المحال
(١) المُحال
-
(أ)
بدايات المُحال.
-
(ب)
مَنشَؤه وتحديدُ طبيعته.
-
(جـ)
نماذج المُحال.
-
(د)
هل سِيزيف سعيد؟
(أ) بدايات المُحال
لم يستمدَّ كامي فكرته عن المُحال من مرجعٍ ولا كتاب. لقد بدأ الإحساسُ «بمُحالية» الوجود الإنساني يتسلَّل إلى قلبه وهو بعدُ طفلٌ صغير. كانت مجموعة من «الصور» الأساسية الواضحة — كما يسمِّيها بنفسه — نبعَت من عالَم طفولته، وعلَّمَته كيف يتجرَّد من الوهم، والتعوُّد، ويواجه لغز الحياة والموت بكل ما فيه من غرابةٍ وقسوةٍ وإعتام. إنه البؤس، والشيخوخة، والصمت، والليلُ الوحيد الطويل يقضيه إلى جانب فراشٍ أم محبوبة ولكن ما أبعدها عنه، ورحلاتُ شابٍّ وحيد بلا مالٍ ولا هدف، وأناسٌ يتحركون كالظلال ويتكلمون ويتعذَّبون، ويكشفون — وإن لم يشعروا هم أنفسُهم بذلك — في حركاتهم وأصواتهم وعذابهم عن العدَم في أنقى صورة.
في لحظات العُري هذه، عندما تختفي كل فكرة نحتمي بها، ويتبدَّد كل سندٍ عقليٍّ نتذرَّع به، ينساب جمالُ الأرض سرًّا إلى النفس كانسياب الموجة، ويردُّ الوجود الإنساني «المُحال» — ولم يكن كامي قد عرف الكلمة بعدُ — إلى العدَم.
(ب) مَنشَؤه وتحديدُ طبيعته
فالشعور بالمُحال شعورٌ مفاجئ، غير مُنتظَر، مجرَّد عن كل عزاء. قد يُباغتنا عند منعطَف شارع، وقد يستولي علينا ونحن نُباشر أكثر أعمالنا اليومية سخفًا. إنه تجربةٌ شخصيةٌ وحيدة، لا سبيل إلى توصيلها للآخرين.
وإذا كان المُحال بوجهٍ عامٍّ هو كل ما أشرنا إليه من عناصر التجربة، فهو بوجهٍ أعم كل ما يخلو من المعنى؛ فالعالم محالٌ، وأنا نفسي أيضًا. أما بالمعنى الضيق فلا العالم هو المُحال ولا أنا نفسي، بل المُحال في العلاقة القائمة بين العالم والإنسان، والتي تربطني بالعالم وتربط العالم بي. هذه العلاقة في جوهرها «مُواجهة» وتقابُل بين الوعي وبين جُدران المُحال التي تحيط به من كل جانب.
(ﺟ) نماذج المُحال
كيف يتأتى لسيزيف أن ينتزع قيمًا جديدةً من عالمٍ سُلب من كل قيمةٍ ومعنًى، بل يُصرُّ هو نفسه على أن ينكر عليه كل قيمة ومعنًى؟
لا بد للإجابة على هذا السؤال من الإشارة إلى أمرَين يلعبان دورًا هامًّا في تفكير كامي.
إن نماذج المُحال تضرب لنا مثلًا على «أخلاق المُحال»؛ فالممثل الهَزْلي الذي يلبس حيواتٍ مختلفةً وتتجسد فيه إمكانياتٌ شتَّى من الوجود، يعطينا المثل على أسبقية الكمِّ على الكيف.
ولكن ما نوع هذا الحب وما طبيعته؟
تحدَّثنا حتى الآن عن الحب على المستوى الفردي. فهل يكون الحب في ظلِّ التواصُل والتضامُن مع الآخرين هو نفس الحب، وهل يكون تصوُّره هو نفس التصوُّر؟ ذلك ما سيُجيبنا عليه الفصل الرابع. أما الآن فإننا نريد أن نشغل أنفسنا قليلًا بسيزيف، سيد أبطال المُحال ورمز الحياة التي يَحيَونها.
