التمرُّد
«الإنسان فانٍ، هذا جائز، ولكننا نريد أن نفنى ونحن نُقاوِم، وألا نُعطيَ للعدم، إن كان ينتظرنا حقًّا، أيَّ مظهرٍ من مظاهر العدالة.»
-
(أ)
بناء التمرد.
-
(ب)
التمرُّد والثورة: التاريخ.
-
(جـ)
الانحراف عن التمرُّد: النعم المطلَقة.
-
(د)
التمرد المعتدل وفكرة الحدِّ والمقياس.
-
(هـ)
إستطيقا التمرد.
-
(و)
تلخيصٌ عام.
(أ) بناء التمرُّد
كان همُّ كامي في أعماله المبكِّرة أن يصور جانبي الظلِّ والنور في الوجود الإنساني وأن يُبِرز مُحاليته على المستوى الفردي. وكانت كرامة الإنسان وعزَّته في احتمال هذه المُحالية، ومواجهتها في تحدٍّ وأمانة وشجاعة. أما مشكلة الموت، ممثلةً في مشكلة الانتحار التي جعل لها الأولوية على سائر المشكلات، فكانت هي التناقُض الممزِّق للقلب الذي انطلق منه فكره الفلسفي كله. وأما الموت الذي تُبرِّره الحُجج العقلية، وتدعمه المذاهب الفلسفية والعقائد الأيديولوجية، ممثلًا في صورة القتل بالجملة، فلم يكن قد التفت إليه بعدُ.
كل هذا قد عرفناه في السطور السابقة.
غير أن الإنسان لا يظل إلى الأبد «غريبًا» في هذا العالم، ولا في مقدوره أن يُغلِق وجدانه دون الاتصال بوجدان الآخرين. وهو حين يموت لا يكون موتُه دائمًا نتيجةَ ضرورةٍ عمياءَ تُحتِّمها الطبيعة أو يُدبِّرها القدَر المُحال. وحين ينتزع الموت حياته لا يكون ذلك نتيجة إرادته الحرة المختارة دائمًا. إن إنسانًا آخر قد يسلبُه وجوده الحق (كما هو الحال في علاقة السيد-بالعبد) فيتركه جثةً تسير على قدمَين، أو يطمس هذا الوجود ويُلغيه إلغاء. والموت قد يُصبِح شرفًا يفتخر به الجلادون، ويُبرِّرونه بالنظريات والمبادئ، وبالأساطير والعقائد المذهبية. ويصبح كذلك من المستحيل تفسيرُ مثل هذا الموت في حدود دائرة المُحال، ومن خلال الأفق الذي تدور فيه مشكلاتُه. إننا الآن نواجه مشكلةً أخرى غير مشكلة الانتحار الذي يُقدِم عليه الفرد فيتحمَّل وحده مسئوليته، ويُقاسي وحده آلامه. إن مشكلة «القتل» تجعلُنا نُواجه موقفًا جديدًا نحتاج معه إلى قيمٍ جديدة.
وهكذا يتبع السؤال الأول: هل يجوز لي أن أقتل نفسي؟ سؤالٌ جديدٌ: هل يجوز لي أن أقتل غيري؟ إن حتمية الموت أو «رياضته الدموية» التي كانت من أهم عناصر التفكير المُحال، لم تعُد هي المشكلة الأساسية التي تشغل الفكر المتمرِّد. إن الناس جميعًا يموتون، وتلك مشكلةٌ لا نملك أن نفعل إزاءها شيئًا. أما أن الناس يُقتلون فتلك مشكلةٌ أخرى، يجب علينا ألا نقف حيالها مكتوفي الأيدي. مشكلة الموت إذن باقية على الحالَين. لم يُقضَ عليها، ولكن اتسعَت دائرتها، ووُضعَت في مجال تجربةٍ إنسانيةٍ أوسع، هي تجربة التمرُّد.
دييجو: نحن أبرياء! البراءة، أيها الجلَّاد، هل تفهم ما هي البراءة؟
ليس التمرُّد مجرَّد احتجاجٍ يقوم به العبد ضد سيده الذي يضطهده، ولا هو مجرَّد الثورة التي يُعلِنها إنسانٌ على من يُنكِر حقَّه في الحرية. إن التمرُّد أعمقُ من ذلك وأكثرُ شمولًا. والحق أن هناك إلى جانب تمرُّد العبد على سيده تمرُّدًا آخر يختلف عنه، وينبغي أن نفصل بينهما فصلًا واضحًا، وإن كان ذلك لا يمنع من القول بأنهما يسيران في خطَّين متوازيَين. ذلك هو «التمرُّد الميتافيزيقي»، فإذا كان العبد يتمرَّد على من يُنكِر عليه قيمةً يعرف الآن أنها مشتركةٌ بينه وبين جميع الناس، فإن الإنسان في التمرُّد الميتافيزيقي إنما يتمرَّد قبل كل شيءٍ على الموت والفَناء الذي قُدِّر عليه بما هو إنسان، على الخليقة كلها وعلى تلك القوة التي يُحمِّلها مسئولية الموت والتعاسة و«فضيحة» المصير الإنساني الذي كُتب عليه أن يلقاه.
هنا يواجهنا السؤال العسير: ما هي علاقة المتمرِّد بالله؟
قلنا الثورة وقلنا التمرُّد، فما الذي نفهمه من هاتَين الكلمتَين؟ وما هو الحد الفاصل بينهما؟ وهل الثورة كما يبدو من العبارة الأخيرة عكس التمرُّد؟ وكيف فقدَت في مسار التاريخ نقاءها وبراءتها؟
لا بد قبل الإجابة على هذه الأسئلة من أن نتَّفق أولًا على معنى «التاريخ» كما يفهمه كامي.
(ب) التمرُّد والثورة: التاريخ
يُكثِر كامي من استخدام كلمة التاريخ في سياق كتابه الكبير «المتمرِّد»، ولكن مفهومه لها يظل غامضًا مُحيرًا في معظم الأحيان؛ لذلك كان من الضروري أن نحاول تحديدها بقَدْر الإمكان.
