(أ) الطبيعة الإنسانية
بالمقارنة بين «ملاحظة عن التمرد»،
١ وهو مقالٌ نشره كامي في عام ١٩٤٥م، وبين «المتمرد»
نستطيع أن نتبيَّن تغييرًا في نصِّ عبارةٍ واحدةٍ يكشف لنا عن
ماهية الطبيعة الإنسانية. لقد بقي النص والموضوع في الحالَين على
ما هو عليه، باستثناء هذه العبارة الوحيدة التي غيَّرها كامي
تغييرًا اختلف معه رأيه في الحالَين اختلافًا كبيرًا، حتى
لَنستطيعُ أن نلمح التناقُض الصريح بينهما.
ونودُّ قبل أن نتعرض لهذا التغيير الأساسي الذي سنُحاوِل أن
نُبرِز دلالته على تفكير كامي كله، أن نشير إلى الموضوع الرئيسي في
التمرُّد؛ فالتمرُّد كما قدَّمنا هو الحركة الواعية التي يطلُب بها
الإنسان الوضوح والوحدة في عالمٍ تسوده ظروف حياةٍ ظالمةٍ غير
مفهومةٍ. وإذا كان الفعل الأصيل للتمرُّد يريد أن يضع حدًّا لسيطرة
السيد على العبد، فهو بهذا التحديد نفسه يؤكِّد قيمةً معيَّنة.
وهذه القيمة التي نستطيع أن نجدها في أنفسنا، في قلب تجربتنا
الإنسانية وفي صميم فكرة التمرُّد نفسها، هي التي يُحاوِل كامي أن
يطبعها بطابع اليقين الذي تتصف به البديهية الأولى.
٢
هذه القيمة التي نتحدَّث عنها هي التي تنتزع الفرد من وحدته
وانفراده، فهي إذن قيمةٌ جمعية لا قيمةٌ فردية. والدليل على هذا
يكمن في الحقيقة التي تقول إن الفرد لا يتردَّد في التضحية بحياته
في سبيل تأكيد هذه القيمة والدفاع عنها. واستعداد الفرد لفدائها
بحياته إذا دعَتْه الضرورة إلى ذلك يدلُّ على أنه يرفع من شأن هذه
القيمة بحيث يضعها فوق وجوده الذاتي، وبحيث تتجاوز قَدرَه وتعلو
على مصيره.
٣ ولو كانت هذه القيمة ذات طبيعةٍ فرديةٍ لما استطاعت أن
تنتزعنا من دائرة المُحال، الذي كان ينطوي هو أيضًا على قيمةٍ
فردية (لنتذكَّر هنا أن المُحال قد نشأ من شقاقٍ لا سبيل إلى
تهدئته بين الإنسان من ناحية وبين العالم المحيط به من ناحيةٍ
أخرى، بين سعيه إلى النظام والوحدة وبين الاضطراب والغرابة والظلام
من حوله؛ أعني أنه نشأ عن أزمةٍ فرديةٍ خالصة).
هنا لا بد لنا من أن نسأل سؤالًا آخر يرتبط بالمشكلة السابقة: هل
في إمكان الإنسان أن يؤمن بمثل هذه القيمة التي تؤلِّف بين «الأنا»
و«النحن» في وحدةٍ واحدة، وتنتزُعني من ذاتي المغلَقة لتجمع بيني
وبين الآخرين، والتي تجعلُني لا أتردَّد إذا اقتضت الأحوال أن
أضحِّي بحياتي في سبيلها لكي أثبت وجودها لدى جميع الناس، أقول هل
في مقدور أحدٍ أن يؤمن بمثل هذه القيمة بغير أن يفترض الإيمان
بوجود العلو أو المتعالي
٤ (ترانسندنس) المتعلِّق بها؟
بهذا السؤال نصل إلى التغيير الذي أشرنا إليه في نَصِّ إحدى
العبارات الواردة في «المتمرد» عمَّا كانت عليه قبل ذلك ببضع
سنواتٍ في المقال السالف الذكر، كما يتضح لنا موقف كامي من
المتعالي ورفضُه له رفضًا حاسمًا صريحًا؛ لقد استطاع في ذلك المقال
أن يقول إن القيمة المتعالية أو المتعالي (الترانسندنس) الذي
أوجدَه التمرُّد ليس متعاليًا عموديًّا بل هو متعالٍ أفقي؛ أي إنه
يريد بعبارةٍ أخرى أن يقول إن القيمة المتعالية التي يريد التمرُّد
أن يؤكِّد وجودها، والتي يقوم عليها فعلُ التمرُّد نفسه، لا يصحُّ
أن نتصورها تصورًا استاتيكيًّا جامدًا، ولا أن نتخيَّلها كما لو
كانت «مُعطًى» نصل إليه مرَّةً واحدة وإلى الأبد، بل ينبغي أن
نتذكَّر دائمًا أن المتمرد لا ينفك يؤكِّدها ويدافع عنها في كل
لحظة من لحظات وجوده؛ أي إنه لا يكُف عن خلقها خلقًا متصلًا لا ينقطع.
٥
هل تسرَّع كامي في مقاله ذاك فكتب كلمة «المتعالي» أو
«الترانسندنس» بغير وعيٍ منه، أم تُراه أحسَّ إحساسًا واضحًا
بالحاجة وبالضرورة إلى افتراض وجود هذا المتعالي؟ ذلك أنه إذا صحَّ
أن الإنسان لا يستطيع، في لحظاتٍ ومواقفَ معيَّنة من حياته على
الأقل، أن يمنع نفسه عن التمرُّد، فمن الصحيح كذلك أنه لن يستطيع
أن يحكُم مُقدَّمًا إذا كان تمرُّده سيكون له أيُّ معنًى، طالما
أنه لم يُعطِه مثل هذا المعنى من قبلُ، فالرأي إذن أن التمرد الذي
لا يرتبط بمعنًى عالٍ ولا ﺑ «ترانسندس» لن يزيد عن أن يكون مجرد
ثورةٍ عاطفية، أو دافعٍ أعمى، أو حماسٍ في فراغ، لا يشُك أحدٌ في
أنه جدير حقًّا بالإعجاب، ولكن لا يشُك أحدٌ أيضًا في أنه مجرَّد
عن كل معنًى، خالٍ من كل اتجاه. وجه الخطر في مثل هذا التمرُّد أنه
يمكن أن ينحرف ويتردَّى في متناقضات الثورات التاريخية. قد تكون
مثل هذه الخواطر قد وردَت على ذهن كامي وقد لا تكون قد خطرَت له
على بال. المهم أنه حين أعاد كتابة النص أراد أن يتجنَّب كلمة
«الترانسندنس» بأية ثمن. وها هو الآن يُحاوِل بتعديله لهذه العبارة
الفريدة أن يطبع تلك القيمة التي يريد التمرُّد أن يؤكِّدها ويدافع
عنها وأن يخلع عليها ثوب الموضوعية وذلك بإضفائه عليها طابعَ
النسبية والمحدودية. هذه العبارة التي ذكرناها من قبلُ لا نجد لها
أثَرًا في كتاب المتمرد. إننا نقرأ في مكانها قوله: «هذه القيمة
السابقة على كل فعل، لا سبيل إلى التوفيق بينها وبين الفلسفات
التاريخية المحضة التي تكتسب القيمة فيها إن كان ثمَّة سبيلٌ
لاكتسابها) بعد أن ينتهي الفعل.
إن تحليل التمرُّد يحمل على الأقل على الظن بأن هناك طبيعةً
إنسانيةً، على نحو ما ذهب إليه اليونان وبخلاف ما يُسلِّم به
التفكير المعاصر.
٦
وإذن فنحن نجد في مكان كلمة الترانسندنس،
٧ التي نقابلها أكثر من مرةٍ في مقاله «ملاحظات عن
التمرد»، والتي تختفي في نفس الموضع من النص الذي نقَلَه بحذافيره
(فيما عدا تلك العبارة) في كتابه «المتمرِّد»، أقول نجد كلمةً أخرى
هي «الطبيعة الإنسانية» التي قرَّر كامي أن يستخدمها ليتجنَّب كلمة
الترانسندنس التي تضعه أمام مشكلاتٍ عديدة، ولكن حذف الكلمة لا
يعني حذف المشكلة، على نحو ما سنرى فيما بعدُ.
إن الطبيعة الإنسانية التي نتحدَّث عنها هي تلك القيمة التي تسبق
كل فعل، وتقدِّم بذلك السبب المبرِّر له، والمعنى الذي يهدف إلى
تحقيقه. هذه القيمة التي يضحِّي الإنسان بحياته لكي يُقيم الدليل
على وجودها — كما فعل كالياييف ورفاقه — لا بد أن تكون قيمتُه
تتجاوز وجوده كفردٍ تاريخي. ولما كان المتمرد بطبيعته لا يريد أن
يؤكِّد وجود هذه القيمة في ذاته فحسب، بل يريد أن يؤكدها ويدافع عن
وجودها عند بني الإنسان جميعًا، كانت هذه القيمة بالضرورة قيمةً
ترانسندنتاليةً متعالية؛ فلو لم يكن الأمر كذلك ما استطاع المتمرد
أن يضع نفسه فوق هذا العالم حين يضع هذه القيمة فوق ذاته، كما فعل
«القتلة الأبرياء»، كالياييف وأصدقاؤه وهم على أعتاب المشانق.
٨
هل يجرُّ هذا التغيير في النص وراءه تغييرًا في الموضوع؟ أليست
هذه الطبيعة الإنسانية قيمةً يضعها الإنسان فوق ذاته، ويقف منها
موقف الخضوع ويصل إلى حريته الحقيقية عن طريق هذا الخضوع نفسه لها؟
٩ ألا تدلُّ هذه الطبيعة المشتركة بين الناس جميعًا على
أن هناك معنًى ساميًا يعلو فوق الإنسان، ويستطيع عن طريقه أن
يتجاوز ذاته إلى الآخرين، ويحقِّق ما يسمِّيه المحدَثون ﺑ «الوجود
مع الغير»؟ وإذا صحَّ هذا كله، ألا يعني ذلك أن كامي يقفز القفزة
التي حرَّمها الإنسان على نفسه في تجربة المُحال، وأصرَّ على أن
يتلافاها بكل ثمن؟ وهل يتناقض كامي مع نفسه باعترافه بالقيمة
العالية التي سمَّاها الطبيعة الإنسانية؟
الواقع أن كامي يشعر بضرورة افتراضِ وجودِ قيمةٍ عالية، ولكنه لا
يزال يتمسَّك بموقف النفي لكل متعالٍ ولكل مطلَق. يتضح ذلك حين
يقول في خلال مناقشاته للثورات التاريخية إن القرنَين التاسع عشر
والعشرين قد حاولا في صميم اتجاهاتهما أن يعيشا بغير ترانسندنس.
