الانتقال إلى التمرُّد
تمهيد
«العالم جميل، وخارجه لا تُوجد ثمَّة نجاة.»
«العالم، العذاب، الأرض، الأم، الناس، الصحراء، الشرف، البؤس، الصيف، البحر.»
(١) الوعي في التمرُّد المُحال
-
(أ)
الوعي بوجهٍ عام.
-
(ب)
الوعي بالمُحال يفترض وجود التمرُّد.
-
(جـ)
الوعي في قصة «الغريب».
-
(د)
منطق المُحال عند كاليجولا.
(أ) الوعي بوجهٍ عام
- (أ)
أوَّلهما أن نفهم التجربة باعتبارها المتلقَّى من الخارج؛ ذلك أننا نكون هنا بإزاء عيانٍ تجريبي، الإنسان فيه لا يزيد على أن يكون مجرد متلقٍّ سلبيٍّ، تشُده الإحساسات الخالصة إليها وتُغرِقه المدركات الحسية بطوفانها، فالتجربة بهذا المعنى حالةٌ وجدانية.
- (ب)
وثانيهما أن نفهم التجربة على أنها بناءٌ عقلي؛ فنحن هنا نكون بإزاء عيانٍ مثاليٍّ أو رؤيا عقلية ترفع الأشياء — إن صحَّ هذا التعبير — أو تستبعدها، وتُحيل التجربة إلى نشاط عقليٍّ داخلي، فالتجربة بهذا المعنى فعلٌ عقلي.
ولكن ما هو هذا الوعي الذي تحدَّثنا عنه فطال الحديث؟
ولكن كيف يصبح هذا الوعي وعيًا بالمُحال ومن ثَم وعيًا بالتمرُّد؟
(ب) الوعي بالمُحال يفترض التمرُّد
- (١)
الحياة عذابٌ وتمزقٌ، ولكي يُتاح للمُحال أن يحيا، دون الرضا به أو الموافقة عليه، ينبغي أن يبقى الوعي حيًّا. وكان أن رفَض الانتحار رفضًا حاسمًا. وكان الموقف الوحيد الممكن إزاء المُحال هو مواجهته مواجهةً تنبض بالتوتُّر وتفيض بالقلق والتمزُّق.
- (٢) الحرية عنادٌ وتحدٍّ.١٠ هي حرية «كما لو …»١١ وأُفقها الممكِن هو الحاضر، باعتباره الجهة modalité الأساسية للزمن. والنفي الحاسم للأبدية يتحول إلى تجربةٍ وجودية ﺑ «الأبدية الفانية»، أبدية اللحظة العابرة. والوعي بالمُحال يُحرِّر الإنسان من كل خضوعٍ لمعنًى متعالٍ ويُعلِن عُرس زواجه بالعالم. بهذا الوعي يرتبط رفضُ الإنسان لكل متعالٍ (ترانسندنس) ولكل أملٍ فيما هو خالد وباقٍ وراء الزمان.
- (٣) التمرُّد الذي يضع العالم في كل لحظةٍ موضع السؤال، لا لكي يُنكِر هذا العالم أو ينفيَه، بل لكي يزداد له امتلاكًا وبه إحساسًا ويبسط ذراعَيه على التجربة بأكملها.١٢
- (٤) هذا التمرُّد حاضرٌ في تفكير كامي منذ البداية. ولقد رأينا كيف اجتمع الظل والنور واللا والنعم، والنفي والإيجاب، وحب العالم واليأس من فَنائه في وحدةٍ ديالكتيكية متشابكة الأطراف. لقد استطاع أن يقول في «أعراس»: «لستُ أرى ما يمكن أن ينالَه العقم من تمرُّدي، ولكنني أشعر بوضوحٍ بمقدار ما يضيفه إليه ويُثريه به.»١٣ وفي موضعٍ آخر من نفس الكتاب وهو يتحدث عن فلورنسا فيقول إنها أحد الأماكن الأوروبية التي فهم فيها كيف ينعَس الرضا في أعمق أعماق تمرُّده.١٤
وقبل أن نستطرد في هذا الحديث الذي سيأتي تفصيله فيما بعدُ نُحب أن نسأل: ما علاقة المُحال بالتمرُّد؟ هل يستبعد أحدهما الآخر أو يُكمِله وهل يمكن ردُّ أحدهما إلى الآخر؟ وكيف لنا أن نفهم أن التمرُّد كان كامنًا على الدوام في أعماق الشعور بالمُحال؟