يردُّ كامي في مواضعَ عديدةٍ من كتابه على نُقَّاده الذين يأخذون عليه أنه رفض التاريخ رفضًا مسبقًا على كل تجربة، ولكنه إن كان لا يرفض التاريخ ولا ينكره فهو على الأقل لا يُعفيه من الاتهام؛ فهو عنده حامل الثورة التاريخية التي تنكَّرَت للتمرُّد الأصيل وحادت عن محجَّته. وقبل أن نوضِّح ذلك بالتفصيل نرى لزامًا علينا أن نتتبَّع مفهومه للتاريخ في أعماله السابقة على المتمرِّد.
إن مفهوم التاريخ يتأرجح معناه بين التاريخية البحتة من ناحية وبين الحتمية التاريخية من ناحيةٍ أخرى، ولكي نوضِّح ذلك يجب علينا أولًا أن نُحاوِل الإجابة على هذا السؤال: ما هي العلاقة بين التمرُّد والزمن؟ ما موقف التمرُّد من هذا الزمن في أبعاده الثلاثة؛ الماضي والحاضر والمستقبل؟
ما هي الآن علاقة التمرُّد بالثورة؟ هل يُكمِّلان بعضهما البعض أو هل يستبعد أحدهما الآخر؟ وإذا صحَّ أن الثورة قد حادت عن منبع التمرُّد الأصيل، وانحرفَت عن قيمها الحقَّة، فما الذي يستطيعه التمرُّد الذي يظل على وفائه لنفسه؟ وماذا يستطيع أن يقدِّمه لنا لكي يفسِّر سلوكَ الإنسان ويُضفيَ عليه معنًى وقيمة؟ هذه كلها أسئلةٌ يجب علينا أن نمتحنها عن كثَب؛ فكامي يتحدث عن الثورة فيبدو من حديثه كأنها هي مسخُ التمرد، بل كأنها الضد المقابل له.
ماذا عسى أن يحدُث للمتمرد الذي يريد أن يجد مخرجًا من هذه المُعضِلة؟ إنه بالضرورة إما أن يعصي مبادئ التمرد أو يضطهد غيره لتحقيق ما يعتقد أنه يوافق تلك المبادئ؛ أعني أنه سيُضطَر في لغة كامي أن يدخل التاريخ المحض. الموظَّف أو رجل البوليس، الجنون أو الاضطهاد، تلك هي المعضلة التي تُواجه الإنسان المتمرِّد وتجعله على الحالَين في تناقُض مع نفسه.
- (١) كل تمرُّد، كما أشرنا إلى ذلك في الصفحات السابقة، فهو في حقيقته شوقٌ إلى البراءة، وكل متمردٍ فهو من ناحية المبدأ إنسانٌ بريء. غير أن الشوق يمدُّ يدَيه ذات يوم فيقبض على السلاح ويحمل الذنب الشامل على كتَفيه؛ أي القتل والعنف والظلم.٣٩
ولقد ظلَّت الثورات التاريخية والثورات الميتافيزيقية، من ثورة العبيد على يد اسبارتاكوس في نهاية العصور القديمة إلى الثورات التي قتلَت الملك والإله على مدى القرنَين الأخيرَين، تتحمل عن عمدٍ ذنبًا ظلَّ يتضخَّم شيئًا فشيئًا بمقدارِ ما كان هدفها في التحرُّر الشامل يزداد يومًا بعد يوم.
- (٢) ما من ثورة إلا وهي ثورةٌ سياسيةٌ تهدف إلى نظامٍ جديدٍ للحكم، وفي هذا تختلف عن التمرد اختلافًا أساسيًّا؛ فبينما التمرد حركةٌ تصدُر عن تجربة الفرد وتؤدي إلى الفكرة، نجد الثورة تبدأ من الفكرة وتحاول أن تُدخلها في التجربة التاريخية وأن تُشكِّل الفعل بما يتفق مع هذه الفكرة حتى تخلق عالمًا جديدًا تضعه في إطارها النظري؛ أي إن التمرد يظل احتجاجًا لا يدخل في مذهبٍ ولا يعرف عقيدة ولا يتذرَّع بمبدأ، ولا يحكُمه الترابُط المنطقي.٤٠
- (٣) المتمرد لا يريد في الأصل سوى أن يكتسب وجوده ويؤكِّده أمام الله،٤١ حتى إذا قامت الثورة التاريخية — ابتداءً من الثورة الفرنسية إلى الثورة الشيوعية الروسية — نسي الأصل، وفقد الصلة التي كانت تربط به، وراح يسعى جاهدًا إلى إقامة المملكة العالمية، وبسط السلطة الشاملة على طريقٍ دامٍ يزدحم بجرائم القتل التي لا حصر لها.
- (٤) يكافح التمرُّد في سعيه إلى «الوحدة السعيدة» ضد الشر والموت، محاولًا تحقيق عدالةٍ ملائمةٍ وحريةٍ ممكنة. أما الثورة التاريخية التي بلغَت ذروتها في القرن العشرين فهي تطالب بالشمول، وتهدف إلى بلوغ مملكةٍ عالميةٍ، تتحقق فيها العدالةُ المستحيلة والحرية التي لا تعرف حدًّا،٤٢ وتكون هي تاج التاريخ وغايته الأخيرة. والسعي إلى الوحدة يحاول أن يصالح بين اللامعقول والمعقول وأن يجمعهما على صعيدٍ واحد، والمطالبة بالشمول تطمس اللامعقول إذ تعتقد أن المعقول وحده يكفيها لكي تغزو العالم.٤٣
ولكن هل يمكن للطريق المُوصل إلى الوحدة أن يمرَّ أولًا بالشمول؟ وهل كان بحث التمرُّد الميتافيزيقي والثورة التاريخية — وهي النتيجة المنطقية التي ترتَّبَت عليه — عن الوحدة بحثًا يتفق مع روح التمرد؟
(ﺟ) الانحراف عن التمرد: اللا المطلقة والنَّعَم المطلقة
- (٥)
اللا المطلقة أو نزعة النفي المطلقة.
- (٦)
النعم المطلقة أو نزعة التأكيد والموافقة المطلقة.
