أصل الجمال في نظر العلم
أَلْمَمْنا في المقال السابق برأي أحد الفلاسفة في أصل الجمال، ونريد الآن أن نُلِمُّ برأي بعض العلماء في هذا الموضوع أو بالرأي الذي يراه العلم أقرب من غيره إلى تعليل أصل الجمال وسر الشعور به، وخلاصته أن الجمال وليد الغريزة الجنسية وعنوان أهواء التناسل، أو الرغبة في حفظ النوع، كما يسمونها في اصطلاح النشوئيين.
يقول ماكس نوردو: «كلُّ أثرٍ ينبه في الدماغ — بأي شكلٍ من الأشكال — مركز التناسل، سواء أكان هذا التنبيه مباشرًا أو آتيًا من تداعي الفكر وتساوق الخواطر فهو الأثر الجميل، وصورة الجمال الأول في نظر الرجل هي المرأة في سن النضج الجنسي والاستعداد لتجديد النسل؛ أي المرأة في عنفوان الشباب والصحة؛ ففي محضر هذه المرأة يختلج مركز الغريزة النوعية من نفس الرجل بأقوى الإحساسات وأشد الخواطر وتُثير رؤية «الظاهرة» وتصورها عنده أقوى بواعث السرور التي يمكن أن تستفاد من مجرد النظر أو التصور، وقد تعوَّد الطبع أن يقرن بين صورة المرأة وفكرة الجمال؛ فيُغريه السرور الذي يستمده من ذلك بأن يصوِّر كل ما يروقه أو يرى فيه معنًى من معاني الجمال في صورة امرأة، فالأمة والشهرة والصداقة والمحبة والحكمة وغيرها وغيرها إنما تُمثَّل للحواس في هيئةٍ مؤنثةٍ، ولكن لا أثر لكل ذلك فيما تدركه المرأة وتتصوره؛ لأن رؤية شخصٍ من جنسها لا تحرك بأي شكلٍ من الأشكال مركز النسل من غريزتها، ولا تجد المَثَلَ الأعلى من الجمال إلا في الرجل.
أما ما يُشاهَد من أن المرأة تكاد تقيس الجمال كله بمقياس الرجل؛ فسببه أن الرجل لتفوقه عليها في القوة يستطيع أن يوحي إليها برأيه، وأن يسيطر على أفكارها التي تخالف فكره، ومع هذا نرى في الواقع فكرة الجمال عند الجنسين تتقارب ولا تتماثل كل التماثل، ولو أُتيحَت للمرأة القدرة على الاستقلال بالنظر وتحليل ما تشعر به ووصف ما يدور بوجدانها لأثبتت منذ زمنٍ بعيدٍ أن مذهبها في الجمال يختلف من وجوهٍ أساسيةٍ شتَّى عن مذهب الرجل فيه.»
وهذا الرأي الذي أَجْمَلَهُ ماكس نوردو هو رأي الكافة من العلماء الأطباء الباحثين في المسائل الجنسية، وهو المُعوَّل عليه عند جمهورهم في تفسير ذوق الجمال والشغف بالفنون، فلا تفسير عندهم للفن والجمال إلا أنه ميل مثقف من ميول الغريزة الجنسية ولا مكان للجمال في العالم — على هذا القول — إن لم ننظر إلى الحياة بعين الرجل الذي يشتهي الأنثى أو بعين الأنثى التي تشتهي الرجل، ولا سبيل — على هذا — إلى التحقق من أن الجمال شيء مستقل عن العاطفة الجنسية إلا على شرطٍ واحدٍ هو أن يكره الرجال النساء وأن يكره النساء الرجال … وأن تمتنع بينهم الصلة التي تُنشِيء النسل وتبعث الحب، ثم ننظر بعد ذلك إلى الدنيا فإن رأينا