١٠ أو حين يتصدَّى لدحض الشيوعية، ويبيِّن كيف انحرفَت عن
التمرد الأصيل، فيُرجِع ذلك إلى حدٍّ ما إلى أنها قد جرَّدَت القيم
الثابتة والمبادئ العالية من معناها: «بمجرد أن تُوضَع المبادئ
الخالدة مع الفضيلة الشكلية (عند اليعاقبة أو الجمهوريين الأحرار
في الثورة الفرنسية) موضعَ الشكِّ ويُحطُّ من شأن كل القيم
الممكنة، يندفع العقل في حركته فلا يُقيم لشيء وزنًا، اللهم إلا
لما يصيبه من نجاح. إن إرادته تتجه الآن إلى السيادة والتحكُّم،
وذلك حين ينفي كل ما كان موجودًا ويؤكِّد كل ما سوف يُوجَد في المستقبل.»
١١ عندئذٍ يُعطَى كل ما كان لله لقيصر. ولكن الله وقيصر
كلاهما موجودٌ مطلق، فلا بد أن يقاومهما كامي باسم التمرُّد، على
نحو ما قاوم كل مطلَقٍ ورفض كل نزعةٍ مطلَقة.
لقد عرضنا في الفصلِ السابقِ لموقف كامي من المطلَق، أما مشكلة
القيمة فنستطيع الآن أن نُحدِّدها على النحو التالي؛ فإما أن
تتقدَّم القيمة على التمرُّد — وبذلك تعلو عليه عُلوَّ
الترانسندنس، وإما أن يخلُق التمرُّد القيمة. والواقع أن في نصوص
كامي من الأسانيد ما يؤيد الرأيَيْن معًا. ونستطيع فيما يتعلق
بالقسم الأول من المشكلة أن نقول إن رفض المتعالي، هذا الرفض الذي
يصرُّ عليه كامي بكل قوة، هو في الواقع هروبٌ منه وتأكيدٌ له بغير
وعي منه،
١٢ بل إننا نستطيع أن نذهب إلى أبعدَ من هذا، إذا قلنا إن
مأساة الوجود الإنساني بوجهٍ عام إنما تكمُن عنده في غياب
المتعالي من أُفق هذا الوجود. ورفضه له يزيد من حدَّة المأساة ولا
يُخفِّف منها. وربما استطعنا أن نفسِّر موقفه — ولا نقول
نُبرِّره — إذا تذكَّرنا أنه لا يفهم تحت كلمة المتعالي والمطلَق
ما يتجاوز وجود الإنسان فحسب، بل ما يتسلَّط فوق هذا الوجود، وكأنه
قوةٌ غاشمةٌ تحدُّ من حريته وقد تُلغيها إلغاء. وفي هذا الموقف،
كما قدَّمنا من قبلُ، خلطٌ بين مجالَي الفلسفة والسياسية يصل إلى
حدِّ الخوف من المتعالي خوفَه من دكتاتوريةٍ بوليسية.
١٣ وأما فيما يتصل بالقسم الثاني من المشكلة فإن السؤال
عند كامي — كما تعبِّر عنه شخصيتا تارو والدكتور ريو في رواية
الوباء — هو هل يستطيع الإنسان وحدَه وبغير أن يلجأ إلى وجودٍ
أبديٍّ خالد أن يخلُق قيمه الخاصة به.
١٤ هذه القيم لا يمكن أن تكون في رأيه قيمًا مطلقةً ولا
مجرَّدة، بل لا بدَّ أن تحتفظ بطابع النسبية، والواقعية؛ فالقيمة
هنا ليست قيمةً عمودية ولا هي قيمة أفقية متعالية (إن صحَّ لنا أن
نستخدم هذه التشبيهات الرياضية في مجال القيم!) أعني أنها ليست
قيمةً معلَّقة فوق رأس الإنسان وكأنها قدَرٌ قاسٍ، ولا هي قيمة
يُنتظر أن تتحقَّق في مستقبل الأيام، وكأنها حلمٌ غامض؛ فأما
القيمة الأولى فكامي مضطرٌّ إلى رفضها لكي يكون منطقيًّا مع نفسه.
وأما القيمة الثانية فلا يمكن إلا أن تكون متناقضةً مع نفسها؛
لأنها ما بقيَت خاليةً من الشكل فلن تستطيع أن تحدِّد لنا فعلًا من
الأفعال، ولا أن تُعطِينا مبدأً نختار على أساسه.
١٥ إن كلمة القيمة التي يستخدمها كامي هنا لا تعني إلا
الحياة نفسها في امتلائها الخصب المباشر، هذه الحياة التي هي الشيء
الوحيد الذي يمتلكه إنسان المُحال، والذي لا يكُفُّ المتمرِّد عن
تأكيده والدفاع عنه وبذل حياته في سبيله إذا اقتضت الضرورة ذلك.
لعلَّ القتَلة الأبرياء، كالياييف وأصدقاءه من شعراء الجريمة،
الذين يعكسون أصفى صورةٍ للتمرُّد، هم خيرُ مثلٍ على ما نقول. إنهم
وإن لم يسلَموا من الانحراف عن التمرُّد الحق، قد تعذَّبوا من
متناقضات التمرُّد أقسى عذابٍ وأعمقه. وإذا كانت القيمة التي
أرادوا أن يؤكِّدوها ويدافعوا عنها قد علَت فوق أشخاصهم المحدودين،
فإنها لم تعلُ فوق الحياة والتاريخ.
١٦ كان احترامهم للحياة فوق كل شيءٍ. لم يلمسوا حياة
غيرهم قبل أن يُحاسِبوا ضميرهم أقسى حساب. واحترام الحياة هو الذي
جعل كالياييف يتردَّد في إلقاء قنبلته على الأمير الروسي الأكبر
سيرجي حين لاحظ وجود أطفال في عربته. إنه في مسرحية «العادلون»
يقول لستيبان: «… إنني أُحب الحياة. لقد انضممتُ إلى الثورة لأنني
أُحب الحياة.» ولكن ستيبان، مثال الأيديولوجي الذي يضع القيمة
المطلَقة المجرَّدة فوق الحياة، يُجيبه قائلًا: «أما أنا فلا أُحب
الحياة، بل أُحب العدالة، التي تعلو بكثيرٍ فوق الحياة.» ويُخاطِب
كالياييف حبيبته دورا قائلًا: «لا بد من أن تقوم الثورة حقًّا،
١٧ ولكنها ينبغي أن تكون ثورةً من أجل الحياة، أتفهمين؟
من أجل أن تفتح للحياة بابًا!» ويقول لها كذلك في موضعٍ آخر: «إننا
نقتُل لكي نبني عالمًا يخلو من القتَلة. إننا نأخذ على عاتقنا أن
نكون مجرمين لكي يصبح سكان الأرض في النهاية أبرياء.»
١٨
كالياييف ورفاقه يُجسِّدون هذا التناقُض العجيب إزاء قيمة
الطبيعة الإنسانية؛ فهم من ناحية يضعون وجود القيمة فوق وجود
الإنسان. وهم من ناحيةٍ أخرى يخلُقون القيمة ويُبرهِنون بموتهم على
أن التمرُّد خلَّاق للقيم.
١٩
هذا التناقُض الذي نلمحه في موقفهم لا بد لنا من التسليم به ما
دمنا نسلِّم بأن التمرُّد في صميم بنائه الجدليِّ يحتوي على اللا
والنعم في وقتٍ واحد. وليس للتمرُّد، كما نعلم، أن يتخلَّى عن أحد
طرفَي هذا التناقُض، وإلا تخلَّى عن سبب وجوده الذي يحميه.
٢٠ وليس هذا التناقُض في نهاية الأمر إلا الطريق الوسط
العسير، الذي يشقُّه التمرُّد بين التأكيد المطلَق والنفي المطلَق.
والذي يمكن عليه أن تُعاش المتناقضات وأن يتغلَّب عليها.
٢١
ما هي إذن هذه الطبيعة الإنسانية التي تعبِّر عنها عبارة «أنا
أتمرَّد فنحن إذن موجودون» والتي وجدنا فيها القيمة الواضحة
البديهية الأُولى؟ الجواب بسيطٌ كما أنه مباشر؛ إنها هي الوعي الذي
يظهر بظهور حركة التمرُّد.
٢٢ إنها المعرفة المفاجئة بأن في الإنسان بما هو إنسان
شيئًا يستطيع أن يتوحَّد وإياه، ويريد أن يخلُق الاحترام له
والاعتراف به.
٢٣ وهي بعد هذا كله ذلك الجزء من كيانه الدافئ بالحياة،
الذي ليس له من هدفٍ غير الحياة.
٢٤
بالطبيعة الإنسانية يُحاوِل كامي محاولتَه الأولى للوصول إلى ما
وراء المظهر واختراق الدائرة التي لا يكون الوجود نفسه في داخلها
إلا مظهرًا. وهنا نجد أن العبارة التي تردَّد ذكرها فيما تقدَّم
والتي تُلخِّص فكر كامي في مرحلة المُحال، ونعني بها عبارة «المظهر
يصنع الوجود»،
٢٥ قد تغيَّرت في هذا الموضع تغييرًا حاسمًا. إن دييجو،
الشخصية الرئيسية في مسرحية «الحصار» يريد أن ينقذ سكان المدينة
الإسبانية البائسة كاديز، والدكتور ريو يُريد أن يأخذ بيد سكان
مدينة أوران، وكالياييف يطمح إلى إنقاذ الإنسانية بأَسْرها.