«إن علينا أن نتصور سيزيف إنسانًا سعيدًا.» هذه هي العبارة الغريبة التي تُواجهنا في نهاية الفصل الأخير من أسطورة سيزيف، فهل سيزيف إنسانٌ سعيدٌ حقًّا؟ وهل يمكننا أن نتصوَّر أن وراء الملامح العابسة، والجبهة الجامدة، والعرق المتصبِّب، والجهد العقيم الذي لا ينقطع ولا يعرف له أولًا من آخر، قلبًا يستطيع أن يعرف السعادة؟ هذا ما سنُحاول الإجابة عليه. وإن تكن الإجابة على مثل هذا السؤال لا تُشفي ولا تُقنع، بل لعلها قد تُثير أسئلةً أخرى أشد حَيرة وعناء.
(د) هل سيزيف سعيد؟
إن في استطاعتنا أن نتصور سيزيف إنسانًا أمينًا وشريفًا.
ولكننا لا نستطيع أن نتصوره إنسانًا سعيدًا.
(٢) أسباب الخروج من المُحال
-
(أ)
الانتحار بالجسد.
-
(ب)
الانتحار الفلسفي.
-
(جـ)
الحرية.
(أ) الانتحار بالجسد
إن كامي يرفض أن يضع أسئلةً ميتافيزيقيةً خالصة؛ فهي في رأيه أسئلةٌ لا حلَّ لها ولا سبيل للإجابة عليها، كما أنها لا تتعدَّى اللعب بالألفاظ، على الأقل من حيث إنها لا تهدِّد وجود سائلها؛ ومن ثمَّ كان احتقاره لجماعة من الفلاسفة والشعراء الذين يمتدحون الانتحار أو يمجِّدون القتل، ولكنهم أجبن أو أرفع من أن يُحوِّلوا أفكارهم إلى أفعال.
السؤال عن معنى الحياة سؤالٌ مأساويٌّ وجادٌ في الوقت نفسه. ولو أننا وقفنا عند جانب المأساة فيه، لكنا في ذلك مثل شوبنهور الذي كان يمتدح الانتحار وهو يجلس إلى مائدته الحافلة بأشهى ألوان الطعام والشراب، ولو اقتصرنا على جانب الحد منه لكنا في ذلك مثل كيركجارد وشيستوف وكافكا ممن يشغلون أنفسهم بالأمل، والأمل قد حرَّمه على نفسه إنسان المُحال. إذن فلا بد لنا من أن نحتفظ بالجانبَين معًا، ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟
(ب) الانتحار الفلسفي
ومع أن كامي يُعلِن إعجابه باكتشاف كيركجارد للمُحال، إلا أنه يرفض النتيجة التي يرتِّبها هو وشيستوف على هذا الاكتشاف، ونعني بها القفزة التي يقوم بها إلى المسيحية، ويأخذ عليه أنه جعل المُحال معبرًا للعالم الآخر، وقدَّم العقل قربانًا على مذبح الدين، وانتزع الأمل من بين مخالب الموت. هذه القفزة التي يقفزها كيركجارد من المُحال إلى «المرحلة» الدينية هي التي يُسمِّيها كامي بالانتحار الفلسفي؛ لأنها تريد أن تعلو على المُحال الذي يريد هو أن يصمُد فيه، وتُنكِر العقل الذي يظل هو وفيًّا له.
وهذا هو نفس الموقف الذي يأخذه كامي على كافكا في مقاله الذي يختتم به أسطورة سيزيف؛ ذلك لأن الطريق الذي يقطعه البطل عند كافكا هو الطريق الذي يسير من الحب الواثق إلى تأليه المُحال. وفي ذلك يقتفي كافكا أثر كيركجارد، ولا يستطيع مثله أن يحيا بغير أمل.
هناك الليل الكوني الذي ينتظر فيه الإنسان أن يتفتَّح الوجود ويتجلَّى له من جديد؛ أي ينتظر من العالي أن يكشف عن وجهه ويمزِّق أستار الظلام.
والحقيقة أن فلسفة ياسبرز التي تضرب بجذورها في فلسفة نيتشه وكيركجارد، وتقوم على أساسٍ من نظرية المعرفة عند كانْت لا بد أن تُثير الحيرة في نفس كاتبٍ فنَّان مثل كامي.
ولكن ما من شيءٍ يجعل هذا الموقف منطقيًّا عند كامي، فلا عجب إذن أن يصفه بأنه قفزة، شأنها في ذلك شأن القفزات الأخرى التي تُحاول أن تفلت من المُحال بدلًا من أن تُواجهه وتتحدَّاه.