وقبل الحديث عن هاتَين النزعتَين اللتَين تظهران في مراحل التمرُّد الميتافيزيقي والثورة التاريخية نُحب أولًا أن نفرِّق بينهما ونوضِّح ما نقصده بالتمرُّد الميتافيزيقي؛ فقد بدأ التمرُّد الميتافيزيقي يدخل في تاريخ الفكر المعاصر عند نهاية القرن الثامن عشر. ومن الطبيعي أن نُقابله في مرحلةٍ مبكرة، لدى رائد المتمردين جميعًا في كل العصور، ونعني به بروميثيوس؛ فبروميثيوس، مثله مثل الإنسان المتمرد في العصر الحديث، يكافح الموت، ويحمل رسالة، ويثور حبًّا للبشر. غير أن اليونان الذين لم يتطرَّفوا في شيءٍ ولم يكن من طبعهم أن يُثيروا النزاع حبًّا في النزاع، قد جعلوا منه بطلًا، تُغفَر له خطيئته في النهاية. وكلمة البطل نفسها تدُلنا على أنه كان نصفَ إلهٍ اختلف مع الآلهة، والأمر عنده لا يزيد عن كونه مجرد شقاقٍ عائليٍّ يمكن أن يسوِّي في يومٍ من الأيام؛ فقد كانت لليونان تأمُّلاتهم الميتافيزيقية التي تختلف عن تأمُّلاتنا. كانوا يؤمنون بالقدَر، ولكن إيمانهم بالطبيعة التي كانوا يعُدُّون أنفسهم جزءًا منها كان أقوى وأشد؛ ومن ثَم فقد كان التمرُّد على الطبيعة شيئًا مستحيلًا في نظرهم لأنه سينقلب تمرُّدًا على ذواتهم. حقًّا إن اليأس بدأ يعرف طريقه إلى النفس اليونانية في شتاء الفكر اليوناني، ولكن هذا الصَّدع في الانسجام الشامل بين الطبيعة والإنسان لم يظهر إلا في كتابات أبيقور ولوكريس. وما هو إلا قليلٌ حتى ظهرَت بظهور المسيحية فكرةُ الإله الواحد المتشخِّص، الذي يخلِّص بدمه عذاب الإنسان وخطاياه.
فهناك إذن إله العهد القديم المُفزِع في جانب، وهناك إله العهد الجديد الذي حلَّ في جسد إنسانٍ ومات على الصليب. غير أنه يكفي أن تُوضع المسيحية موضع الشك وأن تُثار الريب حول ألوهية المسيح، حتى يصبح يسوع المخدوع بريئًا جديدًا وتنشقَّ الهوة بين السادة والعبيد من جديد. وهكذا يصبح كل شيء معدًّا لهجومٍ عاصفٍ عظيم على سماءٍ معادية للإنسان؛ هذا الهجوم هو الذي يتتبَّعه كامي في مراحله الثلاثة التي سنقف عندها فيما بعدُ بالتفصيل، ونعني بها اللا المطلقة أو النفي المطلق، ورفض النجاة، والنعم المطلقة أو نزعة التأكيد المطلق. ولكل مرحلةٍ منها بطلها ورائدها؛ صاد، وإيفان كرامازوف، ونيتشه.
أولًا: اللا المطلقة أو النفي المطلق
يُعَد المركيز دي صاد والحركة الرومانتيكية مَثلَين جيدَين على هذه النزعة. إن الطبيعة الإنسانية تُلغى فيهما، والإنسان ينحطُّ حتى يصبح موضوعًا للتجربة والمحاولة؛ ومن ثَم كان تطرُّف التمرُّد وخروجه عن كل حدٍّ فيهما. إن «صاد» يريد أن يؤسس الحرية الكاملة على سُعار الشهوة والغريزة، ولذلك فهو لا يستطيع أن يحقِّق تمرده إلا بالنفي المطلق للواقع بأَسْره. وكما كان كاليجولا يأمُر بقتل الناس لكي يُتاح له في رأيه أن يمتلكهم كل الامتلاك، وينظِّم بذلك ما يمكن أن نسمِّيه بالانتحار الجماعي، فإن الحرية الشاملة التي تنطلق فيها الغرائز عند «صاد» تصبح نوعًا من التدمير الشامل، وتنتهي حتمًا إلى القتل. وكاليجولا وصاد، على اختلاف الدافع والغاية بينهما، قد سارا مع منطق التمرُّد المُحال إلى نهايته، واستخلصا منه أقصى نتائجه. كلاهما قد سعى في تمرُّده الجامح نحو الشمول بدلًا من أن يطلب الوحدة.
ومن المعلوم عن المركيز دي صاد أنه ليس بالكاتب ولا بالفيلسوف ذي المكانة المرموقة. ولعل مرجع شهرته إلى أنه قضى بين جدران السجن سبعة وعشرين عامًا. هذا السجن الطويل هو الذي يفسِّر أعماله؛ إنها صخرةٌ وحيدةٌ تُطلِقها الطبيعة، صرخة الدافع الجنسي، الذي أثاره السجن الطويل وكبَتَه وعاقبَه. إنها تُنكِر وجود الله كما تنفي وجود الأخلاق، وتطالب الإنسان بأن يذهب في المتعة والامتلاك الكامل إلى حدود التدمير الشامل الرهيب. الطبيعة عنده هي الجنس. وهذا المنطق يدفع به إلى عالمٍ عاطلٍ من القانون، تتحكَّم فيه طاقة الشهوة وحدها. إنه عالم الحرية المطلقة من كل قيد، طُردَت الفضيلة منه بغير عودة؛ ومن ثَم فالحرية هي الجريمة، وإلا فليست حرية على الإطلاق. وضرورة الجريمة تتطلب ضرورة التنظيم، وتدفع صاد إلى تخيُّل أماكن مغلَقة «قلاعًا تحوطُها الأسوار سبع مرات» يستطيع فيه المجتمع الجديد، مجتمع الشهوة والجريمة، أن يلبِّي صيحة الطبيعة طبقًا لنظامٍ قاسٍ مرير. إنه على العكس من روسُّو وأصحابه من الجمهوريين «الفاضلين» في عصره يكشف عن نزعة الشر الطبيعية في الإنسان، ويصبُّها في قالب القوانين. هو إذن الإلحاد الخالص، الرغبة المدمِّرة التي جعلَت شعارها «كل شيءٍ مُباح». غير أن أديرة الرذيلة التي تجلدُ فيها الشهوةُ أجسادَ البشر، والتي يصبح عبدُ اللذة حاكمها المطلَق وإلهها الأوحد، لم تلبث أن اصطدَمَت بالتناقض الكامن في ذاتها، وتحوَّلَت إلى أديرة للرهبنة الحزينة، والعفَّة اليائسة الممسوخة. ولم يلبث السجين العجوز المخبول، الذي ظلَّ يحلُم بعالمٍ يسجُد للذة، أن راح يحلُم بالكارثة الدموية التي تَسحَق هذا العالم، ويعيش أيامه الأخيرة كالممثل الهزلي المجنون الذي لا يسلِّي غير المجانين.