فيها صورةً جميلةً فهنالك «فقط» يحقُّ لنا أن نقول إن الجمال شيء والعاطفة الجنسية شيء آخر، وأن ليس حب الرجل المرأة أو حب المرأة الرجل هو أصل الجمال في كل ما اشتملت عليه الحياة! وأنت تعلم أن هذا الشرط غير ميسور ولا معقول، فلم يبقَ لك إلا أن تُسلِّم بأن الحياة نفسها لا جمال فيها وإنما يأتيها الجمال من الواسطة التي تؤدي إليها … أي من العلاقة بين الذكر والأنثى، ولم يبقَ لك إلا أن تُسلِّم بأننا لم نُعْطَ الحياة لنشعر فيها بالجمال بل أُعطِينا الجمال لكي نلد الأحياء البعيدين عنَّا ليس إلا! ولم يبقَ لك إلا أن تُسلِّم بأن النظر بطبيعته لا بد أن يرى الأشياء كلها دميمة شائهة … إلا إذا كان نظر «ذكر» أو نظر «أنثى» فعندئذٍ يجوز له أن يرى الدميم جميلًا والشائه قويمًا، ويسوَّغ له التمييز بين الصور والألوان والمعاني والخواطر التي تفرق بينها الفوارق وتختلف فيها الأوضاع والأوصاف …! فهل علمتَ الآن إلى أين يذهب منطق العلماء الذين يحصرون المعرفة والإدراك في المعامل والأرقام ولا يسمحون للفكر ولا للإحساس أن يخطو خطوة وراء التشريح والتحليل؟ وهل علمتَ الآن قيمة الحياة عند هؤلاء العلماء الذين لا يجعلون للحياة نفسها قيمة، وإنما يجعلون القيمة كل القيمة لأن تتولد الحياة من اختلاف جنسين وأن تنشأ من اجتماع حيين منفصلين؟
إن الغريزة الجنسية — لا ريب — من أقوى غرائز النفس وأعمقها وأكثرها تفرعًا وتوزعًا في جوانب الإحساس ودخائل التفكير، وإنها ولا جدال على اتصالٍ وثيقٍ بشعور الجمال ومطالب الفنون لا تراها منعزلة عنها فيما ينظمه الشعراء ويمثله المصورون ويغنيه المنشدون، ولكن ليس معنى ذلك أنها هي أصل كل شعورٍ بالجمال، وأن الحياة نفسها لا جمال لها إلا من حيث إنها علاقة بين ذكرٍ وأنثى ووسيلة لإعطاء الحياة لمخلوقٍ جديدٍ، فإن الحياة غاية الغريزة الجنسية وليست هي الجسر الذي نعبره إلى الحب والجمال، فإن كانت الحياة في ذاتها خلوًّا من معنى جميل أو مقضيًّا عليها بالحرمان من رؤية الكون في هيئة تسرُّها وتُرضِيها وتوسع لها من أكناف الأمل وتضاعف لها من بهجة الوجود، فأي شيءٍ يزيد عليها من انقسام الأحياء إلى قسمين؟ ثم ما فضل البقاء المشوَّه الذي تتوسل إليه باختلاف ذينك القسمين أو ذينك الجنسين؟
أما أننا نصوِّر الأمة والشهرة والصداقة والمحبة والحكمة وغيرها في صورةٍ مؤنثةٍ فإنما يدل على أن للجمال في أذهاننا معاني كثيرة غير معنى الأنوثة، وأننا نصوِّر تلك المعاني في صورة المرأة لأنها «الشخص المحسوس المحبوب» الذي تَقدرُ الفنون على إبرازه للعيان، ولولا ذلك لما جاز التشابه بين مثال المعاني في الذهن ومثال المرأة في النظر ما دامت المرأة قد استأثرت بكل صفات الجمال في هذه الحياة.