لقد رأينا كيف ينشأ المُحال في نهاية المطاف عن وعي بالحد؛ الحد الذي يصطدم به الإنسان فيُضطَر إلى الإحساس بمحدوديته أمام اللامتناهي، بالأسوار الغاشمة المُعتِمة التي يرتطم بها في كل مرةٍ يُحاوِل فيها أن يبحث عن الوحدة والوضوح في عالمٍ يسوده الاضطراب والظلام؛ فالإنسان يعي وجود هذا الحد حين يدرك من ناحيةٍ ما هو بالفعل (غربته في العالم، موته الذي لا مفر منه، علاقته الشخصية الفانية بالموجود، معرفته النسبية الجزئية … إلخ)، ومن ناحيةٍ أخرى ما ليس عليه ولكن يتمنَّى أن يكونه أو يصل إليه (الوحدة، المعرفة الكلية، إلْف العالم، الوضوح … إلخ)، فالمُحال إذن في جوهره هو الوعي الناصع بحدٍّ يفصل بين الإنسان كما هو كائن وبينه كما يشتهي أن يكون؛ أي بين النسبيِّ المحدود، وبين المطلَق الشامل. وعن هذا التناقُض الذي يُفرِّق بين ما هو كائن وبين ما لم يتحقَّق (أو لن يتحقَّق) له كيان، نشأَت ضرورة تحديد «أسوار المُحال». ولقد رأينا كيف أن كل محاولةٍ تهدف إلى الوصول إلى المطلَق محاولةٌ لا تنتهي إلى الإخفاق فحسب، بل إنها أشبه بقفزة المُنتحِر، بل لعلها أن تؤدي كذلك إلى القتل والجريمة (كما يشهد بذلك كاليجولا ومارتا). على الإنسان إذن أن يحيا مع متناقضاته خلف الأسوار، وألا يُحاوِل تجاوُزَها إلى ما وراءها، وأن يقنع بما هو كائن وما يُمكِنه أن يكون. هذه القناعة لا تعني العزوف أو الصدود؛ فالإنسان الذي يفاجئه الإحساس بقدَره المُحال وهو يسير ذات يومٍ على منعطف طريقٍ ليس حتمًا عليه أن يلعن قدَره أو يذوق مرارته. إن كل ما يُحسُّ به هو ظلم هذا القدَر المُحال، وكل ما يملكه هو أن يرفضه؛ فمن طبيعة المُحال ومن أخصِّ خصائصه أن يرفُضه الوعي. وعلى هذا الرفض يقوم التمرُّد، الذي يقوم بدوره على الوعي الناصع بالمُحال وحدوده.
ونعود إلى سؤالنا الأول فنقول إننا لا نستطيع في الواقع أن نفصل التمرُّد عن الوعي الناصع. إنهما معًا يُمثِّلان كُلًّا لا يتجزأ؛ ففي وسعنا أن نقول إن الوعي الناصع بالمُحال يؤدي إلى التمرُّد، وفي وسعنا كذلك أن نقول إن التمرُّد هو الخطوة الحاسمة على الطريق المؤدي إلى الوعي الناصع. ومع ذلك فلا بد من القول بأن هذا التقرير سابقٌ لأوانه. إننا لم نبيِّن بعدُ على التحديد ماهية التمرد الذي نتحدَّث عنه، وسنُحاوِل الآن أن نتحدث عمَّا نُسمِّيه «بالتمرُّد المُحال» تمييزًا له عن التمرُّد الحق الذي سيأتي الكلام عنه بالتفصيل في فصلٍ قادم، فما هو هذا التمرُّد المُحال؟
سنُحاوِل الإجابة على هذا السؤال بتحليلٍ موجزٍ لطبيعة الوعي في قصة «الغريب»، والإشارة إلى ما نُسمِّيه بمنطق المُحال عند كاليجولا، في مسرحية كامي المعروفة بهذا الاسم.
(ﺟ) الوعي في قصة «الغريب»
إن مرسو يتحدث عن نفسه كما لو كان هو «الآخر»، والأنا عنده تصبح كما لو كانت «هو». كل عبارةٍ ينطق بها تقف وحيدةً منفردة، لا تربطها بالعبارة التي تليها علاقةٌ سببية، ولا يجمعها وإياها جامع معنًى أو دلالة؛ إن العبارات أقرب إلى أن تكون إيماءاتٍ حركية من أن تكون وحداتٍ لغوية أو فكرية، إنها تصبح مجموعةً من المشاعر والمُدرَكات المستقلَّة بنفسها، وُضعَت إلى جانب بعضها البعض، لا ينتظمُها نسقٌ فكريٌّ محدد. وبين كل عبارةٍ وأخرى هوَّة من الصمت، والعدم.