٢٦ إنهم جميعًا يريدون أن يتجاوزوا منطقة المظهر، وأن
يخرجوا من دائرته لكي يؤكدوا الوجود الذي تعرَّفوا عليه عن طريق
الخطر المشترك في طبيعةٍ واحدةٍ يشترك فيها أبناء الإنسان جميعًا.
وإذا كانت هذه الطبيعة الإنسانية تظهر لهم في ظرفٍ محدَّد، فليس
معنى هذا أنها غيرُ موجودة، بل الأَولى أن يُقال في هذا الموضع إن
الوجود سابقٌ على المظهر.
وإذن فالطبيعة الإنسانية كائنةٌ في الموقف المشترك الذي يتخذه
وجدان جميع الأفراد الذين يواجهون خطرًا مشتركًا، ويجدون أنفسهم
مطالبين بإزائه بالتصميم على اختيارٍ معيَّن. في هذا التقابُل بين
الوعي وبين الخطر المهدِّد (سواء أكان هو الوباء أو الحرب
الديكتاتورية أو تحكُّم الأيديولوجيات الفكرية) تتجلَّى الطبيعة
الإنسانية في الوجود المشترك إزاء الخطر المشترك؛ أعني في
التضامُن، فما هي طبيعة هذا التضامُن؟ هذا هو السؤال الذي ينبغي
علينا الآن أن نتولَّى الإجابة عليه.
(ب) التضامُن
من الوعي الوحيد الذي يسعى إلى السعادة الأرضية الحسيَّة التي
تتمثل في عبارة «عش كما لو …» والذي يقف من نفسه ومن العالم موقف
الغريب (نماذج المُحال ومرسو قبل صدور حكم الإعدام عليه) إلى الوعي
الوحيد الذي لم يعُد يُحسُّ بالغربة أمام نفسه وإن كان لا يزال
مقطوعَ الصلة بالآخرين (كاليجولا، سيزيف، مارتا ومرسو قبل تنفيذ
حكم الإعدام فيه بقليل) نصل الآن إلى الإنسان الذي يتم له الوعي
بوجوده ووجود الآخرين عن طريق التضامُن، فكيف يتحقَّق هذا الانتصار
على الوحدة؟ سنجيب بقولنا: عن طريق التضامُن. ولكن ما هي طبيعة هذا
التضامُن؟
إنه ينشأ عن الوعي بالشقاء المشترك، سواء أصاب مجموعةً من الناس
أو داهم جميع الناس، ويظهر إلى الوجود بقَدْر مواجهتهم لخطرٍ
مشتركٍ يتهدَّدهم (سواء أكان هو وباء الطاعون أو كارثة الحرب أو
استبداد نُظم الحكم والأساطير الأيديولوجية). في الكفاح المشترك ضد
الخطر المشترك يتحد الناس ويخاطرون بالتضحية بكل شيءٍ لكي ينقذوا
هذا الجزء من كيانهم الذي لا يمكن أن يُرَدُّ إلى فكرةٍ مجرَّدة،
٢٧ ولو كانت هي فكرة الإنسان، ويؤكِّدوا وجود طبيعةٍ
إنسانيةٍ مشتركةٍ تضع لكل فعلٍ مقياسًا وتعيِّن له حدًّا يقف عنده.
وبعبارةٍ أخرى نقول إن الإنسان ينتزعُ ذاته عن طريق العذاب المشترك
من بين جدران وحدته. ويتخطَّى هذه الذات إلى الآخرين ويرتبط معهم
برباط التضامُن لكي يدافع عن حقِّه، لا بل عن واجبه في أن يكون
سعيدًا على هذه الأرض: لقد كسبنا تضامُنَنا عن طريق العذاب.
٢٨ وبهذا التضامُن لم نتخطَّ ذواتنا المحدودة فحسب، بل
انتصرنا كذلك على الوحدة
٢٩ (ولكن بغير أن نحرم الفردَ من حقه في أن يكون وحيدًا،
على نحو ما سنرى فيما بعدُ).
ربما بدا التضامُن من هذا الوصف وكأنه شيءٌ عابرٌ أو عَرَضي؛
فرُبَّ سائلٍ يسأل: ألا يرتبط التضامُن بعذابٍ مشتركٍ حقًّا ولكنه
مرهونٌ بزمان؟ أليس الهدف من ورائه هو الدفاع عن حق الفرد في أن
يكون سعيدًا؟
قد يكون هذا كله صحيحًا. غير أننا لو تذكَّرنا أن حركة التمرد،
التي تعرَّفنا عن طريقها على التضامُن الذي تنطوي عليه عبارة «نحن
نكون»، هي حركة الحياة نفسها،
٣٠ وأن التمرُّد لا يموت إلا بموت آخر إنسانٍ يعيش على الأرض،
٣١ وأن هناك وحدةَ «هُويَّة» بين الإنسان والإنسان قائمة
على الطبيعة البشرية المشتركة،
٣٢ وأن عبارة «أنا أتمرد، فنحن إذن موجودون» تؤكِّدها
عبارةٌ أخرى لا تنفصل عنها وهي «إذا لم يكن لنا وجود، فليس لي أنا
أيضًا من وجود». إذا تذكَّرنا هذا كله لم نجد تناقضًا بين سعادة
فردٍ واحد وبين سعادة الجميع؛ إذ إنهما يقومان معًا على أساسٍ
واحد، وهو تساوي الناس أجمعين،
٣٣ كما يقومان على وجود «شيءٍ ما» لا أستطيع أن أحطِّمه
بدون أن أحطِّم نفسي معه، وليس له من هدفٍ آخر سوى الحياة أو
الوجود نفسه.
٣٤
قلنا إن التضامُن ينشأ بين أناسٍ نزلَت بهم كارثة شقاءٍ واحد.
إنه هو رباطُ القرابة الذي يُوحِّد الضحايا تجاه الجلَّاد، ويجمع
المضطهَدين تحت سوط المستبِد. ورواية «الوباء» — أو الطاعون كما
تسمِّيها الترجمات العربية المختلفة — تصوِّر هذه الوحدة الجماعية
التي تتمثل في عبارة «نحن نكون» والتي تؤلِّف بين سكان «أوران»،
المدينة الجزائرية البائسة التي دهمَها الوباء: «من هذه اللحظة
أصبح الوباء أمرًا يهمُّنا جميعًا.»
٣٥ هكذا يقول الطبيب برنار «ريو» مؤرخ
٣٦ الوباء وراويته. إنه واحدٌ من أولئك الذين يقفون إلى
جانب المعذَّبين في هذه اللحظة وفي هذا المكان. إن أهم شيء بالنسبة
إليه أن يكون أمينًا؛ أعني أن يؤدي واجباتِ مهنته كطبيب، على الرغم
من يأسه من القضاء نهائيًّا على الوباء.
٣٧ وحين يسأله الصحفي «رامبير» عمَّا يقصده بالأمانة
يردُّ عليه قائلًا: «لا أعرف ما هي بوجهٍ عام، ولكنني أعلم أن
معناها في حالتي أن أُمارس مهنتي.»
٣٨
هذه الأمانة هي وسيلته الوحيدة في صراع الوباء.
٣٩ والأمانة عنده معناها أيضًا ألَّا يشتِّت جهوده، وأن
يركِّزها على القيام بواجبه كطبيب. مثل هذا التشتيت يُشبِه
«القفزة» التي يُحاوِل بها الإنسان أن يتهرَّب بها من الموقف
المُحال؛ ومن ثَم كانت الأمانة عنده في أن يمارس مهنته، وأن
يتجنَّب هذه القفزة بكل ما يستطيع. وبينما يهتم راعي الكنيسة الأب
«بانيلو» بنجاة الأرواح، نجد «ريو» يصرف كل اهتمامه إلى شفاء
الأجساد، فالتشتُّت إذن يأتي من جانب بانيلو الذي يرضى بالقدَر
ويستسلم له، ويؤجِّل نجاة الإنسان إلى عالمٍ آخر وراء هذا
العالم.
الحق أن كل تجاوُز لحدود الموقف المُحال (الذي تمثِّله لعنة
الوباء) يعني التشتُّت والضياع في نظر الطبيب «ريو» كما يُساوي
القفزة التي تمزِّق رباط التضامُن والإخاء. وليس الأب بانيلو هو
وحده الذي يُقدِم على هذه القفزة المميتة، حين يضع أقدار البشر في
كفِّ الرحمن، بل إن «كوتار» الذي يعذِّبه إحساس قديم بالذنب يفعل
مثل ذلك. لقد ارتكب جريمةً قبل أن يُداهم الوباء مدينة أوران بزمنٍ
بعيد، وهو يشعُر الآن أنه مستبعدٌ من مجتمع المدينة. إنه يحيا الآن
معهم في تضامُنٍ كاذب، مُفضِّلًا أن يحيا مع الجميع في حالة
الحصار، على أن يحيا وحده مع خطيئته. إنه الشامت المسكين الذي
يُحاوِل أن يُغرِق ذنبه في طوفان الذنب الكبير الذي غمر المدينة
الكبيرة. إنه يفضِّل أيضًا أن يعيش في الشمول، حيث تتلاشى الحدود
الفاصلة بين الخير والشر، وبين الذنب والبراءة، على أن يعيش في
الوحدة التي تؤلِّف بين الجميع؛ ولذلك تظل فكرة البراءة التي
تميِّز كل متمردٍ أصيل، فكرةً غريبةً عليه. ألا يُسعِده أن يحيا
الآخرون بأجمعهم في شقاء لم يستحقُّوه؟ لقد أعلن كوتار — رمز
الهزيمة الذليلة في كل مكان — تفاهُمه مع الموقف الظالم المُحال،
بدلًا من أن يشارك غيره في التمرُّد عليه؛ ولذلك فهو أبعدُ ما يكون
عن روح التمرُّد الحق، وهو عاجزٌ عن الحياة مع غيره من الضحايا
والمتَّضِعين.
قلنا إن التضامُن هو الوجود المشترك لمجموعةٍ من الناس يواجهون
خطرًا مشتركًا، وإنه يقوم على أساس التساوي بين جميع الناس، كما
يقوم على الهُوية أو الذاتية بين كل واحدٍ منهم وبين الآخرين.
