنها تبدو كأنها لا تمثِّل لنا الشكل وحده بل تنقل لنا الشكل والمادة معًا، ومن ثم توهمنا أن الشيء المحكي ذاته ماثل أمام أعيننا، فتختلف بذلك عن أعمال الفن الصادقة التي تبعد بنا عن الشيء الذي يوجد مرةً واحدةً، ثم لا يعود إلى الوجود أبدًا؛ أعني الفرد، وتقترب بنا إلى الشيء الذي يوجد بلا انقطاعٍ في الزمن الباقي الذي لا نهاية له، وفي العدد المطلق الذي لا حصر له وهو «الشكل» أو فكرته. فتمثال الشمع يبيٍّن لنا الفرد نفسه أي ما يوجد مرة ولا يعود إلى الوجود ولكنه مجرد من الحياة التي تعطي ذلك الوجود الزائل قيمته؛ فهو يبعث فينا قشعريرة كأنها قشعريرة الناظر إلى الجثة الهامدة … ويُشاهَد أن الصور المحفورة على النحاس الأسود تنمُّ على ذوقٍ أكرم وأرفع من الذي تراه في المحفورات المصبوغة والنقوش الملونة، وإن كانت هذه أحظى وأجمل عند مَن ينقصهم الذوق المهذب والنظر السليم؛ وسبب ذلك كما هو ظاهر أن المحفورات السوداء تعطينا الشكل وحده في هيئته المجردة التي يتناولها الإدراك، أما اللون فهو شيء متعلق بحاسة النظر أو بالتفاعل الخاص الذي يقع فيها.»
ويجوز لنا أن نزيد على الشواهد التي أتى بها شوبنهور أن الصورة الشمسية لا تعجبنا كما تعجبنا صور الفنانين الحاذقين؛ لأنها تنقل لنا الشيء الحقيقي كما يبدو للحس في حين أن الصورة التي يرسمها الفنان تنقل لنا شكل ذلك الشيء كما يبدو في نفسٍ عبقرية واعية تنظر إلى معاني الأشكال المجردة لا إلى مادتها المحسوسة، ونزيد عليها كذلك أن الوصف الشعري الذي يُعنَى بإحصاء الموصوفات وترتيبها وحكاية أحجامها وسرد أعدادها وتقييد موادها وألوانها لا يعجبنا كما يعجبنا الوصف النفسي الذي ينفذ بنا لأول نظرة إلى بواطن الموصوفات وطبيعة إحساس الناظرين إليها والمفكرين فيها، وليت شعراءنا الأخصائيين يفطنون إلى ذلك، ولا يعنتون أنفسهم في وصف الأشياء «كأنك تراها» فلا يبلغ من جهدهم في الوصف على هذا الأسلوب إلا أن يمسخوا بطاقات البريد الشمسية التي تعيد المنظر «كأنك تراه»، ولكنها لا تساوي في سوق الفن والتجارة أكثر من مليمين.
أما رأي شوبنهور في وصف الجمال فمبنيٌّ على رأيه في كُنهِ الحياة وما وراء الطبيعة.
فهو يقسِّم الدنيا إلى «فكرة وإرادة» ويقول إن الدنيا «في الفكرة» هي الدنيا المكنونة قبل أن تظهر في حيز الأسباب والقوانين وعلاقات الأشياء بعضها البعض، وأن الدنيا «في الإرادة» هي هذه الدنيا التي نكابد أوصابها وقوانينها، ولا نذوق السرور فيها إلا لسببٍ من الأسباب التي تدور عليها أغراضنا وشهواتنا، ولَمَّا كان سرورنا بالجمال سرورًا بلا سببٍ ولا منفعةٍ فهو من قبيل الفكرة المجردة التي تحسها النفس المجردة، وتنظر إليها كما هي في عالمها المُنزَّه عن الأسباب والعلاقات. والسر في وضوح إحساسات الشباب وجمالها الكمالي هو كما يقول شوبنهور إننا في عهد الصغر نرى «فكرة النوع» وراء صورة الفرد إذ تلوح لنا لأول مرة؛ لأننا نتمثل في كل فردٍ نموذجًا جديدًا لم تسبق لنا معرفةٌ به ولم تظهر لنا أية دلالة أخرى عليه، فالشجرة الأولى التي نراها تمثل لنا فكرة الشجر كله؛ أي نموذج هذا النوع الجديد الذي لا عهد لنا به قبل ذاك، ولا تقتصر على تمثيل شجرة واحدة زائلة كما هو شأنها عند مَن تواردت عليهم مناظر الأشجار الكثيرة؛ «ولهذا نرى فيها الفكرة الأفلاطونية التي هي في الحقيقة جوهر الجمال.»