من الضروري إذن، لنظل أوفياء للمُحال حريصين في نفس الوقت على إنكاره، أن نبقى داخل جدران المُحال؛ فالخروج منها معناه أننا نقفز «القفزة المميتة»، وأننا نُقدِم بذلك على الانتحار الفلسفي.
-
(١)
الانتحار إذن، سواء أكان جسديًّا أم فلسفيًّا، مَخرجٌ فاسدٌ من أزمة المُحال؛ لأنه باستثناء أحوالٍ نادرة لا يصدُر عن رفضٍ أو تمرد؛ فالأغلب الأعمُّ أن المنتحر يترك هذا العالم مُعزِّيًا نفسه بأنه سيعثُر وراءه على قيمةٍ أو معنًى لم يجدهما فيه. ومعنى هذا، إن جاز لنا في هذا المقام أن نستخدم تصوُّرًا من تصوُّرات علم النفس، أن المنتحر يُقدِم على الانتحار مدفوعًا بخيبة الأمل، ولكن إنسان المُحال إنسانٌ لا يخيب أمله أبدًا؛ لأنه لا يعرف الأمل أصلًا. وإذا كان علينا أن نبحث عن حافزٍ يدفعه على سلوكه هذا، فهو لا شك التحدِّي والعناد défi. في هذا الانتحار إذن نفيٌ للمُحال، وفي الخروج عن العالم نفيٌ لهذا العالم الذي لا نملك سواه. وقد تعلَّمنا أن وفاء الإنسان لقدَره،٨٠ بل عزَّته وشَرفه الميتافيزيقي٨١ يُحتِّمان عليه أن يؤكِّد ذاته في مواجهة المُحال، ويجعلان واجبه في احتمال مُحالية العالم والإصرار على رفضها في آنٍ واحد.
-
(٢)
الانتحار بطبيعته عجزٌ عن الاحتمال، وتخلُّص من الموقف، وهروبٌ من جديَّة السؤال الفلسفيِّ الوحيد الذي بقي للفلسفة أن تسأله٨٢ (هل تستحق الحياة أن نحياها؟) أعني من فعلِ التفلسُف نفسه. ورفض الانتحار معناه أن يُصرَّ الإنسان على ضرورة السؤال، وأن يعيش في إشكالٍ وتساؤلٍ دائمَين هما لبُّ الفلسفة نفسها، وقوامُ الحرية.
-
(٣)
لا الانتحار الفلسفي إذن (وهو تسميةٌ أخرى للأمل) ولا الانتحار الجسدي هما الحلُّ الصحيح الذي يرُاعي معطيات تجربة المُحال؛ فمع الانتحار الفلسفي يختفي موضوع هذه التجربة الرئيسي، وهو المُحال، ومع الانتحار بالجسد يختفي الوعي الذي لا تكون تجربة بدونه، باختفاء الوجود نفسه. في الانتحار الفلسفي يبقى الوعي موجودًا، لكن الأمل يسقُط فجأةً على الأسوار التي اصطدم بها الوعي فتبدو شفَّافة (وكأنه يهوِّن من عذاب السجن المُعتِم الذي آثرنا بمشيئتنا أن نعيش بين جُدرانه). هنالك يصبح اللامعقول شيئًا يمكن تمثُّله أو التجاوُز عنه، وبذلك يختفي اللامعقول نفسه، فإذا سلب الوعي موضوعه تفكَّك وذاب، وارتدَّ إلى الحالة اللاواعية التي تسود حياة كل يومٍ، أو التمَس الراحة في المتعالي (الترانسندنس) أيًّا كان شكله وطبيعته. وفي كلا الحالَين يتخلَّى الإنسان عن الحقيقة الوحيدة الواضحة البيِّنة التي يملكها٨٣ ويخون أشد العذابات تمزيقًا للقلب،٨٤ ونعني به المُحال. إن الانتحار الفلسفي يسوقنا إلى الليل الذي يسوقنا إليه الانتحار الجسدي.٨٥
-
(٤)
رأينا في الصفحات السابقة كيف أن كامي لا يكاد يعتقد في شيءٍ اعتقادَه في حقيقة التجربة الحيَّة المعاشة: «الخطوط الناعمة على هذه التلال، ويد المساء على قلبي المهتاج تعلِّمني أكثر بكثير.»