ويقودنا هذا إلى السؤال عن وضع الفرد الواحد في داخل الجماعة
المتضامنة، فهل التضامُن معناه حقًّا الانتصار الكامل على الوحدة
والانفراد؟ وهل ينفي الوجود المتضامن
Solidarité الوجود الوحيد
Solitude؟
لنتأمل حالة الدكتور ريو. إنه، وهو التعيس، يحرص على سعادة
الآخرين. إنه يفقد صديقه تارو، ويفقد زوجتَه التي كانت قد سافرَت
إلى سويسرا للاستشفاء قبل أن تتجمع سُحُب الوباء فوق المدينة
بقليل. وهو يبقى إلى جانب مرضاه في أوران، على الرغم من الأنباء
السيئة التي ترِد إليه عن تدَهوُر صحتها، وعلى الرغم من أنه يستطيع
لو شاء أن يُغادر المدينة؛ إذ إن قوانين الحجر الصحيِّ المفروضة
عليها لا تنطبق عليه. إنه يضمُّ يأسه بين جنبَيه، ولا ينقطع مع ذلك
عن الأمل. وفي النهاية يعلم بموت زوجته، كما يعلم علم اليقين أنه
لا سبيل إلى الانتصار على الوباء كل الانتصار.
هل نستطيع أن نجد سببًا موضوعيًّا يُبرِّر هذا الإحساس العميق
بالتضامُن، الذي يبلُغ التضحية بالسعادة الذاتية في سبيل إسعاد
الآخرين؟ إن «ريو» نفسه لا يعرف هذا السبب، ولعله يُنكِر أن يكون
هناك سببٌ على الإطلاق: «ما من شيء في العالم يستحقُّ أن يتخلَّى
الإنسان عمَّا يُحب. ومع ذلك فإنني أتخلَّى عنه، دون أن أدري لذلك
سببًا. هذه هي الحقيقة. هذا هو كل شيء.»
٤٠
هل هي الأمانة التي تدفعه إلى ممارسة مهنته، والحرص على القيام
بواجبه دون نظرٍ إلى أية اعتبارٍ آخر؟ أم هي عاطفة الولاء للمُحال،
التي تكمُن في نفيه والمحافظة عليه في آنٍ واحد؟ أم هو التكرار
السيزيفي الذي لا ينتهي لصراعٍ عقيمٍ لا ينتهي أيضًا ضد الوباء،
دون أن تكون نتيجة الجولة للكسب ولا للخسران؟
٤١
إن «ريو» يرفض أن يبرِّر مسلكه الأمين الغريب، أو لعلَّه في
تواضعه اليائس لا يعرف ولا يريد. وتشتد المفارقة في هذا الرفض إذا
عرفنا أن «ريو» يعي تمام الوعي أن الانتصار على الوباء لن يتعدَّى
أبدًا الانتصار العابر الموقوت.
الحق أن «ريو» يُؤْثِر أن يكون أمينًا على أن يكون سعيدًا. إنه
يجسِّد في شخصيته ذلك الانتقال من الفردية إلى التضامُن، من موقفِ
مَن يقول: «ليس عارًا أن يكون الإنسان سعيدًا»
٤٢ إلى الموقف الذي يصبح شعار الإنسان فيه: «من المخجل أن
يكون الإنسان وحدَه سعيدًا».
٤٣ إن «ريو» يهَب نفسَه لشقاء المرضى المجهولين، بدلًا من
أن ينصرف للعناية بزوجته «التي ترمز إلى السعادة الشخصية». وهو
بذلك يجعل سلوكَه في سبيل إسعاد الجميع، كما يعبِّر عن أمانته
برفضه لأن يستأثر وحده بالسعادة.
٤٤
غير أن «ريو» يظل إلى النهاية إنسانًا وحيدًا، مثله في ذلك مثل
معظم شخصيات كامي. والتضامُن الذي نتحدَّث عنه لم يستطع أن يُلغي
وجوده الوحيد، بل ارتفع إلى مستوى الواجب الأخلاقي؛ ذلك أن
التضامُن لا يجوز له أن يسلبَ الفرد من حقِّه في الانفراد؛ لأن
الإنسان لا يكون وحيدًا، إلا حيث يدافع عن «الواحد» في «وحدته».
٤٥
عالج كامي هذا الموضوع معالجةً معبرةً في أقصوصته «جوناس أو
الفنان أثناء العمل».
٤٦ فجلبرت جوناس (أو لعله يونس في جوف الحوت!) رسامٌ
يتحلَّى بالبساطة المحبَّبة والتواضُع المحمود، ويؤمن بنجمه الذي
يراه دائمًا في صعود. والحقُّ أنه يصل إلى قمة المجد والشهرة،
ويُحسُّ بالسعادة المتزايدة في ظل أبنائه وزوجته، ولكن الأيام
تمرُّ، وتعمل الأسرة، والأصدقاء والنقاد، والتلاميذ على طرده من
حياته الخاصة ومن مسكنه. إنهم يزدحمون حوله ليُحدِّثوه عن الفن،
ويحكُموا على لوحاته، ويفسِّروا ما رسمه ولماذا رسمه، ويلغطوا في
نظرياته الجمالية والفنية التي ينسبونها إليه وهو يُصغي إليها دون
أن يفهم منها شيئًا، ويلفُّون حوله رداء الشهرة رغمًا عنه. وينزوي
الفنان في نفسه شيئًا فشيئًا حتى يقبع في ركنٍ مظلمٍ وحيد. ويتزايد
عدد الزوَّار من كل نوعٍ ومن كل بلدٍ ويحرمونه من عزلته التي لا
غنى له عنها، ويعجز الفنان عن مواصلة العمل. ويلجأ إلى الشرب،
ويقضي أيامه بين المقاهي والمطاعم والحانات، يلتمس الاختفاء عن
أعيُن الناس، مجهولًا لا يعرفه أحد ولا يُثقِل عليه أحد، ولكن هذه
العزلة الكاذبة تزيد أزمته حدَّة. وإذا بفكرة تخطر على باله،
وتُوحي له أن في استطاعته أن يعتزل العالم في مخبأٍ يُقيمه في
مسكنه، بين الأرض والسقف، بعيدًا عن ضجَّة الشهرة والزوَّار،
قريبًا من أهله وأولاده. وينتظر في هذا المخبأ المعتم أن يُطلَّ
نجمه من جديد. وذات مساءٍ يطلبُ لوحةً وفرشاةً وفي نهاية اليوم
التالي يسقط على الأرض في سكون. أما اللوحة فقد بقيَت بيضاء، ولكن
نبش في وسطها بحروفٍ صغيرةٍ لا تكاد العين تراها كلمة لا يدري أحدٌ
إن كانت هي «وحيد»
Solitaire أو
«متضامن»
Solidaire.
بين حاجته إلى الوحدة وواجبه في الانضمام إلى المجموع مزَّق
الفنان حياته وفنه؛ فما التضامن في حقيقة الأمر إلا هذا التمزُّق
بين الوجود الوحيد والوجود المتضامن، وما «نحن نكون» التي وجدناها
في صميم فعل التمرُّد، إلا مجموعة من «الأنات» الوحيدة. ولا يمكن
أن نفهم اﻟ «نحن نكون» حتى نضمَّ إليها «نحن نكون وحدنا» التي لا
تنفصل عنها،
٤٧ ولكن هذه الكينونة أو هذا الوجود لا يمكن أن يبقى
حيًّا إلا عن طريق التضامُن وارتباط الناس بعضهم ببعض.
٤٨ والتضامُن بدوره لا يحتفظ بالحياة إلا في ظل الديالوج
الحرِّ، الذي نستطيع أن نتعرَّف فيه على إنسانيتنا الحقَّة، ونعترف
بوجودها عند الآخرين، ولكن ما هو الديالوج وما الفرق بينه وبين
المونولوج؟
قبل أن ننتقل إلى الإجابة على هذا السؤال نجد لزامًا علينا أن
نواجه سؤالًا آخر، وهو إن كان التضامن يستطيع أن يمدَّنا بقاعدة
للسلوك، وإن كان من الممكن أن نجد تعبيرًا واقعيًّا عنه في حياتنا
المعاصرة، التي وصل فيها الصراع بين الأيديولوجيات إلى ذروته
المخيفة.
فإذا سأل سائلٌ عن قاعدة السلوك التي يستطيع التضامن أن يقدِّمها
لنا، والتي لا نحتاج معها أن ننتظر إلى نهاية التاريخ لكي نفسِّر
بها أفعالنا، جاءته قاعدة «فعلُنا ومقاومتُنا» في هذه الصيغة: «كل
ما يحُط من قيمة العمل يحطُّ في الوقت نفسه من قيمة العقل، والعكس
صحيحٌ. وبذلك يكون الكفاح الثوريُّ والسعي الدنيوي (أي غير المستند
إلى عقيدةٍ سماوية) إلى التحرُّر هو الرفضُ المتصل للإذلال،
والدحضُ المضاعف له.»
٤٩ وقد نجد تلك القاعدة في صياغةٍ أخرى: «إن من واجبنا أن
نقدِّم الدليل على أننا لا نستحقُّ هذا الظلم كله.»
٥٠
لا شك فيما تنطوي عليه هذه القاعدة من نُبل، وما تفيض به من
إحساسٍ صادقٍ بعذاب الإنسان. ولكنها لم تحدِّد لنا الأفعال
الواقعية التي تنطبق عليها على مستوى الجماعة، ولم تبيِّن نوع
الظلم الذي لا نستحقُّه والذي ينبغي علينا أن ندفعه عن أنفسنا، ولا
تضع يدها على الظالم الذي يتحتَّم علينا أن نواجهه، ولا توضِّح لمن
نقدِّم الدليل على أننا لا نستحقُّ كل هذا الظلم. كل هذه الملاحظات
تجعلنا نؤيد النقد الذي وجَّهه «سارتر» وفرانسيس جانسون إلى كامي،
واتهماه فيه بالتمرُّد الحالِم المتعالي على الواقع الاجتماعي.