إن مرسو يهَب نفسه للتجربة الخالصة، للسعادة التي تمنحها اللحظة المباشرة، وكأنه طفلٌ كبيرٌ يفتح عينَيه لأول مرة على براءة النور، ويفرح من قلبه بعُرس الألوان، ويرتعش لنبض الحياة في كل الموجودات. لقد أُلقي به في عالم لا يعرفه، وحُكم عليه بالحياة في مجتمعٍ لا يفهم لغته، وارتبط مصيره بأناسٍ تبدو له أفكارهم وتصوُّراتهم وعاداتهم شيئًا غريبًا لا يستطيع ولا يريد أن يألفه. إنه يحيا كالغريب بين غُرباء. وهو بالنسبة لنا، نحن الذين نقرأ عنه ونتتبَّع قدَره، إنسانٌ غريبٌ أيضًا، لا نعرف له موضعًا يُناسبه في أنظمتنا الجاهزة من القيم والمعايير. إننا نُحِس بغربته وبراءته في آنٍ واحد، ولكنه إحساسُ يختلط فيه السخط والخوف والرثاء؛ فنحن لا ندري ماذا نفعل إزاء هذا الإنسان المدهش الذي يبدأ من الصفر ويريد ألا يتحوَّل عنه.
والحقُّ أن مرسو إنسانٌ بريءٌ بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنًى. وقمة براءته وتهمته في وقتٍ واحدٍ هي أنه عاش حياته حتى الآن بغير أن يُثير الريبة من ناحيته في نفس إنسان. إن الرصاصة التي تنطلق من مسدسه لتُرديَ الأعرابي قتيلًا هي التي تفتح الأعيُن عليه. هذه الجريمة التي ألقت بها الصُّدَف العمياء في طريقه هي بالنسبة لوكيل النيابة نتيجةٌ لا بداية. لقد سلَّطَت الأضواء على حياته التي قضاها حتى الآن في غير اكتراث، وتُصبِح السيجارةُ التي دخَّنها بغير قصدٍ منه أمام تابوتِ أمه المسجَّاة في ملجأ العجزة، والدموعُ التي لم يذرفها وهم يوارونها التراب، واللحظاتُ القليلة التي تسلَّل فيها النوم إلى جفونه، والفيلمُ الذي شاهدَه في صحبة عشيقته بعد ذلك بأيامٍ قليلة؛ كل ذلك يصبح جريمةً لا يريد أحدٌ أن يغفرها له. لقد كان مرسو إذن مجرمًا عريقًا في الجريمة. وذنبُه الأكبر أنه لم يعتقد في «الذنب» أو لم يفهم له معنًى، وأنه ظلَّ يقف من مواضعات المجتمع وتقاليده موقفَ مَن لا يُبالي بشيء. إنه الآن في نظر المحقِّق والقاضي «وحش» و«عدو للمسيح».
ويظل مرسو يُراقب القضية وكأنهم يحاكمون إنسانًا آخر لا تربطه به صلة. ويظلُّ الوعي بالمُحال راقدًا في نفسه لا يستيقظ. ومع أن هذا الفرد الوحيد يصطدم بالمجتمع، ممثَّلًا في أشخاص المحقق والقضاة والمحلِّفين وقسيس السجن وكل القيم الأخلاقية التي يدافعون عنها من عدالةٍ وواجبٍ وحبٍّ ووفاء … إلخ، فإن هذا الإحساس بالمُحال لا يصل عنده إلى مرحلة الوعي. إن كل كلمة يقولها مرسو تشفُّ عن إحساسٍ وعن صورةٍ وراءها، في حين أن كل كلمةٍ ينطق بها المحقِّق تدُل على معنًى أو تصوُّر أو شكلٍ من أشكال النظام المدنيِّ والاجتماعي. ويبقى مرسو غريبًا أمام نفسه وأمام المجتمع الذي يتهمه ويشدُّه إلى المقصلة.
(د) منطق المُحال عند كاليجولا
كيف السبيل إلى تمييز الممكن عن المستحيل؟
ولكن كاليجولا، على الرغم من كل ما يؤكِّده، لم يَسِر في منطقه المُحال إلى آخر نتائجه؛ فلو فعل لكان لِزامًا عليه أن يُقْدِم على الانتحار. لقد عجز كاليجولا عن تحقيق المستحيل وظل وحيدًا طول حياته؛ لم يلمس القمر ولم يدرك الخلود.