ويقابل هذا أننا نصوِّر الخواطر القوية في هيئة الرجولة ولا نستخلص من تصويرها كذلك أن العلاقة بين الرجل والمرأة هي أصل كل ما في الحياة من بأسٍ وقوةٍ، وسبب كل ما يتصوره العقل من قدرةٍ ونفاذٍ، على أن تماثيل الرجال في الفن اليوناني والروماني لا تقل عن تماثيل النساء، والإعجاب الفني بجمال جسم الرجل لا ينقص عن الإعجاب الفني بجمال جسم المرأة، فلماذا يعجب الفنانون بأمثلة الجمال في أجسام الرجال إن كان في غريزتهم أن لا يحبوا الجمال ولا يتخيلوه إلا في أجسام النساء؟! أنقول هنا أيضًا إن المرأة لتفوقها على الرجل في القوة استطاعت أن توحي إليه برأيها وأن تسيطر على أفكاره التي تخالف فكرها؟ أم نقول إن المصورين والممثلين إنما عنوا قديمًا بجمال الرجولة لتعجب به الناظرات من النساء دون الناظرين من الرجال؟ ثم علامَ يدل تصويرنا بعض المعاني المحببة إلى النفس في صور الأطيار والغزلان وما نحا هذا النحو من فصائل الأحياء؟ وعلامَ يدل تمثيلنا المجاعة والقسوة والضغينة والنميمة في هيئة الأنوثة، وليست هي مما يرتبط بالغريزة الجنسية ولا هي مما يخطر على الذهن من قِبَلِ العلاقة بين الرجال والنساء؟ وهل كان من اللازم أن نتخيل جميع المعاني المحبوبة والمكروهة في صور الرجال ليُقَال إن هذا التصور لا يتوقف على غريزة النسل وغرام الذكور بالإناث؟
•••
وفي مشاهدات الحياة كثيرٌ مما يدحض ذلك الرأي ويلفت القائلين به إلى مواطن الزلل فيه، فالغريزة الجنسية مُودَعَة في جميع الأحياء والنبات، ولكن جمال الأشكال والألوان لا يُقسم لها جميعًا ولا يكون حظها من الجمال على قدر حظها من الغريزة الجنسية، والزهرة التي تجتذب الذبابة إليها بألوانها ونقوشها؛ لتنقل منها اللقاح إلى إناثها هي أجمل في شكلها ولونها من تلك الذبابة التي لا تحتاج إلى الألوان والنقوش لتنجذب إلى إناثها، ولو كانت الغريزة الجنسية هي سر التفاتها إلى الألوان والنقوش لوجب أن تطلبها في إناثها قبل أن تطلبها في الأزهار والأنوار.
وقد عرفنا بالخبرة أن أَحَبَّ الناس للجمال هم أرفعهم نفوسًا وأسلمهم أذواقًا وأحسنهم تهذيبًا وأشوقهم إلى المُتَع المعنوية والخِصَال الكريمة، وعرفنا بالخبرة كذلك أن الغريزة الجنسية قد تتم وتقوى في أناسٍ لا حظَّ لهم من رفعة النفس وسلامة الذوق وحُسن التهذيب ومتعة الرُّوح وكرم الخِصَال، ولا يَزيدُ الإنسانُ في حب الجمال والفطنة إليه بنسبة الزيادة في الغريزة الجنسية، ولا يكون نصيبه من النسل بقدر نصيبه من لذة المحاسن الطبيعية والفنية أو قدرته على فهمها وابتكارها، فغريزة التناسل قد توجد بمعزلٍ عن حب الجمال، وحب الجمال قد يوجد بمعزلٍ عن غريزة التناسل، ولا معنى لأن يُقَال إننا نستجمل المرأة لأن غريزة التناسل تسوقنا إليها وتضطرنا إلى حبها؛ إذ لو كان الأمر كذلك لأغنتنا تلك الغريزة عن الجمال، ولأصبحت كلمة «المرأة» مرادفة لكلمة المرأة الجميلة، وأصبح وصف الجمال فضولًا لا يضيف إلى الأنوثة شيئًا من عنده، وإنما الأَوْلَى أن يُقَال إن غريزة التناسل تعجز بمفردها عن سوق الأحياء إليها؛ فتتخذ من الجمال شَرَكًا توقعهم به في أسْرها وتستميلهم به إلى حظيرتها، وكلما عجزت الغريزة عن تنبيه النفس وحضَّها على مؤاتاتها زادت حاجتها إلى معونة الجمال وعَظُم اعتمادها على هذا المدد الغريب عنها، فكأنه الحلوى التي يُكسَى بها الدواء؛ لتشتهيه النفس إذا عجزت المنفعة البحتة عن الترغيب فيه.