٥١
غير أننا لن نستطيع أن ننساق وراء هذا النقد من كل نواحيه؛ فلو
سألنا إن كان هناك في عالمنا الحاضر تعبيرٌ سياسيٌّ عن التضامن
نستطيع أن نُنقِذ به كرامتَنا المشتركة من الإذلال والهوان، لجاءنا
الرد بالإيجاب، وعرفنا أن ذلك ممكنٌ عن طريق الحياة النقابية؛
فالحياة النقابية تقوم على المهنة التي تلعب في النظام الاقتصادي
نفس الدور الذي تلعبه الجماعة في الحياة السياسية والمدنية؛
فالنقابة الحرة هي الخلية الحيَّة التي ينبني عليها الكيان العضوي.
٥٢ إنها تختلف عن الأيديولوجيات السياسية والعقائد
التاريخية التي تبدأ من المذهب وتُحاوِل بعد ذلك أن تحشُر الواقع
فيه؛ فالنقابة تبدأ من الواقع العينيِّ الحي، من الحرفة والقرية،
اللتَين يختلج فيهما الوجود، وينبض فيهما القلب الحيُّ الذي يخفق
في الأشياء وفي الناس.
٥٣
واختيار الحياة النقابية معناه اختيار الجماعة بدلًا من الدولة،
والمجتمع الواقعيُّ بدلًا من المجتمع النزَّاع إلى المطلق، والحرية
المتبصرة بدلًا من الطغيان العقليِّ، والفردية المُؤثِرة للغير
بدلًا من تكتيل الجماهير. إنه بعبارةٍ واحدة الإيمان بالحدِّ
والمقياس، بروح البحر الأبيض وبالفكرة المشمسة، واختيار الديالوج
الحرِّ على المونولوج الأجوف المُمِل.
٥٤
(ﺟ) الديالوج والمونولوج
المعنى الأصلي لكلمة «ديالكتيك» يقوم على إمكانية الحوار
والتخاطُب (أو الديالوج) وهذه الكلمة الأخيرة مشتقةٌ من الفعل
اليوناني «ديالجستاي»
Dialegesthai ٥٥ الذي دخل اللغة اللاتينية في صورة الكلمتين
Dialecticus, Dialectice ثم
انتقل منها إلى اللغات الأخرى. ومعناه الحوار أو الحديث، أو
التخاطُب، أو المناقشة في موضوع من الموضوعات من أطرافه المتعددة،
ولكن المحاورة تفترض وجود شخصٍ آخر نحاوره، ونتحدث معه في أمر من
الأمور، ونعرضه عليه أو نحلِّله له، فالحوار يتم إذن على هيئة
«الكلام مع»، وشرح قضية من القضايا أو حقيقة من الحقائق، شرحًا
يتبادل فيه سؤالٌ وجواب، وكلام وردٌّ على كلام. ويتخذ هذا الحوار
صورته الحادَّة في هيئة نزاعٍ أو خلاف، كان له عند قدماء اليونان
أساتذته العارفون به المتمكِّنون منه
٥٦ وهم الذين كان يسمَّى الواحد منهم بالديالكتيكوس
Dialecticus.
في الحديث أو الحوار الديالكتيكي، وبخاصة في أحد صوره وهو
الديالوج، تتجلى حركةٌ فكريةٌ تدور بين قطبَين هما الفكر السالب
والفكر الموجب. في هذه الحركة التي تتم بين النفي والتأكيد، أو بين
الموضوع ونقيض الموضوع، يكون ثمَّة مجال للحديث ونقيضه، للقول
والرد عليه. ومعنى هذا أن الحديث الذي يُعدُّ حالةً أصيلة مميَّزة
من أحوال وجود الإنسان مع غيره هو في جوهره حديث مع الغير؛
٥٧ ومن ثَم فإن الحديث الأصيل لا يمكن بحسب طبيعته أن
يُحدَّد من قبلُ. ولا أن يُملى من قمة جبلٍ وحيد.
٥٨ وليس من المستطاع كذلك أن يُتعسف أو يُفرض، بل لا بد
له لكي يحتفظ بحقيقته من أن ينمو ويتفتَّح في حرية من ذات
نفسه.
إن الحوار أو الديالوج هو العلاقة الأولية الأصيلة في حياة
الإنسان مع غيره، وهي أساس وجوده كحيوانٍ اجتماعي. وفي هذه العلاقة
التي تتجسَّد في الحديث الحرِّ بين إنسان وإنسان، تقف الأنا حرَّة
في مواجهة الأنت، في علاقةٍ متبادَلة، بعيدة عن إرادة السيطرة أو
المنفعة، مجرَّدة عن المبدأ الذي يتسلَّط عليها أو يتحكَّم في
سيرها. هنا يتحقق الوجودُ الحيُّ مع الآخرين، لا الوجود المجرَّد
من فوقهم. ويتصل السؤال والجواب، والأخذ والإعطاء، والنفي
والتأكيد، وترتبط حلقاتها في زمانيةٍ واحدةٍ مباشرة؛ فالبُعد الذي
يتحرك الحوار الديالوجي في دائرته بُعدٌ لم يتحدَّد تحديدًا
قبليًّا ولا بعديًّا. لا من الماضي ولا إلى المستقبل، بل لا يمكن
إلا أن ينبثق في حضورٍ نابضٍ حي.
وبقَدْر ما يكون الديالوج علاقةً أوليةً أصيلةً بين أشخاص،
بقَدْر ما يفترض اللقاءَ الحق بين اثنَين يعترف كلاهما بما لصاحبه
من شخصيةٍ كليةٍ مفردةٍ ومتكاملة. ويُخاطِب كلٌّ منهما الوجود
الكائن في صاحبه لا الوجود الذي لم يتحقَّق بعدُ. الإنسان الدي
يبحث عن الديالوج، يبحث عن وجوده الذي هو عليه، لا عن وجودٍ مجردٍ
مُلقًى في غياهب الماضي أو مُلتفٍّ بضباب المستقبل؛ ولذلك كان
الديالوج الحقُّ ممكنًا بين أناسٍ يبقَون على ما هم عليه؛
٥٩ فالعبارة التي أوردناها فيما تقدَّم والتي تقول «إن
المظهر يصنع الوجود»
٦٠ لا يمكن أن تحتفظ في هذا السياق أيضًا بصحتها، بل
الأَولى الآن أن يُقضَى على المظهر وعلى الرغبة في الظهور من أجل
النفاذ إلى الوجود نفسه.
إن إنقاذ الديالوج معناه المحافظة على الإنسان في حالته النقية
الأصيلة، والرجوع به إلى منبع التمرُّد المعتدل المحدود. والدفاع
عن الديالوج على المستوى الإنساني معناه الدفاع عن القيمة البديهية
الأولى التي وجدناها في صميم التمرد، وتأكيد وجود «نحن نكون» عن
طريق التضامن الحر بين أناسٍ يكافحون معًا قدَرًا ظالمًا مُحالًا؛
ذلك أن هذا «البعض من الوجود»،
٦١ هذا الشيء الكامن في صميم الإنسان الذي يرى فيه ذاته
الحقيقية، وهذا الجزء من وجوده الذي يريد أن يخلُق له الاحترام
والتقدير، لا يمكن الإبقاء عليه إلا عن طريق التواصُل الشامل بين
الناس؛ أعني عن طريق الديالوج الحرِّ بين بعضهم والبعض. وكل متمردٍ
يقف في صف الديالوج بين الناس، ويبذل جهدَه لإحيائه والإبقاء عليه،
إنما يقف في الوقت نفسه في صف الحياة، ويُلزِم نفسه بمكافحة
العبودية والرعب والكذب
٦٢ وإذا كان التمرد بطبيعته احتجاجًا على الموت، فهو لا
يملك إلا أن يُصارع هذه الأوبئة الثلاثة التي تنشُر الصمتَ أو
حُكمَ المونولج بين الناس، وهو الذي ينتهي بالضرورة إلى القتل
والقسوة والعنف.
والأمر الآن مع المونولوج يختلف عنه مع الديالوج؛ فالأول يقوم
على حركةٍ فكريةٍ تتطور في خطٍّ مستقيم، وتستخلص النتائج من
مقدِّماتها الضرورية؛ فبينما يُحاوِل الديالوج أن يؤيد عدة حقائق
أو حقيقةً واحدة من جوانبَ مختلفة، نجد المونولوج يهدف إلى إثبات
حقيقةٍ واحدةٍ عن طريق منهجٍ محدَّدٍ مرسوم من قبلُ. حينئذٍ يسقُط
الاستقطاب الذي لاحظناه في الحوار الحر بين السؤال والجواب،
والموضوع ونقيض الموضوع، والكلام والردِّ على الكلام. هنا لا يكون
ثمَّة مجال للأخذ والعطاء، والمناقشة الحرة المستأنية بين الأطراف
المشترِكة في الحديث؛ لأن هناك صوتًا واحدًا يُملي من فوق، ولا
يستطيع ولا يريد أن يسمع إلا صداه. ويُسقِط وجود الطرف الآخر، ولا
يعود يعترف بشخصيته الواحدة الكلية المتكاملة، بل يُردُّ إلى محض
شيء أو موضوع؛ ذلك لأن نفي الحديث، وهو بحسب ماهيته تخاطُبٌ مع
الآخرين يجعل «الشيء» يتقدم على «الشخص»، لا بل يُحيل الشخص نفسه
إلى شيءٍ أو أداة.
٦٣ ويضيع التفتُّح الذاتي، الذي يقوم عليه كل حديثٍ أصيل.
وينعدم السؤال، ولا يعود ثمَّة مجالٌ إلا للجواب؛ أعني للصمت
والخضوع. بل إن المونولوج الذي يقع خارج دائرة السؤال-والجواب،
وخارج علاقة الأنا-بالأنت لا يمكن أن يحتمل التغيُّر والصيرورة؛
ومن ثَم فهو يستبعد الزمانية من بنائه. إن المونولوج بطبيعته لا
زمني، وكل ما هو غريبٌ عن الزمان فهو غريبٌ عن الوجود.
هذا الصراع بين المونولوج والديالوج يظهر في أجلى صورةٍ في رواية
كامي الأخيرة أو قُل دُرَّته الفريدة «السقطة».