هذه الأخلاق التي تفرض على الإنسان أن يحيا فيستنفد الحياة، أخلاق الكَم التي تُعنى بالامتلاء والتحقُّق والوجود الجسديِ والتي تُعبر عنها «نماذج المُحال» خيرَ تعبيرٍ هي الآن النتيجة الضرورية المترتبة على الاختيار الذي وقع عليه الإنسان في إجابته على السؤال الأساسي: هل تستحق الحياة أن نحياها أو لا تستحق؟ هذه النتيجة تُعبِّر عنها هذه الكلمات: تُعاش الحياة خيرَ ما تُعاش بمقدار ما تخلو من المعنى.٨٦ هذه «الميتافيزيقا» (إن جاز لنا أن نستخدم هذه الكلمة، معتمدين على أن إلغاء الميتافيزيقا هو في حدِّ ذاته موقفٌ ميتافيزيقي) التي تؤمن بالحاضر المباشر قد قضت على منطق الانتحار القضاءَ الأخير. -
(٥)
ما هو إذن المَخرَج الصحيح من أزمة المُحال؟
في العبارة الأخيرة الجواب عن هذا السؤال. إننا نستطيع الآن أن نُعبر عنه على سبيل المفارقة فنقول: المَخرَج الصحيح من المُحال هو في البقاء في المُحال. وبذلك يكون هذا الحال الصحيح هو الذي يراعي عنصرَي تجربة المُحال ويحافظ على طرفَيها؛ الوعي من ناحية والمُحال من ناحيةٍ أخرى.٨٧إن إجابتنا تكون منطقيةً حقًّا إذا قلنا فيما يتعلق بالانتحار الجسدي: إذا كانت الحياة مجرَّدةً من كل معنًى، فإنني أنتزع حياتي بيدي. ولكن هذه الإجابة لا تتفق مع تجربة المُحال٨٨ لأنها تُلغي أحد طرفَيها ونعني به الوعي. أما فيما يتعلَّق بالانتحار الفلسفي (أو الأمل) فإن من يُقدِم عليه يتهرَّب من المُحال أو اللامعقول ويقفز فوق أسوار المُحال، وكان من واجبه أن يتشبَّث بالحياة بينها.إن المُحال، كما قلنا، يدين بنشأته للتمزُّق والشقاق الديالكتيكي بين الإنسان الذي يسأل والعالَم غير المعقول الذي يصمت فلا يجيب،٨٩ بين الوعي وبين اللامعقول؛ فالمخرج الصحيح من أزمة المُحال لا بد له إذن من أن يُراعي عنصرَي هذه العلاقة الديالكتيكية وأن يتمسَّك بأقصى حدٍّ من التوتر، أعني بالمُحال نفسه.٩٠وإذن فكل مخرجٍ من أزمة المُحال، سواء أكان هو الانتحار الفلسفي أم الانتحار الجسدي، أو كان هو العدَمية المطلقة (التي سنجدها عند كاليجولا) إنما يُلغي المُحال نفسه ويُحطِّم كل أساسٍ تقوم عليه الحياة.
فالحياة في المُحال معناها الحياة في تمرُّدٍ متصل، في مواجهة الإنسان المستمرَّة لظلمته.٩١
(ﺟ) الحرية
رأينا كيف أن مشكلة الانتحار تضعنا في موقف الاختيار الحاسم الذي يطالبنا بأن نُقرر إن كانت الحياة تستحق أن نحياها أو لا تستحق؛ أي إنها تضعنا أمام مشكلة الحرية وجهًا لوجه، حين تضعنا أمام إمكانياتٍ مختلفةٍ علينا أن نختار بينها.
من الواجب علينا قبل أن نناقش مشكلة الحرية أن نبادر بالقول بأن إمكانية الاختيار هذه لا تسبق القرار الحاسم الذي قد نتخذه سبقًا قبليًّا، بل الأولى أنها معطاةٌ مع السؤال نفسه عن الحرية؛ إذ إن القرار هنا ليس رأيًّا نظريًّا بل موقفًا عمليًّا يقتضي منا أن نحيا أو ننزع عنا رداء الحياة.
يرى كامي أن الحرية مطلقة. إنها تنبثق في نفس اللحظة التي يبدأ الإنسان بها وجوده. لا بل هي وجوده نفسه؛ ذلك أنها تقوم على أساسٍ أنطولوجي ليست لدينا به أية خبرةٍ أو تجربة (لم يكن كامي في هذه المرحلة قد وصل بعد إلى تجربة التضامن التي سنتحدَّث عنها فيما بعدُ، والتي سيؤسِّس فيها وجود «الأنا» على وجود «النحن») كما أنها لا تقوم على أساسٍ من وجود الله والإيمان بهذا الوجود؛ إذ ذلك سيؤدِّي به إلى المفارقة التي لا سبيل إلى حلِّها.
