في الأساليب
كنتُ أتصفح الرسائل الأدبية التي كان ينشرها «أناتول فرانس» في صحيفة «الطان» فانتهيتُ إلى المناقشة التي دارت بينه وبين شارل موريس على الأدب الحديث وأساليب المستقبل، وفيها يقول بعد كلماتٍ أقتبسها من رسالة ذلك الأديب: «كلما أنعمتُ النظر بدا لي أنه لا جميل إلا السهل؛ فقد فرغتُ من ذوق الغوامض وصِرتُ أرى أن الشاعر أو القاص الذي لا يُعاب هو الذي يتجنب أن يكلِّف قارئه أي تعب ولو كان هيِّنًا، وأن يجشمه أية صعوبة ولو كانت طفيفة، وخيرٌ له أن يفاجيء التفات القارئ، ولا ينتزعه منه انتزاعًا، وأن يحذر التعويل على صبر القراء المطلعين، وأن يعتقد أنه لا يُقرَأ إلا إذا قُريء سهلًا. فللعلم حق الانتباه والتأمل علينا وليس للفنون ذلك الحق؛ لأنها بطبيعتها تسر ولا تفيد، ووظيفتها أن تعجب ولا وظيفة لها غير ذلك، فيجب أن تكون جذابة بغير شرط …» ثم قال: «وهناك فرق بين قصيدة تُغنَّى ومقالة تُكتَب في الهندسة الوصفية، ومن الواجب ألا تكلفنا مسرَّات الفنون أقل مشقة.»
وفي وسعك أن تقول أن أناتول فرانس لم يُبدِ هنا مذهبه في أسلوب الفن وحده، وإنما أبدى مذاهبه في كل شيءٍ من معضلات هذه الحياة التي ينبغي — على رأيه — ألا تكون لها معضلات على الإطلاق؛ فلا يعنينا أن نحس من هذه الحياة خيرًا وراء الظواهر التي تتراءى لنا بنفسها، ولا تفرض علينا أكثر من النظر إليها، وإذا قيل لنا إن في الكون أسرارًا لا يسهل التأدِّي إليها، وإن للنفس أغوارًا لا تطفو على وجه الحروف الأبجدية ولا تطير على ألسنة الشعراء والقٌصَّاص، وإن للجمال معاني محجبة لا تبرز للناس في ثياب الحمام في كل حين، فذلك لا يضيرنا ولا يزحزحنا عن رأينا، ولا يمنعنا أن نتمطى على الكرسي الوثير ونُطبِق أجفاننا الكَسْلَى، وننفث قليلًا من الدخان في الهواء نتبعه بآهةٍ لطيفةٍ تنمُّ عن الذوق المُترَف والطبع الأنيق، ثم نقول: «لا، لا، أي حقٍّ للطبيعة أو للحياة في أن تتعبنا وتُثقِل علينا؟ إنما حقها الوحيد أن تدعنا نتململ قليلًا إذا نحن شئنا أن نتخذ من ذلك دليلًا سهلًا على الرشاقة المدللة والتخنث المحبوب، أما إذا هي أبت أن تعرض علينا محاسنها كلها، ونحن خادرون في بهو السمر فلتذهب بها حيث تشاء ولتحجبها عن الأنظار أو تعرضها على الأشقياء الذين يطيقون فتح الأجفان والسعي على الأقدام …! فإننا لا نرى فرقًا بين الطبيعة والقهرمانة التي ننقدها أجرها على أن تجلو أمامنا كل ما عندها من التحف والمطربات، ونحن في مقاعدنا سادرون بين الأقداح والدخان وألحان التهويم والفتور، وليس من شأن الظرفاء الناعمين أن يشغلوا أنفسهم بمصاعب الحياة أو يسمحوا لخواطرهم الوادعة أن تسألها عن خباياها وأسرارها، وتشاطرها همومها وأشجانها وأن يتألموا وينقبضوا إذا قيل لهم إن الدنيا عبثٌ عابثٌ، وأن يجتهدوا وينقبوا إذا قيل لهم إنها جد خطير مستور المقاصد والغايات. كلا، كلا، فما نحن وما ذاك؟ وما للحياة وللناس تشغلهم بما يشغلها وتمتحن ضمائرهم بما يمتحن ضميرها؟ إنما على الناس واجبٌ واحدٌ هو أن يُسرُّوا وهم نائمون غافلون، وعلى الحياة واجبٌ واحدٌ هو أن تسرهم ولا تتقاضاهم ثمنًا من الفكر أو من الإحساس لذلك السرور، فإن تجاوزت هذا الحد وأبت أن تنقل محاسنها لكل مَن يصفق لها بيديه وهو مستلقٍ على سريره فجزاؤها الإعراض والإهمال، وعليها أن تبحث عن الجن والملائكة لتُريهم ما عندها، أو تُنشيء لها خلقًا جديدًا غير الآدميين تتسلى بهم إلى أن يقبل هؤلاء أن يتنزلوا بعض التنزُّل فيعاملوها بغير ما يعاملون به الخادم التي تحمل لهم المائدة، وتنتظر الأمر على أضعف همسة وأقرب إشارة.»