إذن فالوعي الحق بالمُحال، وبالتالي بالتمرد، لم يُشرِق بعدُ عند كاليجولا ولا مارتا ولا مرسو؛ فعلى الرغم من أن مرسو يحيا حياةً «مُحالية» بحتة، حتى ليتمنى قبل أن يُنفَّذ فيه حكم الموت لو أمكنه أن يعود فيحياها مرةً ثانية، وبالرغم من أن مارتا وأمها بعد أن قتلا الأخ والابن يقفان على هاوية المُحال ويثبِّتان أعينهما في أعماقها، وبالرغم كذلك من أن كاليجولا لا يهب عاطفته وحياته كلها للمُحال، فإنهم جميعًا يجعلوننا نُحسُّ بجو المُحال دون الوعي الحقيقي به. حتى سيزيف، الذي يشهد ﺑ «العزَّة الميتافيزيقية» التي تجعل الإنسان يحتمل مُحالية العالم والذي يواجه قدَره الظالم بوجدانٍ ناصع ووعيٍ مضيء، لم يزل محصورًا في دائرة هذا التمرُّد الفردي الذي سمَّيناه بالتمرُّد المُحال. فتمرُّده كُرهٌ للموت وحماسٌ للحياة في وقتٍ واحد، نفيٌ للآلهة وتحدٍّ للمُحال. إنه في وقفته الوحيدة على قمة الجبل الوحيد، لا يجد ملجأً يأوي إليه إلا قرارةَ جرحه، ودفعَه للصخرة إلى قمة الجبل وتركَها تسقط إلى الوادي لكي يدفعَها من جديد، في فعلٍ عابثٍ لا جدوى منه ولا نهاية له. إن سيزيف لا يعرف التمرُّد الحقيقي، الذي هو في جوهره احتجاج على قدَرٍ ظالمٍ غير مفهوم؛ ذلك أنه لا يحتجُّ، بل يحتمل، لا يثور، بل يُعانِد. ووعيه الناصع الذي يجعله يُواجِه المُحال ويتحدَّاه هو الذي يُبرِّر لنا أن نتحدث عن تمرُّده «المُحال» الذي لم يصل بعدُ إلى مستوى التمرُّد الحق.
(٢) الانتقال إلى التمرد
-
(أ)
الوعي في مسرحية «حالة حصار».
-
(ب)
الوعي في رواية «الوباء».
(أ) الوعي في مسرحية «حالة حصار»
تصوِّر هذه المسرحية سكان المدينة الإسبانية كاديز الذين يعيشون حياتهم الطبيعية الخصبة فاقدي الوعي مُسلِّمين بها تسليمًا لا يقبل المناقشة، في ظلِّ نظامٍ تقليديٍّ عاجز لا أثَر له، يمثِّله الحاكم والقاضي والكنيسة. وذات يومٍ يُنشِب الوباء مخالبه في جسد المدينة، فيفرض عليها نظامًا بيروقراطيًّا جامدًا مجرَّدًا كأنه القدَر. ويُحطِّم الوباء حياة المدينة كما حطَّم طغيانُ كاليجولا مدينة روما؛ فيشلُّ الوجدان، ويقتل الحرية والحب والمغامرة. وتصبح العدالة انتقامًا، والحب كُرهًا، والشرف جبنًا، وينقطع تيار الحوار الإنسانيِّ الذي يُعبِّر به البشر عن مخاوفهم وآلامهم، عن أحزانهم وأفراحهم، عن أسئلتهم وأجوبتهم. ويسود حكم الصمت؛ أعني حكم المونولوج. ويظل هذا الحكم سائدًا حتى يتشجَّع الطالب والعاشق الشاب دييجو فيصرخ صرخة الاحتجاج والتمرُّد، وينزع القناع عن وجهه، ويُحرِّر سكان المدينة من خوفهم، وينقذ حبَّه، بعد أن يدفع حياته ثمنًا له.
ليس فقدان الوعي مجرَّد نقصٍ في درجة الوعي بقَدْر ما هو نقص في الوعي بمُحالية العالم وعدَم جدواه. إنه يمثِّل ذلك الأُفق الضبابي الغائم الذي تدور فيه كل المغامرات الميتافيزيقية العدَمية (مثل الانتحار الذي تُقدِم عليه مارتا وأمها، ومثل القتل بالجملة الذي يأمر به كاليجولا وينظِّمه الوباء)؛ ولذلك نستطيع أن نُسمِّي الانتحار، الذي يرفضه كامي في «أسطورة سيزيف» ويُسمِّيه بالهروب والنكوص، نقصًا في الوعي الناصع بالمُحال. إن كل نقصٍ في نصوع الوعي فهو في الوقت نفسه نقصٌ في الوعي الناصع بالمُحال، وبالتالي عقبةٌ تحول دون التمرُّد. إن نصوع الوعي بالمُحال شرطٌ للتمرُّد، كما أن التمرُّد نفسَه شرطٌ لنصوع الوعي.