٦٤ إن بطلَها القاضي المكفِّر عن ذنبه جان بابتست كليمانس
يضرب لنا المثل الواضح على الحياة التي يقضيها صاحبُها أسير
المونولوج. إن الشقاء الذي يُعانيه الناس يرجع في نظره إلى أنهم لا
يقدرون على أن يدخلوا في حديثٍ مشتركٍ أصيل فيما بينهم، ولا أن
يعيشوا في حوارٍ بكل ما يميِّزه من حرية وتفاهُم، ومن محبةٍ
وتعاطُف. إنهم في نظر بعضهم مجرَّد موضوعاتٍ تُلاحِظ بعضها أو
تستخدم بعضها، فهم عاجزون عن تحقيق العلاقة الديالوجية الأصيلة
التي تربط الإنسان بالإنسان. إنهم يتحدَّثون حقًّا مع بعضهم، ولكن
أحاديثهم تمضي عبثًا، ولا تُحدِث لقاءً حقيقيًّا بينهم: «… نحن لم
نعُد نقول كما كان يحدُث في الأزمنة السالفة الطيبة: هذا هو رأيي،
فما هي اعتراضاتُك عليه؟ لقد تفتَّحَت اليوم عيوننا. واستبدلنا
بالديالوج الأوامر.»
٦٥
إن حديث كليمانس مع صاحبه الذي لا نسمعه ولا نراه هو في الحقيقة
حديثٌ مع ذاته، أو حوارٌ باطني من طرفٍ واحد، لا يستطيع هو نفسه أن
يُسمِّيه حديثًا. وصاحبه الخفيُّ زميله في المهنة والوطن، وهو بذلك
يمثِّل ذاته الماضية التي لا يكُفُّ عن اتهامها واتهامنا معها، في
مونولوجٍ متصل يُعيده علينا.
كان كليمانس محاميًا ناجحًا مرموقًا في باريس، راضيًا عن نفسه
وعن العالم، مغتبطًا بفضائله الزائفة، سعيدًا بتمثيل دور الإنسان
الطيب الشاعر بواجبه. ظل يعيش هذه الحياة الراضية المنافقة، لا
يعرف نفسه ولا يُحاوِل أن يعرفها، حتى كانت تلك الليلة الحاسمة على
مفترق الطريق؛ كان يعبُر على أحد جسور نهر السين فإذا به يسمع
صرخةً مكتومةً لامرأة شابةٍ مجهولة، نحيلةٍ متَّشحةٍ بالسواد، كان
قد رآها منذ قليلٍ مائلةً بجسَدها على سور الجسر. سمع صوت شيءٍ
يرتطم بالماء، وتناهت إليه استغاثةٌ فتوقف عن المسير، وتردد فلم
تُواتِه الشجاعة الكافية ليُحاول إنقاذها. ولم يطُل تردُّده أكثر
من لحظات، ولكنها اللحظات التي تكفي لتغيير المصير: «كنتُ قد قطعت
حوالي الخمسين مترًا عندما سمعتُ صوت اصطدام جسمٍ بالماء. وعلى
الرغم من المسافة التي تفصلني عنه، فقد بدا لي في سكون الليل كأنه
صوتٌ هائلٌ مرتفع الضجيج. ظللتُ واقفًا ولم ألتفِت ورائي. وسمعتُ
في الوقت نفسه صرخةً تتكرر عدة مرات، متجهةً مع تيار النهر المنحدر
جنوبًا، ثم خرسَت مرةً واحدة. أردتُ أن أُتابع سيري، ولكنني لم
أستطع أن أتحرَّك من مكاني. قلتُ لنفسي إن الأمر يحتاج إلى السرعة،
وأحسستُ كأن شيئًا لا سبيل إلى مقاومته قد تسلَّط على جسدي … رحتُ
أتنصَّت وأنا جامدٌ في موضعي، ثم ابتعدتُ في خطواتٍ مترددةٍ والمطر
يتساقط عليَّ. ولم أُخبِر أحدًا.»
٦٦
كانت سقطة هذه الشابة البائسة في الماء هي سقطته في الخطيئة،
ونقطة التحوُّل في حياته. منذ تلك الليلة والصرخة التي لم يسمعها
أحدٌ سواه ولم تستنجد بأحدٍ غيره تتردَّد في أذنَيه وتؤرِّق نومه:
نوديت، ولكنني لم أستمع إلى النداء. امتدَّت يدٌ مجهولة، ذات ليلةٍ
باردةٍ معتمةٍ تستنجد به. ولكنه لم يمُدَّ يده إليها، لم يُنقِذ
الغريقة ولا أنقذ نفسه معها. إنه الآن الغريقُ على اليابسة، يُنادي
في صوتٍ يائسٍ بعد فوات الأوان: «أيتها الفتاة! ألقي بنفسكِ مرةً
أخرى في الماء لكي يتسنَّى لي مرةً ثانية أن أُنقِذك وأُنقِذ نفسي معك!»
٦٧
من تلك الليلة وهو يحلِّل نفسه تحليلًا ساخرًا مريرًا، ويوجِّه
الاتهام القاسي إليها وإلى البشر جميعًا. إنه يكتشف الآن أنه لم
يُحبَّ إلا نفسه، ولا تذكَّر شيئًا إلا نفسه.
٦٨ والذي يعذِّبه أنه لم يستطع أن يُحِب إنسانًا ولا أن
يُحَب من إنسان: «لا يستطيع الإنسان أن يعيش بغير أن يحب نفسه.»
٦٩ وهو يمضي في اعترافاته فيقول: «إنني لم أتغير عمَّا
كنتُ عليه، ما زلتُ أُحب نفسي واستخدم غيري في مصلحتي.»
٧٠ وأقربُ الناس إليه لا يُحبُّونه، بل يُدينونه:
«تحدَّثتُ يا سيدي عن الحساب الأخير. لقد عانيتُ أسوأ ما يُمكِن أن
يُعانيه الإنسان، وذلك هو حساب الناس.»
٧١ إنه لا يكتفي بأن يتهم نفسه ويدينها، فينبغي على
الآخرين أيضًا أن يتهموه ويدينوه: «ولكن من لديه الجرأة ليحكُم
عليَّ في عالمٍ بغير قضاة، عالمٍ ليس فيه بريء؟» وهكذا يتكشَّف له
مجتمعُ الناس عن مجتمع من القضاة والمجرمين، كل مَن فيه متَّهَم أو
متَّهِم، يسيرون صفوفًا ترتعش تحت نظرةٍ قاسيةٍ يسلِّطها عليهم
قضاة محاكم التفتيش. لقد أصبح كليمانس قاضيَ نفسه ومتهمَها
والمكفِّر عن ذنبها، يوجِّه اتهامه الساخر المرير إليها وإلى الناس
وإلينا جميعًا. لقد أغلق أبواب مكتبه في باريس، وراح يسافر من بلدٍ
إلى بلد، حتى استقر به المطاف في حيِّ الميناء في مدينة أمستردام،
في حانةٍ متَّسِخة (مكسيكوسيتي بار) رخيصة، ينبش في ضمير كل من
يتحدَّث إليه، مثل نبيٍّ كاذب يُنادي فيضيع صدى صوته في صحراءَ من
الضباب والحجارة والأنانية (واسمه اللاتيني يدُلُّ على صوت المنادي
في الصحراء).
وإذا كان كل قاضٍ يُنهي حياته بالندم أو بالرغبة في التكفير عن
الذنب، وإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يُدين غيره بغير أن يُدين
نفسه معه، فإن كليمانس يرى من المحتوم عليه أن يسير في الاتجاه
المضاد؛ فيبدأ بالحكم على نفسه لكي يتسنَّى له بعد ذلك أن يُصدر
حُكمَه عليهم ويُفلِت بذلك من حُكمِهم عليه، ثم يسير من «الأنا»
إلى «النحن»، حتى تصبح الصورةُ التي يضعها أمام الناس هي المرآة
التي يرى نفسه فيها،
٧٢ وينتهي بأن يعمِّم حكم الإدانة على الجميع دون
استثناءٍ ودون رحمةٍ أو إشفاق «عندي لا تُمنح البركة لأحد، بل
يقدَّم الحساب بكل بساطة.»
٧٣
إن اتهام كليمانس لنفسه وللناس هو محاولته اليائسة الأخيرة
للإفلات من سجن ذاته والاتصال بالآخرين. ولكن اعترافه المُفعَم
بالشك والسخرية والمرارة لا يهدفُ إلى هداية الناس إلى الديالوج
(فسخريته القاتلة وتهكُّمه الهدَّام يحولان بينه وبين ذلك) بقَدْر
ما يهدف إلى تبصيرهم بهذه المعرفة المرة التي وصل إليها؛ نحن لا
نستطيع أن نهرب من الأنا. نحن نعيش في صحراء المونولوج. إنه، وهو
الذي عرف في النهاية أنه مذنبٌ وأناني، يُصمِّم الآن على أن يبدأ
حياةً جديدة، وأن ينسى نفسه ولو مرةً واحدة قبل مماته من أجل
إنسانٍ آخر.
٧٤ إنه الآن يرى الصورة الحقيقية المضادة له ولأشباهه
منعكسةً في إنسان «كان صديقه يعيش في السجن، وكان هو ينام كل ليلةٍ
على الأرض الرطبة العارية لكيلا يتمتَّع بشيءٍ حُرم منه صديقه المحبوب.»
٧٥ ثم يسأل مُحدِّثه الخفي هذا السؤال الذي يفضح عذابه
وعذاب الناس في هذه الأيام: «مَن يا سيدي العزيز، مَن منَّا على
استعدادٍ اليوم لأن ينام على الأرضِ من أجلنا؟!»
كاليجولا كذلك مثَل على حياة المونولوج التي تنتهي إلى الجريمة
والقتل. يقول سيزوينا عنه: «إن روما بأَسْرها ترى كاليجولا في كل
مكان، ولكن كاليجولا لا يرى في الواقع إلا فكرته.»
٧٦ لقد تملَّكَته هذه الفكرة، كما تملَّك هو كل وسائل
البطش والقوة التي تمكِّنه من تنفيذها في الفعل والواقع. لم يستطع
أحدٌ من رعيته أو المحيطين به أن يقنعه بأن فكرته ضربٌ من المُحال.
وكل إنسان لا يمكن إقناعه فهو إنسانٌ يبعثُ الخوف في النفوس.