•••
إننا لا نشوِّه فلسفة أناتول فرانس إذ نصوِّرها في هذه الصورة الهزلية، وإنما نحكي ملامحها على الهيئة التي تستحق بها نصيبها من السخرية والضحك، والحقيقة أن من أسخف السخف أن يُقَال إن مسرَّات الشِّعر والكتابة والفنون عامةً لا تحتاج إلى التأمل والانتباه، وإنها مطالبة بأن تعرض نفسها على الناظرين ليلتفتوا إليها حين يشاءون بلا جهدٍ ولا استعداد.
نعم، إن الجمال سهلٌ معجبٌ، ولكن سهل على مَن؟ وبعد ماذا؟ على الذين يقدِّرونه ويحبونه، وبعد الخبرة والممارسة والتذوق والتهذيب، فليس معنى السهولة في جمال الفنون أنه رخيصٌ مُبَاحٌ لكلِّ مَن يرمقه بجانب عينه، ولا أنه غنيٌّ عن التأمل والتفكير، ولكن معناه أنه سهلٌ سائغٌ لمَن يستعد له استعداده ويبذل فيه ثمنه، وكذلك الثمرة الشهية سهلةٌ سائغةٌ لمَن يشتريها ويغرسها، ولكن ليس معنى ذلك أنها تمطر من السماء أو تطرح على التراب أو تنمو كما ينمو نبات السحر الذي لا يُسقَى ولا يتعهد ولا يُقام عليه بالعلم والاختبار، وإن سهولة الفنون لغالية «صعبة» على مَن يريد الوصول إليها مبتكرًا أو مجتنيًا، بل هي قد تغلو وتصعب حتى تستدعي من التأمل والانتباه ما لا تستدعيه الهندسة الوصفية، وما هو أعضل منها في المعلومات والمعقولات.
ولو كان الغرض من اشتراط السهولة في الجمال أن يكون سهلًا على كل مَن يطلبه بلا تفاوتٍ في الدرجات والمواهب لما كان في الشعر كله قصيدة واحدة جميلة أو حقيقة بأن تُوصَف بالجمال؛ فإن شِعْر شكسبير سهل على بعض القراء ولكنه من الألغاز والمعميات على أناسٍ آخرين، وإن هؤلاء الآخرين قد يطيب لهم شِعر بيرون ولكنه إذا قُرِئ على مَن دونهم في الفطنة والشعور عابوه واستثقلوه أو كابدوا في فهمه الصعوبة التي تنفي صفة الجمال في رأي أناتول فرانس ومَن جرى مجراه، ونسوق الشواهد من شعراء العرب فنقول إن المتنبي مثلًا صعب على مَن يستسهل البحتري، والبحتري صعب على مَن يستسهل الشعراء العذريين، وشِعر الشعراء العذريين صعب على مَن يستسهل ابن معتوق والبهاء زهير، وهكذا إلى أن نهبط إلى طبقةٍ تستصعب شِعر هؤلاء جميعًا، ولا تجد السهولة «الجميلة» إلا في الأزجال الغثة والأناشيد الوضيعة وما في منزلتها من الشعر المبتذل الركيك، فإذا جعلنا السهولة ميزانًا لنا في الفنون، واتخذنا الشيوع عنوانًا على السهولة فقد نتمادى في ذلك حتى يصبح لثغ الأطفال في عُرفنا نماذج البلاغة العليا، ثم تنحدر البلاغة «سفلًا» حتى تنتهي إلى فحول الشعراء وأئمة الكُتَّاب والفصحاء.