ثانيًا: النعم المطلَقة أو التأكيد المطلَق
وإذا كان الله قد مات بظهور نيتشه فقد وضع شتيرنر من قبلُ بكتابه «الفرد وملكيته» (الذي ظهر في عام ١٨٤٥م) أساس العدَمية الشاملة، وبدأ يسير في المتاهة التي ينبغي الآن عبورها، ويكشف عن الفراغ المفزِع الذي ينبغي الآن أن يُملأ بقانونٍ جديد.
كان شتيرنر يريد أن يُميت في الإنسان كل فكرةٍ عن الله. ولم يُكافِح الله وحده، بل كافح مادية فويرباخ، والروح المطلقة عند هيجل، وتجسُّدها التاريخي؛ أي الدولة. كل هذه الأصنام قد وُلدت في رأيه من «نزعةٍ منغولية» واحدة. وهي الاعتقاد في الأفكار الأبدية الخالدة؛ ومن ثَم فقد استطاع أن يكتب فيقول: «لقد أقمت قضيتي على العدم.» إن الله بالنسبة إليه هو العدو الأول. وهو يذهب في التجديف إلى أبعدِ حدٍّ ممكن: «ابتلِع الوحش، وبذلك تتخلَّص منه.» ولكن الله ليس إلا إحدى المظاهر الأجنبية للأنا. سقراط، ويسوع، وديكارت، وهيجل، كل الفلاسفة والأنبياء لم يزيدوا عن اختراع صورٍ مختلفةٍ من المظاهر الأجنبية عن هذه الأنا التي تكوِّن وجودي، والتي لا تستطيع الأسماء أن تسمِّيها، لأنها شيءٌ فريدٌ ووحيد. وليس تاريخ العالم إلا انتهاكًا مُتصلًا لهذا المبدأ الوحيد، المتجسِّد، الحي، الذي يكوِّن وجود الأنا لديَّ، مبدأ الانتصار الذي أرادوا له أن يخضع تحت نِير التجريدات المتعاقبة، سواءٌ أكانت هي الله، أو الدولة، أو المجتمع، أو الإنسانية، أو ما شاءوا لها من أسماء. الأبدية كلها كذبةٌ كبيرة. والأنا الأوحد هو الحقيقة الوحيدة، هو عدوُّ كل ما هو أبدي، وعدوُّ كل ما يعوق شَهوتَه في السيادة والتحكُّم.
المتمرِّد لا يلتقي مع غيره من الناس إلا بمقدار ما تتفق أنانيتُهم مع أنانيته. إن حياته الحقَّة في الوحدة؛ حيث يُشبِع شهوته غير المحدودة إلى الوجود.
هكذا تصل الفردية إلى قمَّتها. إنها نفيٌ لكل ما يُنكِر الفرد، وتمجيدٌ لكل ما يُسبِّح بحمده ويضع نفسه في خدمته. الخير عندها هو كل ما تستطيع أن تستخدمه في صالحها، وكل ما تقدر عليه فهو من حقِّها. وإذا كانت الأنا بطبيعتها تقف من الدولة والشعب موقف المجرم، فلنتعلَّم أن الحياة مساويةٌ للتعدي على الحياة. ولا مفر لمن لا يريد أن يموت من أن يقتُل، حتى يكون وحيدًا. وهكذا يؤدي التمرد مرةً أخرى إلى تبرير الجريمة. ويصبح القتل نوعًا من الانتحار الجمعيِّ بالجملة، وتسقُط الروح المتمردة في ليل العماء، لتُفتِّش هناك عن متعتها الكئيبة المُفزِعة فوق أطلال العالم المنهار. ولا يعود ثمَّة عزاءٌ إلا في العدَم الشامل أو في البعث الجديد. ولا يبقى أمام شتيرنر وأمثاله من المتمرِّدين العدَميين إلا أن يندفعوا إلى هذا الحدِّ الأخير، نشاوى من خمرة الدمار والتخريب.
ما هو أثَر هذه النزعة الإيجابية التي ترحِّب بكل شيء وتُبارِك كل شيءٍ على المستوى التاريخي؟
بذلك أنكر تمرُّد نيتشه كل حدٍّ ولم يملك الوسيلة التي تجعله يضع لنفسه مثل هذا الحد. وبذلك أيضًا بقي تمرُّده تمردًا ميتافيزيقيًّا يُنكِر كل ألوان «العالم الآخر» التي سلَّمَت بها أجيال الفكر الغربيِّ من قبله، ولكن ماذا يُجديه هذا الإنكار إذا كان يستبدل مطلقًا بمطلق؟ أليس يضع المطلَق الأفقي (الآتي بعدُ) مكان المطلَق العمودي (العالم الآخر) على حدِّ قول الفلاسفة؟ وأي نفعٍ يعود عليه من ورائه إذا كان تمرُّده يقترب من الثورة، لا ليُعيد إليها الحياة أو يعيِّن لها الحدود التي ينبغي عليها أن تلزمها، بل لكي يذوب فيها ذوبانًا تامًّا؟
لقد انتهت فلسفةُ نيتشه على الرغم منها إلى نوعٍ من القيصرية البيولوجية على عهد النازية والفاشية. وكامي لا يُدين نيتشه ولا يستطيع أن يُدينه بأنه أراد ذلك، ولكن الحقيقة التي تقول إن مذهبًا سياسيًّا بعينه قد لجأ إلى فلسفته لتبرير أهدافه في القوة والغزو والسيطرة تكفي عنده لإدانته واتهام فلسفته. والمنصف لا يجد في هذا الموقف تجنِّيًا من كامي على نيتشه؛ فكم قُدِّر على الفلاسفة والمفكِّرين أن يكونوا ضحيةً للطغاة والمستبدين. ولقد كان نيتشه ضحية هتلر كما كان ماركس ضحية ستالين.