(ب) الوعي في رواية (الوباء)
رواية الوباء ومسرحية حالة حصار تُصوِّران هذا الانتقال من الأنا إلى النحن، من الفردية إلى التضامُن، ومن التمرُّد المُحال إلى التمرُّد الحقيقي المعتدل. هذا الانتقال لا يحدُث إلا في الوعي والوجدان. وبذلك يتسع مجال الفكر من «أسطورة سيزيف» إلى «التمرُّد»، ومن مشكلة الانتحار إلى مشكلة القتلِ الجمعي، ومن أخلاق الكَم إلى أخلاق الكَيف، ومن نزعةٍ عدمية شاملةٍ شعارها هو كل شيءٍ أو لا شيء إلى نزعةٍ تؤمن بالحد والمقياس، ومن تمردٍ طائشٍ مُحال إلى آخرَ معتدلٍ وفيٍّ لمنبعه الأصيل.
- (١) إن التفكير المُحال وهو يواجه ما لا معنى له يفترض التمرُّد بالضرورة؛ فالحقيقة الأولى، والبيِّنة الوحيدة التي تؤدِّي إليها تجربة المُحال هي التمرُّد.٤٨
- (٢)
الوعي الناصع بالمُحال يبعث على التمرُّد، كما أن التمرُّد يزيد من نصوع الوعي ويؤكِّد شفافيته.
- (٣)
بالوعي يقف الإنسان أمام العالم وجهًا لوجه، كأنهما ضدَّان متقابلان، ويُصبِح الإنسان كائنًا من غير هذا العالم. وكونُه من غير هذا العالم يعني أنه يعلو عليه. هذا العلو لا سبيل إلى فهمه إلا عن طريق التضامُن والديالوج، اللذَين يقوم التمرُّد الحق عليهما، وهو ما سنتعرَّض له في الفصلَين القادمَين.
- (٤)
مسرحيتا «كاليجولا» و«سوء فهم» يُبيِّنان حدود الفكر المُحال وإمكانياته؛ فالذي يؤمن بالمُحالية المُطلقة لا بد أن ينتهي بالضرورة إلى ارتكاب جريمة الانتحار أو جريمة القتل؛ ومن ثَم فالتمرد على مثل هذه المُحالية لا يمكن إلا أن يكون مثلها تمرُّدًا محالًا، ما أبعدَ الفارقَ بينه وبين التمرُّد الحق!
- (٥)
تُثبِت نماذج المُحال التي يسير أشخاصها في سلوكهم وفقًا لمبادئه الأخلاقية، أن الإخلاص للمُحال لا يكفي وحده للوصول إلى التمرُّد الحق؛ فلا بد دون ذلك من وجود فكرة «الآخر» كعنصرٍ جوهريٍّ لا غنى عنه في بناء الوعي، وذلك لكي يتمكَّن الإنسان من العُلوِّ على الفردية والوصول إلى أفقٍ إنسانيٍّ شامل يؤكِّد وجود طبيعةٍ إنسانيةٍ مشتركة يقوم عليها التمرُّد الحق. هذا الانتقال الذي تناولناه في الأعمال الفنية سنُحاوِل الآن أن ندرُسه في التمرُّد نفسه.
وإذا كنا هنا نتحدث عن الوعي فلا نقصد بذلك أن نتناوله وأحواله وخبراته وأحداثه تناولًا سيكولوجيًّا، بل إن قصدنا أن نبيِّن درجات الوضوح المختلفة في حال الوعي، وهي التي تبلُغ ذروة هذا الوضوح فيما يصعب ترجمتُه إلى العربية وقد نسمِّيه بالنصوع Lucidité؛ فسكان مدينتَي أوران وكاديز الذين أصابهم الوباء (وذلك في روايتَي الوباء والحصار) يعيشون في حالةٍ من فقدان الوعي. ولكنهم عن طريق فعل الوعي الذي سنُعبِّر عنه بالتمرُّد (في الحالة الأولى عن طريق الدكتور ريو وتارو وبنسبةٍ أقل عن طريق بانيلو وكوتار، وفي الحالة الثانية عن طريق الطالب دييجو) سيصلون إلى درجةٍ معيَّنةٍ من درجات الوضوح في الوعي، تجعلهم ينتبهون إلى وجود طبيعةٍ إنسانيةٍ يشتركون فيها جميعًا، تُحفِّزهم إلى الدفاع عن «هذا الشيء» الذي يبقى في نفس الإنسان فلا تستطيع أن تمحُوَه يد الظلم والطغيان.