•••
ومما لا مراء فيه أن الحب يُرينا من فتنة الحياة ما لا نراه بغيره، وأن جمال المرأة أغلى محاسن هذه الدنيا المشهودة، بَيْدَ أن الحب لا يخلق فتنة الحياة، وليس جمال المرأة هو كل ما في الدنيا من المحاسن، ولكنهما يصبغان الدنيا بهذه الصبغة؛ لأنهما يوقظان القلب ويذكيان الشعور ويبعثان كوامن الوجدان؛ فيتفتح لِمَا حوله ويرى ما لم يكن يراه ويستوعب ما كان يلمحه بطرف العين، ويستحسن ما كان في غفلةٍ عن حُسنه قبل أن تتراءى الدنيا لخواطره في ثوبها الجديد، وكذلك تفعل الخمر حين تركض بالشعور، وتُلهِب الدم فإنما تُري النشوان من المحاسن ما لم يكن يراه في صحوه، وتضاعف إحساسه وعطفه فيشعر بسرور هذا العطف في داخل نفسه، ويشعر في الدنيا ببهجةٍ تخفى على مَن حوله؛ ولذلك قيل إن الحب سُكْر أو إنه ضربٌ من الجنون.
وقد أشرنا إلى أن الغريزة الجنسية وسيلة لا غاية وجزء من الحياة وليست كل ما في الحياة، أما الغاية الحقيقية فهي التمام والبقاء وليست البقاء فحسب؛ لأن الأنواع تتقدم وتجمل ولا تبقى على حالةٍ واحدةٍ، ومتى كان التقدم والتحسن غاية من وراء الغريزة الجنسية فلماذا نحصر الجمال كله في نظرة الجنس إلى الجنس ولماذا نقول إن الجمال تابع لغريزة النوع، ولا نقول إن غريزة النوع تابعة للرغبة في الجمال؟ كيف نعلل أن هناك نوعًا أجمل من نوعٍ آخر إن لم يكن هناك مقياس عام للجمال غير المقياس الذي ينظر به كل نوعٍ إلى نفسه؟ وكيف نعلل الاختلاف بين الأمم العالية والأمم الوضيعة في تذوق محاسن الطبيعة ولذَّات الفنون إن كانت حاسة الجمال مقصورة على غريزة النسل التي قَلَّ أن يمتاز فيها إنسانٌ على إنسانٍ، بل قَلَّ أن يمتاز فيها الإنسان على الحيوان؟ فإن الأمم العالية تدرك من آيات هذا الوجود ما لا تدركه الأمم الوضيعة، ولكنها لا تفضلها في قوة الغريزة الجنسية إن لم نقل إنها دونها في قوة هذه الغريزة، ولا يسعنا — وإن غلونا في جمود العلم — أن نقول إن النظرة النوعية وحدها هي التي تجعل الأوروبي يرى امرأته أجمل منظرًا وأحلى شمائل من الزنجية المتبدية في خرائب خط الاستواء.
ولسنا نخطيء حقائق العلم المقررة إذا قلنا إن «الجمال» هو غاية الحياة وإن الغريزة النوعية هي إحدى وسائله، أو هي أقوى وسائله إلى تلك الغاية، إن هذا لأصدق من القول بأن الفنون الجميلة نزعة جنسية مُحوَّلة عن غايتها كما يزعم الباحثون في المسائل الجنسية من جماعة الأطباء و«النفسيين».
وإن الغريزة النوعية لا تُفهَم إلا على أنها مظهر جسدي للرغبة في التمام والبقاء، وهي هي الرغبة التي يسعى إليها الفن من طريقه فيسبق إليها الغريزة بمراحل لا تعبرها إلا في الزمن الطويل، فالحب والفن يسعيان معًا إلى وجهةٍ واحدة ويتعاونان معًا في المسير في سَننٍ واحد؛ لهذا يشتاق الحب إلى الفن ويشتاق الفن إلى الحب، ولهذا يجوز الشغف بالفن أحيانًا على غريزة النسل فلا يهنأ الفنانون بالنسل الموفق السعيد، ولا ينمو حب الجمال في الفنانين على حساب الغريزة النوعية إلا لأنهما شريكان متكافلان يزيد في أحدهما ما ينقص من الآخر، فلا بأس على هذا المعنى أن نقول إن الغريزة الجنسية هي نزعة فنية ظاهرة في ثوبها الجسدي، وليست النزعة الفنية هي الغريزة الجنسية الحائدة عن الطريق.