- (١)
لأنها تستبعد «اللا» وتحطِّم بذلك الديالكتيك الباطني للتمرُّد، الذي لا يمكن أن تنفصل فيه النعم عن اللا، ولا الإيجاب عن النفي؛ فتمرُّد نيتشه حين يُغفِل هذه اللا الأصلية إنما يُنكِر التمرُّد نفسه الذي يرفض الوجود على ما هو عليه، ويحتجُّ على الخليقة التي تسمح بالموت والشر والعذاب.
- (٢)
لأنها غير وفيةٍ لتجربة المُحال التي يقوم عليها التمرد نفسه؛ إذ لا تمرُّد إلا أن يكون تمردًا على المُحال على اختلاف صوره. إن الوعي في فلسفة نيتشه يبسُط «النعم» على الطبيعة بأَسْرها، ويرضى بالعالم على ما هو عليه، وبذلك يرضى أيضًا عن العذاب والشر والموت.
- (٣)
لأنها غيرُ وفيَّةٍ للحاضر، باعتباره مجموعةً من اللحظات المنفصلة العابرة الفانية؛ إذ تجعل الإنسان يحيا في توتُّرٍ متصلٍ متطلعًا إلى مستقبلٍ لم يأتِ بعدُ، مشرئبًّا إلى إنسانٍ أعلى لم يتحقَّق له وجود.
وتبدأ نزعة التأكيد المطلَق ببداية الثورة التاريخية. والعام الحاسم في الثورة التاريخية هو عام ١٧٩٣م، أو على التحديد اليوم الواحد والعشرون من يناير ١٧٩٣م؛ ففي هذا اليوم انقلَب التمرُّد ثورة، وأُرسل الله — في شخص لويس السادس عشر ممثِّله على ظهر الأرض — إلى المِقصَلة.
كانت الخطوة الحاسمة قد تمَّت؛ فقد صاغ اليعاقبة المبادئ الأخلاقية صياغةً جامدةً ومهَّدوا للنزعتَين العدميتَين السائدتَين في عصرنا؛ عدمية الفرد وعدمية الدولة. وفقد العقل صلته بإله، ولم يعُد يتعلَّق بشيءٍ إلا بما يُحقِّقه من نجاح. وبدأَت عجلات التاريخ تتحرَّك، ومملكتُه تنشُر سلطانها.
مثل هذا الموقف يؤدي إلى إمكانيتَين لا ثالثة لهما؛ فإما رفع كل تأكيدٍ وتأجيله إلى أن يتمَّ تقديم البرهان، أو تأكيد كل ما من شأنه أن يُصيب النجاح عَبْر التاريخ؛ أي جعل الفاعلية هي المعيار الوحيد لكل ما يحدُث وما يكون، وفي الحالتَين سقوط في العدمية.
ومن هنا غمَر العقل في تيار الأحداث، ودفع فكر هيجل الحقيقة، والعقل، والعدالة دفعةً تاريخية لا تُقاوَم، بعد أن ظلَّت مطلقةً ثابتة عند اليعاقبة، ولم تعُد هذه القيم علاماتٍ يُهتدى بها، بل أصبحَت أهدافًا وغاياتٍ لا تتحقَّق إلا في آخر التاريخ، بعد أن تتوقَّف طاحونته الرهيبة عن الدوران، وتبتلع في أحشائها كل التحوُّلات والمتناقِضات، ويعود أوديسيوس من مغامراته البعيدة إلى شاطئ الأمان. وأصبح الفكرُ من يومها طاقةً لا تكُفُّ عن الحركة، والعقلُ غزوًا وصيرورةً لا تنقطع.
إنَّ هؤلاء القتلة الرقيقي المشاعر باعترافهم بالطبيعة الإنسانية يضَعون للَّا المطلقة والنعم المطلقة حدًّا تقفان عنده. إنهم يتمسَّكون بتلك القيمة التي نُقابِلها في فعل التمرُّد الأصيل، ونعني بها روح التضامُن التي يؤدِّي إليها التمرد. إن كل واحدٍ منهم يستطيع أن يقول: «أنا أتمرد، فنحن إذن موجودون.» ولو سألناهم من أنتم لأجابوا قائلين: نحن موجوداتٌ قادرةٌ على الوعي بالحد، محقِّقة للتكاتُف والتواصُل فيما بيننا وبين بعضنا والبعض. إن تضامُنَنا ليس في حقيقة أمره سوى الوعي بما نشترك فيه مع جميع الناس؛ أعني بطبيعةٍ يشترك فيها كل بني الإنسان.
ربما كان تبريرهم الوحيد أنهم لم يشرِّعوا الرعب والقتل، لا بالحُجج الفلسفية ولا بالبراهين العلمية. لقد حمَلوا الذنب المحدود على أكتافهم، ودفعوا حياةً بحياة. كانت الثورة بالنسبة إليهم وسيلةً ضرورية، ولكنها لم تكن هدفًا في ذاته. وبذلك رفضوا أن يصلوا إلى الوحدة عن طريق الشمول، واحتفظوا بذواتهم الوحيدة وتناقُضاتهم الممزَّقة فلم يشاءوا أن يُلقوا بها في فُوَّهة تنينٍ «أيديولوجي» يبتلعُ كل المتناقضات ويُسوِّي كل الفروق. هؤلاء «القتلة الأبرياء» في ثورة عام ١٩٠٥م الاشتراكية قد بذلوا حياتهم لكي يبعثوا الحياة في قيمةٍ استطاعوا في زنزاناتهم المُعتِمة وعلى أعواد المشانق أن يؤكِّدوها ويثبتوا وجودها؛ قيمة «نحن نكون»، عنوان تضامُن الإنسان المتمرِّد مع كل إنسان.