٧٧ إن كاليجولا يريد أن يصل إلى القمر، وأن يتخلَّص الناس
من الموت، وأن يجعل من المستحيل أمرًا ممكنًا. إنه بعبارةٍ واحدةٍ
يريد أن يحقق المُحال على الأرض. ولكن ما بقي الناس يموتون
ويُحسُّون بالشقاء، وما بقي المُحال بعيدًا عن أن يتحقَّق على هذه
الأرض، وكاليجولا بعيدًا عن أن يلمس القمر بيدَيه، فهو مضطرٌ إلى
أن يتابع منطقه المُحال ويعتزل الحياة في المجتمع، ويحطِّم
الديالوج ليعلن حكم المونولوج. وهذه الحياة في المونولوج تتجلَّى
فيما يُصدِره من أوامر القتل بالجملة، ومن تدبير مجاعةٍ مصطنَعة.
وإهدار شرف رجال البلاط. ولا يبقى أمام كاليجولا في النهاية إلا أن
يموت باختياره، بعد أن عرف أنه ما من إنسان يستطيع أن يُنقِذ نفسه
بمفرده، وأن الحرية لا يمكن أن تتحقَّق على حساب الآخرين.
تصل المأساة إلى ذروتها، عندما يكون البطل أصَم.
٧٨ وكاليجولا واحدٌ من هؤلاء الأبطال الصُّم، الذين لا
يستطيع أحدٌ أن يُقنعهَم؛ لأنهم يُوصِدون دونهم أبواب الديالوج.
إننا نستطيع الآن أن نرى فيه أحد آباء الأيديولوجية الذين يستبدلون
بالإنسان الواقعي الذي يعيش في الحاضر فكرةً مجردةً عن إنسانٍ آخر
لم يولَد بعدُ، ولا يزالون يتنبَّئون به من جيلٍ إلى جيل. إنهم
يعتقدون أنهم بأفكارهم المطلقة يملكون الحق المطلق. وليس في وسعهم
ما داموا يعيشون في المونولوج إلا أن يتَّبِعوا منطق المُحال عند
كاليجولا، الذي رأينا كيف انتهى بالضرورة إلى القتل والبطش
والتعذيب. وعلى ذكر المنطق يجدُر بنا على كل حالٍ أن نُلاحِظ أن
كامي لا يعترض على المنطق ولا يدحض التفكير المعقول في حدِّ ذاته،
بل يعترض على الأيديولوجية التي تستبدل بالواقع الحيِّ سلسلةً من
الحُجج المنطقية، وتعصب عينَيها عن الحياة لتُلقيَ بنفسها في أحضان
التجريد. لقد حاولَت الفلسفات التقليدية في رأيه أن تفسِّر العالم،
لا أن تفرض عليه قانونًا بعينه، كما تفعل الأيديولوجيات
المعاصرة.
كان الوباء كما رأينا مونولوجًا طويلًا مجرَّدًا، أمام ما يمكن
أن نسمِّيه بدولة المونولوج. اختفت العواطف في هذه الدولة ليحُلَّ
محلَّها التجريد، تلاشى الجسد واللامعقول وتركا مكانهما للفكرة
والمنطق. وُضِع الإنتاج في موضع الإبداع الحيِّ الخلَّاق، وبطاقة
التموين في مكان الخبز، والنظرية والمذهب محل الصداقة والحب. ولم
يكن عجيبًا بعد هذا أن يكون المونولوج رمزًا لعالم الرعب المنظَّم المعقول،
٧٩ وأن تحُلَّ الدعاية والجدل — وهما نوع من المونولوج —
محل الديالوج، وهو العلاقة الأوَّلية الأصيلة التي تؤلِّف بين الناس.
٨٠
هكذا يقوم عالم المونولوج؛ أعني عالم الشمول والمحاكمات والثورات
التي أفلتَت من كلِّ حدٍّ ومقياسٍ في مواجهة عالم الديالوج؛ أعني
عالم الوحدة والصداقة والتمرُّد المعتدل المحدود. لقد بدأ الصراع
العظيم غير المتكافئ بين قوى الرعب وبين قوى الديالوج.
٨١ وهذا الصراع المستمر بين الديالوج والمونولوج، بين
الإقناع والإرهاب هو في الوقت نفسه صراع بين الحدِّ وبين الإفلات
من كل الحدود، بين التردُّد الذي يثور ليؤكد حقيقته القائلة: «نحن
موجودون»، وبين الثورات التاريخية التي لا تملُّ من تكرار شعارها:
«نحن سوف نُوجد في المستقبل».
ليس في استطاعة أحدٍ أن يتكهَّن بنتيجة هذا الصراع، وليس له
أيضًا أن يخدع نفسه بالتفاؤل أو بالتشاؤم. ولكن علينا مع ذلك أن
نؤمن دائمًا بأن هناك في العالم كثيرين قد صمَّموا على مواصلة هذا
الصراع. إن برنامج الغد لا يمكن إلا أن يكون هو دولة الديالوج أو
الموت الرائع لشهوده وأنصاره.
٨٢ والأمر بعدُ ليس أمر إعادة العلاقة الديالوجية بين
شخصٍ وآخر، أو بين نظامَين اجتماعيَّين أو أيديولوجيتَين مختلفتَين
فحسب، بل هو قبل كل شيءٍ العمل على إزالة «سوء التفاهُم» الذي
يحطِّم كل إمكانيات الحوار الأصيل بين الإنسان والعالم. إن الإنسان
الذي يعلن تمرُّده على المُحال في صوره الميتافيزيقية والاجتماعية
والتاريخية لا يطمح في نهاية الأمر إلى شيءٍ مقدارَ طموحه لإعادة
حقيقة الديالوج إلى قيمتها وأصالتها الأولى. وتمرُّده لا يكون
تمرُّدًا بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة حتى يقف في وجه المونولوج
(أعني في وجه السيادة المجردة المطلقة للمُحال) ليؤيد الديالوج
(أعني التراحم الشامل بين الإنسان والإنسان والتفاهُم الحقيقي بينه
وبين العالم)؛ فإنقاذ الديالوج هو الواجب الأساسي المُلقَى على
عاتقَيه في العصر الحديث، وهو في نفس الوقت تأكيدٌ لطبيعةٍ
إنسانيةٍ مشتركةٍ بين الناس جميعًا على اختلاف ميولهم وأجناسهم
وعقائدهم، وعودٌ إلى المنبع الأصيل للتمرد الحيِّ الخلَّاق.
(د) عبارة كامي وعبارة ديكارت
يؤكِّد كامي في مواضعَ عديدةٍ من كتاباته قرابتَه الروحية
والعقلية لديكارت؛ فليس المُحال على مستوى الوجود مكافئًا للشك
المنهجي عند ديكارت فحسب،
٨٣ وليس تحليل عاطفة المُحال في كتابه «أسطورة سيزيف»
مجرَّد تطبيقٍ لهذا الشك المنهجي على هذا «الداء الروحي» الذي
يُعاني منه العصر،
٨٤ بل إنه يذهب إلى أن التمرُّد يقوم في مجال التجربة
الإنسانية بنفس الدور الذي يقوم به الكوجيتو (أنا أفكر) الديكارتي
المشهور في مجال الفكر. ويعبِّر كامي عن هذا التشابُه تعبيرًا
واضحًا في عبارته التي أوردناها مرارًا في الصفحات السابقة ونعني
بها عبارة «أنا أتمرد، فنحن إذن موجودون»، وهي التي تشبه من حيث
صياغتها اللغوية على الأقل صياغة الكوجيتو المشهور: «أنا أفكر فأنا
إذن موجود».
٨٥ وسوف نُحاوِل الآن، مستعينين بالكوجيتو الديكارتي، أن
نُحلِّل عبارة ديكارت لنرى مدى التشابُه بينها وبينه ولنتعرَّف على
بنائها وطبيعتها.
من المعلوم أن عبارة ديكارت المشهورة، التي تُسمَّى في صياغتها
بالمختصرة باسم الكوجيتو، ترِد في الصيغة الآتية: أنا أكون أنا
موجود
Ego sum, ego existo ٨٦ أو في الصيغة الأخرى الذائعة الصيت، التي فضَّلها
ديكارت نفسه وإن كانت لا تخلو من الغموض وازدواج المعنى: أنا أفكر،
فأنا إذن موجود
Ego cogito, ergo
Sum ٨٧ إن ديكارت يُطبِّق الشك إلى أقصى مداه، في تماسكٍ
منطقي شديد؛ إنه لا يستثني حقيقةً واحدة لا يضعها موضع الشك
والسؤال، لا يُفاضل في ذلك بين حقيقةٍ وأخرى، ولكن هذا التطبيق
الكامل للشك، باعتباره فعلًا من أفعال الفكر، ينطوي هو نفسه على
الفعل الذي ينتصر على الشك ويُلغيه. ويمكن أن نعبِّر عن ذلك في هذه
الصورة: «إنني لا أستطيع، وأنا أشك في كل شيء، أن أشك في
شكِّي.»
هذا العجز من جانبي عن الشك في الشك يجعل من فعل الفكر السالب
معرفةً إيجابيةً موضوعية يُعبِّر عنها الشطر الثاني من جملة أنا
أفكر فأنا إذن موجود؛ فالبداية السلبية النافية التي ابتدأ منها
التفلسُف؛ أعني الشك القاطع في كل شيءٍ لا أجد أنه بلغ من اليقين
مبلغًا مطلقًا، هو الذي يمهِّد لي الطريق إلى يقينٍ إيجابيٍّ لا
يتزعزع، وأعني به أنني لا أستطيع أن أشُك في شكِّي. وإذن فيقين
الكوجيتو الذي لا يتزعزع لا يمكن فهمه إلا من الشك الشامل في كل
شيء، وهو الذي لا يمكنه أن يشُك في نفسه. وإذن فلا بُد من أن نفهم
هذا الفعل الفكري الفريد المباشر فهمًا ديالكتيكيًّا. بحيث نستطيع
أن نعبِّر عنه على هذا النحو: «أنا أشكُّ في كل شيء، أنا لا أستطيع
أن أشُك في كل شيء.»