(٣) حقائق الجسد
-
(أ)
المعرفة الحسيَّة في «أعراس».
-
(ب)
المعرفة.
-
(جـ)
إستطيقا الخلق بلا صباح.
(أ) المعرفة الحسيَّة في «أعراس»
- (١)
الحضور، أو الواقع الحاضر والمباشر.
- (٢)
السعادة (التي يمكن أن يؤدي إليها نوعٌ من الاتصال في اليأس والعذاب).
- (٣)
الحياة هي القيمة الأولى والأخيرة للحياة.
- (٤)
نقاء القلب والبراءة (وهي واضحةٌ في كل أعمال كامي وبخاصةٍ في أعماله القصصية والمسرحية).
- (٥)
حتمية الموت.
- (٦)
انقطاع الأمل (مما لا يدلُّ بعدُ على اليأس، فالأمل خطيئةٌ تُرتكَب في حق الحياة).
- (٧)
رفض العالم اللامعقول، بغير العزوف عنه (وسنستبدل هذه الكلمة بكلمةٍ أُخرى فيما بعدُ ونَعني بها التمرُّد).
- (٨)
تأكيد محدودية الإنسان (مرسو، بطل قصة الغريب التي سيأتي الحديث عنها، والذي يظل حتى صدور الحكم عليه بالإعدام في مجال الحسية الذي تصفه الأعراس، هو خير تعبيرٍ عن هذه المحدودية الواعية بنفسها).
(ب) المعرفة
ويحرص كامي على ألا يقع في متناقضات المثالية فيعلن أنه لا ينكر الميتافيزيقا ولكنه لا يستطيع أن يتذوق لهما طعمًا، وأن المشكلات الميتافيزيقية لا تهمُّه في قليلٍ أو كثير؛ فلو سأله سائل عن السبب لأجاب بأنها تتجاوز حدود تجربتي الحسيَّة المباشرة كما تتجاوز مَلَكتي الفكرية؛ على أننا لا نستطيع أن نفهم هذا الرفض المُسبَق لكل ميتافيزيقا (وهو الذي لا يعني إلغاءها أو نفيها؛ لأن المرء لا يرفض ما ليس له وجود) حتى نوضِّح موقفه من المعرفة على وجه الإجمال.
- (١)
الحقيقة الوحيدة التي يكشف لنا العقل الواضح المتميِّز عنها هي أن العالم مُحال، ومُحالية العالم هي التي تجعل حياة الإنسان شيئًا جديرًا بأن يُعاش، كما تُضفي عليها العظمة، ولو كان للحياة معنًى لما كانت جديرةً بأن يحياها الإنسان. الحلقة المفرغة هنا واضحة؛ فالعالم من ناحيةٍ لا معنى له لأنني لا أريد أو لا أرجو أن يكون له معنًى، ومن ناحيةٍ أخرى لأن العقل يكشف عن خُلوِّه من كل معنًى.
- (٢) يطالَب الإنسان الذي يعيش في المُحال بالوحدة ويشتاق إلى التجانس والترابُط، فإذا لم يجدهما رأيناه يعزف عنهما ويُعدِّد بذلك ما لم يستطع أن يوحِّده.١٣٩ وهكذا يزيد من تنوُّع الظاهرات،١٤٠ ويُغني من عالَم المعطَيات الحسية. هو إذن يعيش في مجال الظاهرات أو قل إنه لا يريد أن يعيش في مجالٍ سواه، فإذا جاء الآن وأدان العلم والفلسفة وحكَم على منهجهما بالفشل في الوصول إلى أية معرفةٍ حقيقيةٍ لأنهما يتحركان داخل العلاقات التي تؤلِّف بين الظواهر دون أن يؤدِّيا إلى مبدأ موحد، أقول إنه إن فعل ذلك فإنما يُناقِض نفسه بنفسه.
غير أن المُنصف لكامي يستطيع أن يفسِّر هذه المتناقضات وأن يُعفيَه منها. والطريق إلى ذلك هو محاولةُ فهمِ مشكلة المُحال على أساسٍ وجودي-ديالكتيكي لا على أساسٍ من المنطق الصوري.