•••
- أولًا: تردِّي التمرُّد الميتافيزيقي كما تردَّت الثورة التاريخية (وهي النتيجة المنطقية المترتِّبة عليه) خلال تاريخهما الطويل من صاد وشتيرنر إلى إيفان كرامازوف، ومن الرومانتيكيين ونيتشه إلى الفاشية والشيوعية في هاوية الجنون والانتحار، أو القتل والدمار. لقد كانت في كل مرة تخضَع فيها للتأكيد المطلَق لكل ما هو موجودٌ تلطِّخ يديها بالدماء. وفي كلا الحالَين كانت تتعدَّى الحد الذي بيَّنه التمرد، وتفقد الحق في أن تسمِّي نفسها باسم التمرُّد.٨٣
- ثانيًا: إن التمرُّد لا يمكن تبريره إلا حيث يبقى
الإنسان وفيًّا لبنائه الديالكتيكي، ولا
يستطيع أن يزعُم لنفسه أن يطلُب الوحدة إلا
حيث يتمسَّك بلا محدودة ونعم محدودة في وقتٍ
واحد؛ أعني حيث يُحافِظ على نسبيَّته ويبقى
بين الحدود التي رسمَتْها له الطبيعة
الإنسانية.
والثورة بدَورها لا تكون لها من قيمةٍ إلا حيث تبقى على وفائها للتمرُّد، هذا الوفاء لا سبيل إليه إلا إذا صدَّت عن المطلَق والمجرَّد، وتمَّ لها الوعي الكامل بالحدود المرسومة لها؛ ذلك أن الإنسان الذي يبحث عن المطلق فيما هو نسبي، أو يفتِّش عن المجرَّد فيما هو واقعيٌّ لا بد مُضطَرٌّ إلى تدمير النسبي والواقعي جميعًا؛ أعني إلى القتل وسفك الدماء. ودائمًا ما تنشأ إرادة البحث عن السعادة المستحيلة أو عن العدالة والحرية المستحيلتَين عن «إطلاق» النعم أو اللا أو رفع أحدهما؛ أعني عن تدمير العلاقة الديالكتيكية الأصيلة للتمرُّد بإلغاء أحد طرفيَها أو التطرُّف فيه تطرُّفًا مطلقًا.٨٤
- ثالثًا: عندما يستبعد التمرد «النعم» أو التأكيد
ويقتصر على النفي وحده، فإنه يستسلم للمظهر،٨٥ فإذا ما اتجه إلى التأكيد المطلق
لكل ما هو موجود، وتخلَّى عن نفي الواقع أو
مجرَّد الاحتجاج على جانبٍ منه، فإنه يُجبِر
نفسه إن آجلًا أو عاجلًا على الفعل. وبينما
يُحاول التمرُّد الميتافيزيقي أن يستمدَّ
الحقيقة من المظهر ويصل إلى الوجود عن طريق
الموجود، وبينما تُريد الثورة التاريخية أن
تغزو الوجود عن طريق الفعل، نجد أن التمرُّد
يقف في صف الوجود الممزَّق المُنقسِم على
نفسه، ويبذل كل ما في طاقته لتأكيد «نحن نكون»
بتأكيده لطبيعةٍ إنسانيةٍ ثابتة يشترك فيها كل
البشر، وتضع للتطرُّف حدًّا، ولكل محاولةٍ
للإفلات من المقياس مقياسًا.
فإذا قالت الثورة التاريخية: «أنا أتمرَّد، إذن فسوف نُوجد»، وإذا أضاف التمرد الميتافيزيقي إلى عبارة «أنا أتمرد» قوله: «إذن فنحن موجودون وحدنا» فإن التمرد المتواضع المضطَهد الوفي لمنبعه والعارف لحدوده يلخِّص حكمته في هذه العبارة: «أنا أتمرد، إذن فنحن موجودون».٨٦
- رابعًا: نحن موجودون هذه تعبر عن قيمة التضامُن التي تنبني على حركة التمرُّد، كما سنرى فيما بعدُ. أما «أنا أتمرد» وحدها فهي تعبِّر عن تمزُّق الإنسان المتمرد، عن توتُّره الدائم وعذابه المتصل من المتناقضات التي يعيش فيها، والتي تُوقِظ الوعي كما رأينا من قبلُ، فإذا ما استيقظ هذا الوعي عبَّر عما يُعانيه من المتناقضات في التوتُّر الديالكتيكي الدائم بين الخير والشر، والعدل والظلم، والحياة والموت. هذه المواجهة التي تتقابل فيها التصوُّرات المتضادة هي التي تجعل الوعي وعيًا على وجه الإطلاق، وتُتيح له النصوع والإشراق كما ذكرنا من قبلُ. وعن طريق هذه المواجهة أيضًا تنشأ فكرة الحد والمقياس؛ ومن ثَم نستطيع أن نفهم كيف أن الحد والمقياس توتُّرٌ خالص، والمحافظة عليه حُكمٌ من الإنسان على نفسه بالحياة في تمزُّقٍ متصل، ولكي ندرك ذلك ينبغي علينا أن نتناول فكرة الحد في شيءٍ من التفصيل.