٨٨ ومعنى هذا أن النظر في الكوجيتو — أنا أفكر، إذن فأنا
موجود — نظرةً مستقلةً عن دليل الشك يؤدي إلى اعتباره صياغةً
مختلطةً يمكن أن تُحمل على أكثر من معنًى، وربما فُهم على أنه
قياسٌ من النوع الذي يُسمَّى في المنطق باسم قياس تحصيل الحاصل،
كما فعل كانْت بالفعل.
٨٩
ويهمُّنا الآن أن نسأل إلى أيِّ حدٍّ يشبه المُحال الشك المنهجي؟
وهل يمكن أن نُقارن بين تفكير المُحال وبين شكِّ ديكارت؟
حقًّا إن كامي يعلن في بداية كتابه «أسطورة سيزيف» أن تأملاته عن
«مرض العصر» خطوةٌ مؤقتة، وأنه لا يصحُّ أن يتعجَّل القارئ بالحكم
على وجهة النظر التي تعرضها. وإذن فوصف المُحال أو مرض العصر، الذي
يسمِّيه بالتأمل المُحال، نقطةُ ابتداء أوليةٌ ضرورية، مهمتها أن
تمهِّد الطريق لشفاء هذا المرض والتغلُّب عليه. حتى إذا جاءت مرحلة
التمرد، وجدناه في الصفحات الأولى من كتاب «التمرُّد» يُشبِّه
المُحال بالشك المنهجي عند ديكارت ويضعه معه على قدَم المساواة،
ولكننا لو أمعنَّا النظر قليلًا لوجدناه يختلف عن الشك المنهجي
اختلافًا أساسيًّا.
الواقع أننا نستطيع أن نتحدَّث عن «كوجيتو المُحال» عند كامي،
ولكننا مضطَرون إلى التفرقة بينه وبين الكوجيتو الديكارتي؛
فالتحليل الدقيق الذي يقوم به لمرض العصر لا يمكن أن يُطابِق الشك
المنهجي مطابقةً تامةً؛ فهو من ناحية يفوق في تطرُّفه الشك
الديكارتي، حتى لنستطيع أن نقول إنه في وصفه للمُحال يغالي في
الشك، بل في الرفض والإنكار، مغالاةً تسدُّ عليه طريق التغلُّب
عليه فيما بعدُ. ولعلَّنا قد لاحظنا من الصفحات السابقة أن النفي
في التأمل المُحال أقوى وأبعدُ بكثيرٍ من النفي في الشك المنهجيِّ
الذي يظلُّ على الرغم من كل ما يزعمُه ديكارت شكًّا مؤقتًا؛ ذلك أن
الشك عند كامي — وكلمة الشك كلمةٌ مخفَّفةٌ بغير نزاعٍ للرفض
المطلَق الذي ينطوي عليه المُحال — لا يمتدُّ إلى الحقائق اليقينية
التقليدية فحسب، بل إنه يستبعد كل إمكانيةٍ في بلوغ اليقين بما هو
كذلك، كما يُنكِر أن تكون ثمَّة حقيقةٌ على وجه الإطلاق، ولكن
التأمل المُحال من ناحيةٍ أخرى — وفي هذا يكمُن التناقض الحقيقي
الذي ينطوي عليه المُحال الذي يضمُّ اللحظتَين المتضادتَين في
بنائه الديالكتيكي، ونعني بهما اللا والنعم، أو النفي والتأكيد —
يسمح منذ البداية بوجود يقينٍ لا يمسُّه، ونعني به الوعي؛
٩٠ فالنفي في المُحال يمتد إلى كل شيء، ما خلا هذا اليقين
الأول البيِّن بنفسه، بل إننا لنستطيع أن نضيف إلى هذا أن الوعي
يزداد تماسُكًا مع كل فعلٍ من أفعال النفي، ويزيد في تأكيد يقينه
وحقيقته.
فإذا كان ديكارت قد بدأ من الشك المنهجيِّ الشامل الذي لا يلبث
أن يتعرَّف على وجود الأنا الشاكَّة في فعل الشك نفسه، فإن كامي
يبدأ من الوعي، أو الأنا المسلَّم بوجودها لكي يشُك بعد ذلك شكًّا
شاملًا في كل شيءٍ (ما خلا هذه الأنا نفسها!) بذلك لا ينقلب الشك
عنده إلى زعمٍ ميتافيزيقيٍّ شامل. إنه يؤكد وجود «أنا» تضع كل شيءٍ
ما عداها موضع الشك، وتزهَد في قيمة العالم، ولكنها لا تقبل
لقيمتها هي أن تُمسَّ؛
٩١ فالعناد والتصميم هنا أهمُّ بكثير من البحث المنهجي عن
حقيقة يقينيةٍ مؤكدة؛ إذ إن الحقيقة بما هي حقيقةٌ شيءٌ لم يمَلَّ
كامي من الشك فيه كما رأينا من قبلُ.
قلنا إن عبارة كامي تشبه الكوجيتو الديكارتي (أنا أفكر، إذن فأنا
موجود) على الأقل من ناحية الصياغة. إنها تقول: أنا أفكر، إذن فنحن
موجودون. ويتضح لنا على الفور أن الإنسان الذي يقابلنا في هذه
العبارة ليس هو الإنسان المفكِّر الذي رأيناه في الكوجيتو. إنه
إنسانٌ متمرد، يكتشف وجودَه في الفعل لا في الفكر. وأول سؤال
يتبادر إلى الذهن هو هذا السؤال: ما الذي يسبق الآخر: الوجود أم
التمرُّد؟
غير أن هذا السؤال، الذي يقوم على الخلافِ النوعيِّ بين التمرُّد
والوجود، يستند هو نفسه على الاعتقاد الخفي بأن عبارة «أنا أتمرد،
إذن فنحن موجودون» نوعٌ من القياس أو الاستدلال يُستنبط فيه الوجود
من التمرُّد. ولكن لما كان الوجود والتمرد كما رأينا من قبلُ
يكونان في الحقيقة وحدةً واحدة، بل كان التمرُّد كلمةً أخرى للوجود
الحقيقي؛ أعني للوعي الناصع العنيد عند الإنسان، فإن مثل هذا
القياس لا يمكن إلا أن يكون مجرد تحصيل حاصل. فالواقع أن عبارة
كامي لا يمكن أن تُفهم فهمًا منطقيًّا-صوريًّا، بل ينبغي أن يُنظر
إليها نظرةٌ ديالكتيكية-وجودية في فعل التمرد الفريد. ولو حاولنا
أن نضع العبارة في صورة قياسٍ صوريٍّ لكان من المحتمل أن تتكون
لدينان هذه الأقيسة الثلاثة:
والملاحَظ لأول وهلةٍ على هذه الأقيسة الثلاثة أننا نفتقد فيها
«النحن» الموجودة في الجزء الأخير من عبارة أنا أتمرد، إذن فنحن
موجودون، وأنها لا تُبرِّر لنا الانتقال من «الأنا» إلى «النحن».
أضف إلى هذا أن الأقيسة الثلاثة تُنكِر جوهر التمرُّد، حيث يصل
الوعي لأول مرةٍ إلى الوعي بنفسه في فعل التمرُّد، وبذلك يسقُط
عنصر المباشرة والذاتية بين التمرُّد والوجود.
ولا بد لنا، لكي نستطيع تعليل الانتقال من الأنا إلى النحن، أن
نعود إلى التمرُّد نفسه؛ فالتمرد الذي يتجه بطبيعته ضد المُحال،
ينطوي كما رأينا على ديالكتيك النعم واللا، والتأكيد والنفي في
وقتٍ واحد. إنه يضع لنفسه حدًّا، تُعيِّنه الطبيعة الإنسانية،
فيقول نعم لكل ما يعترف بهذه الطبيعة، ولا لكل ما يُحاوِل أن
يتخطَّاها؛ فأنا حين أتمرَّد أهَبُ كياني كله في سبيل الدفاع عن
طبيعةٍ أو كرامةٍ إنسانيةٍ مشتركة؛ أي إنني أتخطَّى ذاتي المحدودة
إلى «الآخرين» من البشر جميعًا، الذين اكتشفتُ في فعل التمرُّد
اتحادهم معي في إنسانيةٍ واحدة. إن عليَّ، لكي أُوجد، أن أتمرَّد،
٩٢ وإذا لم أعترف بالطبيعة الإنسانية عند سواي من الناس،
فلن يكون في وسعي أن أتعرَّف على نفسي كإنسان؛ فنحن إن لم نكن
موجودين، لم يكن لي أنا أيضًا وجود.
٩٣ وإذن فعبارة «حين أتمرَّد أُوجد» تسبقها بالضرورة
عبارة «نحن نُوجد حين نتمرَّد»، كما أن عبارة «نحن موجودون» عبارةٌ
صادقةٌ بالضرورة، ما دمتُ أتمرَّد باسم الجميع.
إن عبارة «أنا أتمرد، إذن فنحن موجودون.» لا يمكن أن يُنظر إليها
مستقلةً عن مجموعة الأفكار التي ينطوي عليها التأمل المُحال. وكلما
وقعنا في هذا الخطأ، ظهرَت العبارة غامضةً مفتعلة، وقد تبدو كما لو
كانت تحصيل حاصل. إن يقين الوجود الجمعيِّ يقوم على الكفاح المشترك
ضد المُحال؛ أعني على التضامُن. وكما أن الذي يشُك في كل شيءٍ لا
يستطيع أن يشُك مع ذلك في كل شيء، ولا بُد له على الأقل أن يؤمن
بشكِّه هو أو بالأنا التي تقوم بهذا الشك، فكذلك الإنسان المتمرد
الذي يُطلق صرخته في وجه المُحال لا يستطيع أن يشُك في صرخته، ولا
بد له على الأقل من أن يؤمن باحتجاجه.
٩٤ ويمكن أن نعبِّر عن هذه الفكرة على نحوٍ ديالكتيكي في
حكمَين يرفع أحدهما الآخر:
وخلاصة القول إن عبارة كامي، مثلها في ذلك مثل عبارة ديكارت، لا
يمكن أن تُوضع في صورة قياسٍ منطقي؛ فالأمر فيها ليس أمر استنتاجٍ
عقلي، بل فعلٌ ديالكتيكي وجودي للموجود. والموجود الحق هو دائمًا
ذلك الكائن الذي يتميز بالوعي ويثور على المُحال، ولن يكون ذلك
الكائن سوى الإنسان.