لقد رأينا في الصفحات السابقة كيف أن المُحال ينشأ عن الشقاق بين العقل الذي يُحاول أن يسأل ويفهم، والعالم الذي يصمُت فلا يُجيب ولا يُبالي، بين شوق الإنسان إلى الوحدة والوضوح وبين التشتُّت واللامعقولية والغموض الذي يكتنف العالم. وكان لا بد لكامي، لكي يُتيح للمُحال أن ينشأ في وضوحٍ وتميُّز عن هذا الشقاق، من أن يُعلن عجز العقل عن معرفةِ ما يقع خلف حدود التجربة الحسيَّة المباشرة، وأن يصف «أسوار المُحال» التي تصطدم بها رغبتنا في الوحدة واشتياقنا إلى الوضوح، وأن يرفض الاعتراف بكل تمذهُبٍ فلسفيٍّ أو علمي؛ فشوقُ الإنسان الذي لا يُروي إلى المطلَق، وسعيُه الذي لا يهدأ نحو المبدأ الواحد الموحَّد، ووعيه بمحدوديته من خلال تجربته الحسية الفردية، عنصران يؤلِّفان طرفَي العلاقة الديالكتيكية التي تحدَّثنا عنها من قبلُ، كما يكوِّنان شرط وجود المُحال. ولا بد للمُحال إذن من أن يقف حائلًا بين الإنسان وبين كل ما هو ميتافيزيقي أو متعالٍ (ترانسندنتي) على وجه الإطلاق.
(ﺟ) إستطيقا الخلق بلا صباح
عالج كامي نظريته الإستيطيقية (أو الجمالية) في فصلَين إضافيَّين؛ أحدهما في كتابة أسطورة سيزيف تحت عنوان «الخَلق المُحال» والأخرى في كتابه «المتمرِّد» تحت عنوان «التمرُّد والفن»؛ هذا إلى كثير من أحاديثه ومقالاته وخطبه، وبخاصة في الجزأَين الأول والثاني من كتابه «حقائق معاصرة» وفي «حديث السويد» الذي ألقاه في العاشر من ديسمبر عام ١٩٥٧م، في استكهولم، بمناسبة الإنعام عليه بجائزة نوبل. ولما كُنا قد قصَرنا أنفسنا في هذا الكتاب على المشكلات الفلسفية وحدَها، ولم نتناول المسائل الأدبية والفنية إلا بقَدْر دلالاتها على الموقف الفلسفي، فإننا لن نستطيع في هذا المقام أن نُفصِّل القول في منزلة الفن من أعمال كامي الأدبية، تاركين ذلك لغيرنا من أصحاب النقد والتحليل الأدبي.
(٤) المُحال نقطة بداية
-
(أ)
المُحال، واللامعقول، واللامعنى.
-
(ب)
المُحال يحتوي على النعم واللا في وقتٍ واحد.
-
(جـ)
ينبغي أن يُفهم فهمًا وجوديًّا-ديالكتيكيًّا.
-
(د)
المُحال لا يزيد على أن يكون نقطة بداية.
(أ) المحال، واللامعقول، واللامعنى
نقول عادة إن شيئًا ما مُحال، ونعني بذلك أنه لا معقول، فهل اللامعقول هو المُحال؟ إن علينا الآن أن نميِّز بين هذَين التصوُّرَين.
ونتحدث كذلك عن المُحال ونقصد به اللامعنى، فهل يدُل التصوران على شيءٍ واحد بالذات؟ لنُحاول أولًا أن نفهم المُحال عن طريق اللامعنى.
ماذا أقصد بقولي إن هذا الشيء أو ذاك لا معنى له؟
إن كامي حين يتحدث عن المعنى يسأل نفسه إن كان من الممكن أن يكون هناك معنًى فيما لا معنى له، وأن يكون في حكمٍ يُقرر ألا معنى هنالك مع ذلك شيء من المعنى. إن المعنى لا يكون للحُكم الإيجابي فحسب، بل إنه يكون كذلك وقبل كل شيءٍ للحكم النافي أو السالب (وتاريخ الديالكتيك من هيراقليط إلى يومنا هذا عامرٌ بالأمثلة التي تؤكِّد القوة الوجودية والمنطقية الكامنة في السلب والعدم، مما لا نستطيع في هذا المجال أن نفصِّل القول فيه)؛ فحُكم كهذا: «العالم لا معنى له، أو العالم مُحال» يمكن أن يكون حكمًا ذا معنًى، وإن كان ينطق بتجرُّد العالم من كل معنًى، إنه يعطينا حكمًا سلبيًّا أو حكمًا نافيًا، وحكم السلب أو النفي يظلُّ حكمًا على كل حالٍ.