(د) التمرُّد المعتدل وفكرة الحد والمقياس
فما هو إذن هذا الحد أو هذا المقياس؟
إن فكرة الحد أو المقياس ينبغي أن تُفهَم دائمًا في التحوُّل المستمر، في حركة التمرُّد الديالكتيكية التي لا ينقطع تيارها؛ فالحد في حقيقته توتُّرٌ خالص، وتمزُّق الموجود بين لا مطلقة ونعم مطلقة، بين زهادةٍ في كل شيءٍ وتطرفٍ في كل شيء. إنه صراعٌ مُستمِر، يحاول العقل على الدوام أن يهدِّئ منه ويتحكَّم فيه؛ فبين طرفَين متباعدَين بلغ عندهما الانفلاتُ من الحد أقصى مداه، بين طلب المستحيل من ناحية والتردِّي في الهاوية من ناحيةٍ أخرى (وهما المحاولتان الأبديتان اللتان لا يستطيع التمرد أن ينتصر عليهما كل الانتصار) نجد فكرة الحد تُحاوِل أن تحافظ على التوازن وتُوقظ في الوجدان معنى المقياس. إن فكرة الحد — هذه الثمرة الخالدة التي أهدَتها إلينا شجرة الفكر اليوناني، واجتمع فيها كل روحه وكل جوهره — هي التي تحمي التمرُّد عَبْر التاريخ الطويل المزدحم بالتهوُّر والتطرُّف والجنون، وهي التي تبيِّن له النظام والمعيار، وتخلُقه في كل لحظةٍ من جديد، وتحرص على ألا يسقط في الانحرافات التي انزلقَت إليها الثورات على اختلاف العصور. وإذن ففكرة الحد ليست هي الضد المقابل لفكرة التمرُّد؛ فكلاهما متعلقٌ بالآخر تعلُّقًا من شأنه أن يجعل فكرة الحد تنبُع من جوهر التمرُّد ولا تحيا إلا به، مثلما أن التمرُّد هو تمرُّدٌ لا سبيل إلى تصوُّره بدون فكرة الحد والمقياس. إن التمرُّد إما أن يكون تمرُّدًا محدودًا أو لا يكون.
نستطيع الآن أن نذهب إلى القول بأن التمرُّد المعتدل المحدود هو الموضوع الحقيقي الذي تدور حوله محاولة كامي الفلسفية الكبرى «المتمرد». إن الهدف منها هو رفضُ كلا الطرفَين المتباعدَين اللذَين يؤدي العقوق بالديالكتيك الأصلي للتمرُّد إلى التردِّي في أخطارهما، ونقصد بهما تأليه الإنسان من ناحية وتشييئه من ناحيةٍ أخرى. وهي تهدف بذلك أيضًا إلى إنقاذ الإنسان الحقيقي الخلَّاق، الذي لا يعدو في نهاية المطاف أن يكون الإنسان المتمرِّد على المُحال في صورتَيه الميتافيزيقية أو التاريخية.
كلا الطرفَين إذن يُريد أن يُحقِّق المستحيل في الممكن، والمجرَّد في الواقع، والمطلَق في النسبي؛ فهو إما أن يهدف إلى تحقيق الحرية المطلَقة عن طريق تأليه الإنسان، أو إلى تحقيق العدالة المطلَقة عن طريق تشييئه.
ولا نستطيع أن ندَع هذه الفرصة بغير وقفةٍ قصيرةٍ عند رأي كامي في المطلق؛ فالواقع أنه، وإن كان يرفض النزعة المطلقة بكل ما فيه من قوة، إلا أن المطلَق لا يختفي من تفكيره كل الاختفاء، بل إننا نستطيع أن نقول قولًا لا يخلو من المفارقة حين نذهب إلى أن المطلق عنده هو النسبي نفسه، الذي يُوضَع موضع المطلق. والتوتُّر الحقيقي عنده هو في حقيقته نوعٌ من التوتُّر الذي يسعى إلى المطلق، الذي يلتمسه في المظهر وفي حدود التجربة الإنسانية الممكنة ذاتها؛ فالموقف المتطرِّف الذي يرفُضه موجود إذن بصورةٍ معكوسة في تفكيره، وكأنه لا يستطيع أن يُفلِت من قدَر الفكر الإنسانيِّ الذي يسعى بطبيعته إلى المطلق، سواء في ذلك أأثبَتَه أو نفاه، وكأن الإنسان يأبى بطبيعته إلا أن يكون حيوانًا ميتافيزيقيًّا كما قال القدماء. وبدلًا من ذلك المطلق، الذي يعلو فوق الإنسان علوًّا عموديًّا، ويُطرح في «عالمٍ آخر» سواء كان هذا العالم زمانيًّا أم مكانيًّا، نجدُه يبحث عن النسبي في «الآن» و«الهُنا» بحثًا لا ينقطع، ويصبغُه، دون وعيٍ منه، بالصبغة المطلقة. ولعله في موقفه من المطلق يخلط بوجهٍ عام بين ما هو فلسفي وما هو سياسي، حتى يبدو المطلَق في معظم الأحيان أشبه بالدكتاتورية البوليسية التي تميِّز طابع العصر، والتي لا ينفكُّ يكافحها بكل ما يستطيع.
قلنا إن التمرُّد على الظلم والطغيان هو في صميمه تمرُّد على المُحال في صورته التاريخية. وعلى الإنسان تقع أمانةُ هذا التمرُّد الذي ينبغي أن يتمثل فيه بسيزيف أو بالدكتور ريو؛ أعني أن يبقى في تمرُّده وفيًّا للمُحال، واعيًا بالحدود التي رسمَها لنفسه. مثل هذا التمرد المعتدل لا مجال له إلا في النسبي والممكن والواقعي المعيَّن، فإذا تجاوز هذه الحدود لم يعُد تمرُّدًا من أجل الحياة، بل جموحًا لا يخدم إلا الموت.
(ﻫ) إستطيقا التمرد
وإذا كان كامي يؤكد أن الإبداع الفني نشدانٌ للوحدة ورفض للعالم في آنٍ واحد، فهو بهذا التأكيد لا يقتصر على أن يقدِّم لنا التعريف الملائم للتمرُّد، وأن يبصِّرنا ببنائه الديالكتيكي فحسب، بل إنه يقدِّم لنا كذلك مفتاح فهم تفكيره الفلسفيِّ على المستوى الجمالي والمستوى التاريخي معًا. ونستطيع إن نقول إن مطلب التمرد للوحدة هو في الوقت نفسه مطلبٌ جماليٌّ وفني. هذا السعي إلى الوحدة، وهذا الرفض للعالم والموافقة عليه في آنٍ واحدٍ يجعلنا نتعرَّف على طبيعة التمرد والإبداع الفني معًا.