•••
فلا بد لنا إذن من التسليم بأن كثيرًا من الشعر والكتابة قد يُوصَف بالجمال، وهو مع ذلك صعب مغلق على طبقاتٍ كثيرةٍ من الناس، وإن أسهل الشعر ربما كان أشيعه وأسيره، ولكن لا يلزم من ذلك أنه هو أبلغه وأقربه إلى الجمال والإتقان، وأن ليست المعاني العامة هي أصدق المعاني وأولاها بأن تنظم في القصيد وتُوصَف في البيان وإلا لحكمنا على كل شعورٍ رفيعٍ يختص به العلية المثقفون بأنه شعورٌ كاذبٌ ومعنى غير صحيح، وأن الشعر الذي يسهل فهمه على سواد الناس ربما كان أسعد حظًّا من الشعر الذي يفهمه النخبة القليلون، ولكنه لا يكون من أجل ذلك أجود عنصرًا ولا أحق بالإصغاء والإنشاد.
وإنما تُمدَح السهولة في الأدب ثم تدل على النبوغ والمقدرة إذا أدى بها الأديب المعاني التي يؤديها غيرُه بمشقةٍ واعتسافٍ، أما إذا ضرب صفحًا عن تلك المعاني، فلم يشعر بها ولم يعالج نظمها وتصويرها وتعدادها إلى غيرها مما لا يصعب نظمه وتصويره فأي فضل له في سهولته وأي مقدرة له في اجتناب المأزق الذي تُختبر به المقدرة وتُستبرأ به الدعوى؟! ذلك كالرجل الهزيل الذي يبصر الجبار الضليع يرفع الصخرة من الأرض، ويسير بها الهوينا وهو يتصبب عرقًا ويتماسك جهدًا، فيقول: لا، حاشاي أن أتصبب مثله عرقًا أو أتماسك جهدًا، إنني لأربأ بنفسي عن ذاك، إنني لأرفع هذه الحصاة من الأرض، وأعدو بها أمامه وهو محني الظهر متئد في مشيته وأنا منتصب القامة خفيف القدمين!
بيد أن السهولة لا تجد لها نصيرًا أسوأ من أولئك الذين يجعلونها وحدها أساس البلاغة ومحورها، ويقولون إنها هي دون المعنى كل ما يطلب من الشعر الرائق والنثر المستعذب، ويوردون على ذلك أبياتًا اتفقت الأذواق على استحسناها والإعجاب بها، ولكنها في زعمهم خَلَتْ من المعاني ولا فضل فيها لغير «الصياغة اللفظية» وطلاوة العبارة، وأشهر ما يوردون من ذلك قول كثير:
أو قول العتابي في وداع جارية:
والقطعتان ولا ريب من أعذب الشعر وأسلسه وهما كذلك خلو مما تعوَّد النقاد أن يسموه ﺑ «المعاني» في الشعر، ولكنا لا نقول مع القائلين إنها طلاوة لفظية ليس إلا … ولسنا نحسب الفضل في استحسانهما للحروف والكلمات كما يحسبون، فإن في الشعر شيئًا غير الألفاظ و«المعاني» الذهنية، وهو «الصور» الخيالية وما تنطوي عليه من دواعي الشعور، وأبيات هاتين القطعتين حافلة بتلك الصور التي تتوارد على الخيال كما تتوارد المناظر للعين في الصور المتحركة، فيكاد القارئ ينسى كلماتها وحروفها وهو ينشدها لما يستشفه فيها من الأخيلة المتلاحقة وما يصحبها من الخواطر الحية المتساوقة، ولو أن الأبيات الأولى نُقِلَت إلى اللوحة لملأت فراغًا من الشريط المُصوَّر لا يملأه أضعافها من قصائد «المعاني» وقصص الوقائع؛ لأنها تنقل لك صور الحجيج غادين رائحين يجمعون متاعهم ويشدون رواحلهم، ويحثهم الشوق إلى أوطانهم بعد أن قضوا فريضتهم التي فارقوا من أجلها