تلك خلاصة وجيزة جدًّا من رأي شوبنهور في معنى الجمال تُطلِع القارئ على مجمل فلسفته في هذا الباب ولا تُغنيه عن الرجوع إلى مطولاته، فأين نتفق في هذا الرأي وأين نفترق؟ وأين يتساوى القول بأن الجمال «فكرة» والقول بأن الجمال «حرية» ثم أين يتعارضان؟ يتساويان حين نذكر أن «الفكرة» في رأي شوبنهور لا بد أن تكون بعيدة عن عالم الأسباب والضرورات، ومن ثم لا بد أن تكون مطلقة من أَسْر الأسباب والضرورات، ويتعارضان حين نذكر أن الحرية لا تكون بغير إرادةٍ، وأن شوبنهور يُخرِج الجمال كله من عالم «الإرادة المسببة» إلى عالم «الفكرة» المجردة.
وما الذي يرجح القول بأن الجمال «حرية» على القول بأن الجمال «فكرة» بعيدة عن عالم الإرادة؟ يرجحه أن الجمال يتفاوت في نفوسنا ويتفاضل في مقاييس أفكارنا، ولو كان المعوَّل على إدراك «الفكرة» وحدها في تقدير الجمال لوجب أن تكون الأشياء كلها جميلة على حدٍّ سواء.
ونوضح ذلك فنقول: لو كانت الشجرة جميلة لأنها فكرة «فقط» لما كان هنالك داعٍ لتفضيل فكرة الإنسان على فكرة الشجرة، ولا صَحَّ لنا أن نزعم أن الناس أجمل من الأشجار، ولكننا نعلم أن فكرة الإنسان غير فكرة الشجرة، وأن الفكرتين تتفاضلان في تقدير الجمال، ولا بد أن يكون تفاضلهما بمزيةٍ أخرى، فما هي تلك المزية الأخرى؟!
هي الحرية؛ فالإنسان أوفر من الشجرة نصيبًا من الحرية، ولذلك هو أجمل منها وأرفع في درجات الكمال، وكذلك تتفاوت «الفكرات» فلا يغنينا القول بأن الجمالَ فكرةٌ عن القول بأن الحرية هي المعنى الجميل في الفكرة أو هي التي تهب الفكرة ما فيها من الجمال.
ويقرر شوبنهور أن المادة الصمَّاء لا جمال فيها ولا أُنس لديها وأنها تقبِض الصدر وتثقل على الطبع، فلِمَ كانت كذلك؟ ألأنها عارية عن الفكرة؟ كلا، فما من شيءٍ محسوسٍ إلا له فكرة مكنونة في رأي شوبنهور، ولكنها تقبض الصدر وتثقل على الطبع؛ لأنها تُمثِّل الركود والجمود أو تُمثِّل التجرد من الإرادة والحرمان من الحرية والخضوع المطلق للقانون والضرورة، وقد ذكر شوبنهور نفسه بعض هذه العلة، وقال «إن الحزن الذي تبعثه المادة «غير العضوية» في نفوسنا آتٍ من أن هذه المادة تطيع قانون «الجذب» طاعةً تامةً في حيث تتجه الأشياء، أما النبات فإن منظره يشرح صدورنا ويسرَّنا سرورًا كبيرًا يزداد في نفوسنا كلما تُرِك وشأنه؛ وسبب ذلك أن قانون الجذب يبدو لنا كالمُعطَّل في عالم النبات، لأنه يتجه إلى خلاف الجهة التي يجذبه إليها ذلك القانون، وهنا تتخذ ظاهرة الحياة لنفسها طبقة جديدة عالية بين طبقات الموجودات ننتمي نحن إليها، وتتصل هي بنا ويقوم عليها عنصر وجودنا فترتاح إليها قلوبنا وتَهشُّ لها طبائعنا، وأول ما يسرنا في منظر النبات استقامته وانتصابه ويزداد منظره بهجةً إذا بسق من بين الأجمَّة المُلتفَّة سرحتان عاليتان في الفضاء، وقد سُمَّيت شجرة الصفصاف بالباكية؛ لأن فروعها تتدلى إلى الأرض، وتنحني فتُطيع قانون الجذب بذلك الانحناء.»
وإلى هنا يسبق إلى ظنك أن شوبنهور سيخلص من هذا القول إلى نتيجته القريبة؛ فيقول إن الأشياء تحزننا بما فيها من معاني الخضوع، وتُفرحِنا بما فيها من معاني الحرية، أو إنها تُحرِّكنا كلما قَلَّ نصيبها من الإرادة وتفرحنا كلما عَظُم نصيبها من هذه الصفة، ولكنه يَدَع هذه النتيجة القريبة إلى نتيجةٍ أخرى لا تؤدي إليها، هي أن الأشياء تُحزننا كلما ابتعدت عن عالم الفكرة واقتربت من عالم الإرادة، وأنها تُفرحنا كلما ابتعدت من عالم الإرادة واقتربت من عالم الفكرة، فيمشي مع «الحرية» شوطًا بعيدًا في وسط الطريق، ولكنه يفترق عنها في مبدئه ومنتهاه.
•••
ولعلنا بعد إذ بيَّنا أن الآداب والفنون هي أسمى مطالع الحرية وأصدق تراجمها نكون قد بيَّنا أيضًا أن الأمم المغلوبة تنشد الاستقلال حين تنشد الجمال، ولا تختلس من رسالة الحرية وقتًا تنفقه في رسالة الآداب والفنون.