وهذا التوسُّع في مجال الفكر على أساس التوسُّع في القدرات المُبدِعة الخلَّاقة عند الإنسان يرجع في حقيقته إلى القيمة الأساسية التي يؤكِّدها التمرُّد وهي التضامُن؛ ففي التضامُن يتوحَّد البشر في كفاحهم المشترك ضد إهدار كرامة الإنسان على يد الإنسان، وضد الموت المصنوع أو القتل في العصر الحديث. وهذه الحركة الصاعدة من «الأنا» إلى «النحن»، ومن الفردية إلى التضامُن بين أفرادٍ وحيدين هي التي تميِّز هذا التوسُّع في المجال الفكري.
- أولًا: يبدأ الفكر عند كامي من التناقُض أو الفضيحة Scandale، سواء في ذلك الفكر عند إنسان المُحال أو عند الإنسان المتمرد؛ فالتناقض الذي حرَّك التفكير عند إنسان المُحال هو الانتحار، والذي حرَّك المتمرد هو القتل الذي تُبرِّره الحُجج الأيديولوجية والمذاهب الفلسفية. هذا الموت الذي يفتعله البشر، وعذاب الأبرياء والأطفال، يمثِّلان عنده المتناقِضات أو الفضائح التي تدفعُه إلى التمرُّد.
- ثانيًا: لا سبيل إلى فهم التمرُّد إلا من حيث علاقته بالمُحال الذي يفترض التمرُّد وجوده؛ فالتمرد بما هو تمردٌ هو في الحقيقة تمرُّد على المُحال، كما أن المُحال من حيث هو مُحال لا وجود له إلا إذا وجد التمرُّد عليه. إن التمرد ينشأ عن الإحساس بالجنون أمام قدَرٍ ظالمٍ ولا سبيل إلى فهمه.١٠٧
- ثالثًا: التمرُّد حركةٌ موجهةٌ ضد إنسانٍ ما ومعه تنطوي على اللا والنعم، والرفض والموافقة في وقتٍ واحد. في هذا التعارُض الديالكتيكي نكشف جذوره العميقة في أرض المُحال. ولقد استطاع هذا المُحال أن يُحدِّد لنا طبيعة هذَين الطرفَين المتصارعَين من نعم ولا، من تأكيدٍ ونفي، تحديدًا واضحًا مستمدًّا من بنائه هو نفسه. وعلى هَدْي من تعاليم المُحال استطعنا أن نتبيَّن طبيعة التمرُّد الحقيقي الوفي لأصله ومنبعه، فكان التمرد حركةً من أجل الإنسان والأرض؛ أعني من أجل المحدود والنسبي، اللذَين وضَّح المُحالُ من قبلُ حدودهما وإمكانياتهما. والتمرُّد في الوقت نفسه حركةٌ ضد كل من يطلبون المطلَق؛ أعني ضد كل من يتجاوز حدود المُحال.
- رابعًا: لم يَبقَ للإنسان، بعد أن سُلب المطلق، من واجب إلا أن يُحاول على الدوام أن يتمرَّد ذلك التمرُّد النسبي المحدود الذي ينبغي ألا يكُف عن خلقه في كل لحظةٍ من لحظات حياته خلقًا جديدًا. هذا التمرد وحده هو الذي يُتيح للإنسان أن يحيا في البُعد التاريخي الملائم له، وهو الذي يستطيع أن يحميه من الانحراف عن التمرُّد الحق إلى العدمية التي تردَّت فيها الثورات التاريخية وذلك بتأكيده لطبيعةٍ إنسانيةٍ يشترك فيها بنو الإنسان على السواء. أما ما هي هذه الطبيعة الإنسانية فذلك ما سوف نتناوله بالبحث في الفصل القادم.
- خامسًا: في الخَلق الفني وحده نستطيع أن نجد أصل التمرد ومنبعه النقي الحق. ولا وجود للمتعالي (الترانسندنس) الحي الذي يعِدُنا بالجمال إن كان له وجودٌ على الإطلاق إلا في الفن.١٠٨ وما من شيءٍ سوى العمل الفني يستطيع أن «يرفع» الزمان؛ فهو وحده الذي يستطيع أن ينقل المتعة الفانية بطبعها من جيلٍ إلى جيل، فيُضفي طابع الدوام على ما من شأنه أن يعبُر ويزول، وأن يهَب الفنان نفسه ذلك «الخلود الزائل»، وهو الخلود الوحيد الممكن في هذا العالم الفاني. ويظل الفن، على الرغم من هذا التعالي الظاهري، هو المجال الوحيد الذي يستطيع التمرُّد فيه أن يُحرِز الانتصار الكامل. الفن وحده هو الذي يستطيع أن يجعلنا نعيش هذه «الأبدية الزائلة»، هذه اللحظة التي تلتقي فيها أبعاد الزمن الثلاثة في حضورٍ نادرٍ فريد وسعيد.
والواقع أننا نستطيع أن نقارن بين فكرة الحد عند كانْت (وهي التي يسمِّيها بالشيء في ذاته أو النومنن Noumenon) التي تحدُّ عنده من مطامح المعرفة الحسية وتُعَد ذات وظيفةٍ سلبيةٍ أو نافية وبين فكرة الحد التي تهدفُ بدورها إلى الحد من مطامح الثورات التاريخية؛ فحين يقول العبد لسيده: «إلى هنا ولا تزِد!» فهو يريد أن يضع لاضطهاده له حدًّا يقف عنده، ولكن هذا الحد ليس حدًّا من حدود المعرفة النظرية، والمتناقضات التي تكمن وراء أسواره ليس لها طابعٌ منطقي. إنها، إن جاز هذا التعبير، متناقضاتٌ تمزِّق القلب، مُخضَّبة بدماء البشر؛ فوضعُ حدٍّ للتمرُّد معناه في الحقيقة احترام الطبيعة الإنسانية، وإجلال هذا الشيء المقدَّس الكامن في أعماق كل إنسان والذي لا يصحُّ أن تلمسَه يد. ومعناه كذلك الوفاء للتمرُّد الأصيل، والحيلولة بينه وبين الوقوع في مهاوي الثورات (قارن في ذلك كله نقد العقل الخالص، مقدمة الطبعة الأولى، ١٢٥٥، ٣١١ ب؛ وكذلك روبرت هايس، ماهية الديالكتيك وأشكاله، ص٤٥–٤٩).