ديارهم وأصحابهم، ثم تنقل لك صور البطحاء تعلوا فيها أعناق الإبل، وتسفل وتنساب أحيانًا كما تنساب الأمواج كَرَّةً بعد كَرَّةٍ وفوجًا بعد فوجٍ، ثم تنقل إليك في المنظر نفسه صور الركبان أقبل بعضهم على بعضٍ جماعات جماعات يتجاذبون أطرافًا من الحديث، ويتطارحون آلافًا من الروايات والأنباء ويذهبون في ذلك كل مذهبٍ تلم به الأذهان في حشدٍ كثيرٍ مختلف الأوطان والأعمار متباين التجارب والأطوار، ثم تنقل إليك صورة القائل وما في نفسه من الشجن واللوعة وما يحركه من ذاك إلى التسلي بالحديث واللياذ بغمار الناس، ولا تفوتك من تلك الصورة قصة كاملة تنبئك عنها «القلوب المنضجات القرائح.» وتدل عليها رائحة السآمة التي تنسم عليك من قوله: «ومسح بالأركان مَن هو ماسح.» كأنما تمسيح الأركان لم يكن همه الذي يعنيه من تلك الرحلة، وكأنه كان يتوسل به إلى مأربٍ يشغله عن الأركان ومَن يمسحها من الماسحين، وإلى جانب هذه المناظر والخواطر حواشٍ شتَّى يضيفها الخيال وتُمليها البديهة، فإذا أنت من الأبيات الخمسة في وادٍ يموج بالمشاهد ويتتابع بدواعي الشعور، وفي ذلك على ما نرى شيء غير اللفظ السهل الذي يحسب قوم من النقاد أنه كل ما في هذه الأبيات من فضيلة الجودة ومزية الإعجاب.
أما أبيات العتابي فتروي لك قصة وافية من موقف وداع بين فتاةٍ غريرةٍ لا عهد لها بشدائد الأيام، ولا صبر لها على مصانعة الحوادث، ورجل مستسلم للخطوب عنده من لوعة الفراق مثل ما عندها ولكنه يُسرِّي عنها، ويخفِض من جأشها ويريد أن يحمل على كاهله وحده مصيبتها بفراقه ومصيبته بفراقها، فيعوذ بالصبر حينًا وبالحكمة أحيانًا ويستجمع لهذا الموقف كل ما أفادته التجارب من العِبَر وما علَّمته الصروف من التجمل، ثم يغلبه لاعج الهم، ويضيق به التأسِّي فلا يكفيه منه أن الناس يفترقون في الحياة ويلتقون، ولا يرضيه أن العشاق يتمتعون بالصفاء ويحرمون، بل يذهب إلى التأسِّي بفراق المنايا، بل إلى ذلك القضاء الأبدي الذي يضرب بين الفرقدين بسهمه وإن أملى لهما في البقاء ومد لهما في آماد اللقاء، وحول ذلك الموقف تاريخ نفسين يجول الخيال من ماضيهما القرير، وحاضرهما الأليم، ومستقبلهما المريب في مسرحٍ يتعاقب عليه الحب والصفو والأمل والشجو واليأس والعذاب، وكل ما يحيك بالنفس ويدور بالخَلَدِ من ضروب الإحساس والتفكير في هذا المجال، وليس ذلك كله بالبداهة لفظًا بحتًا وكلامًا سهلًا خلا من كل معاني الجمال إلا حلاوة السهولة التي فُتِن بها أناتول فرانس وأمثاله من فلاسفة الأندية الناعسة والكراسي الوثيرة والجمال الذي يشتري هو الناظرين ولا يشتريه الناظرون …!
وفحوى ما تقدم أن الصور الخيالية والمعاني الذهنية هي الأصل في جمال الأساليب في الأدب والفنون، وأن الفنان لا يُطالَب بأن يكون سهلًا لكل إنسانٍ ولا يُقيَّد بالمعاني والخوالج التي يتساوى في التفطن لها والتأثر بها جميع الناس.