وليس من العسير أن نرى كيف أن هذه اللامعنية (إن صحَّت هذه الكلمة!) أو المُحالية لا يمكن أن تكون مطلَقة. إنها تظل تجربةً متعلقة بأولئك الذين ينعدم في نظرهم كل شيءٍ بعد الموت. ولكنها تفقد قيمتها بالنسبة لمن يؤمن بوجود شيءٍ بعد الموت، أو لمن يؤمن بأن الحياة الحقَّة والوجود الحق لا يبدآن إلا بعد أن تنتهي الحياة وينعدم الوجود من هذه الأرض.
أن المُحالية المطلقة تُناقِض نفسها بنفسها.
(ب) المُحال يحتوي على النعم واللا في وقتٍ واحد
وإذا كان المحال، كما قدَّمنا، ينشأ عن صدام بين مطلبٍ عقليٍّ من جانب الوعي أو الوجدان، وبين اللامعقول السائد في العالم، فإن المُحال أبعد الأشياء عن أن يكون هو قانون العقل، بل الأَولى أن يُقال إنه هو فضيحتُه. وليس المُحال هو ما لا يتفق مع العقل والمنطق، بقَدْر ما هو ما يستعصي على الفهم والتفسير. والحق أنه ليس من شيءٍ يستعصي على التفسير ولا من شيءٍ أشد غموضًا وغرابة من وجود كائنٍ يُطالب بالنظام والوحدة والوضوح في عالمٍ خلا من النظام والوحدة والوضوح. وإذا كان كامي يتحدث عن الإنسان المُحال أو العقل المُحال فليس معنى هذا أن الإنسان أو العقل يفكِّر تفكيرًا فاسدًا، بل معناه على العكس من ذلك أن الإنسان أو العقل قد «عرف» المُحال، وأنه قد استيقظ اليقظة التي لا يغفو بعدها وجدانه.
حقًّا إن فلسفة كامي تبدأ، كما قلنا، من السلب أو النفي، ولكننا نخطئ إذا اعتبرنا أن هذه السلبية مطلقةٌ أو رأينا أن هذا النفي نهائي؛ ذلك أن المغالاة في تأكيد الجانب الدرامي من مأساة المُحال يعرِّضنا لخطر نسيان الجانب المُشمِس من تفكير كامي. إن علينا ألا ننسى أبدًا أن المُحال إن كان ظلامًا فالوعي الذي يواجهه نورٌ باهر.
ودائمًا ما يتلازم النور والظل، وتتحد الحياة بالموت، ويتعانق اللا والنعم.
(ﺟ) ينبغي أن يُفهم فهمًا وجوديًّا-ديالكتيكيًّا
هل المُحال عاطفةٌ أو تصوُّر؟
وإذن فلا ينبغي أن نفهم المُحال فهمًا صوريًّا. إن كامي لا يريد أن يحمِّله مضمونًا منطقيًّا أو ميتافيزيقيًّا، بل يريد منَّا أولًا وأخيرًا أن نُجربه ونحياه.
(د) ليس المُحال إلا نقطة بداية
ولقد نتجَت عن ذلك كما قلنا أخلاقٌ جديدة عرفناها بأخلاق الكَم، وشعار للفعل والسلوك يؤكِّد التحدي والعناد، ويقول:" «عش كما لو …» ورفض لكل حلٍّ لمشكلة المُحال عن طريق اللجوء إلى المتعالي في أية صورةٍ من صوره. وهذه النتيجة نفسُها تضعُنا وجهًا لوجه أمام السؤال المُحيِّر: كيف يتسنَّى لفلسفةٍ نافية أن تعيش جنبًا إلى جنبٍ مع أخلاقٍ إيجابية تؤكِّد الحياة وتجعل منها القيمة الوحيدة التي تستحق هذا الاسم؟
كيف تم هذا التطوُّر أو بالأحرى هذا الاتساع في المجال الفكري؟
هذا ما سوف نُحاوِل أن نُجيب عنه في الفصول القادمة.