أحلام الشباب
احذر أن يكون أَمَلُك في صلاح الحب كبيرًا، فإنه بقَدْر أَمَلِكَ من صلاحه يكون يأْسُك من فساده، وبقدر يَأْسِك مِنْ فساده يكون جَهْلُك جمالَ الحياة، فإذا أَرَدْت أن لا يغيب عنك جمال الحياة فاجعل أكْثَرَ حبك حنانًا وعبادةً للجمال، واحذر أن تَجْعَلَه غايةً، فليس الحب آفة، ولكن الاغترار به آفة الشباب.
وقصة الحب الخائب تُمَثِّل زوال آمال الشباب، فإن الشباب باب يُطِلُّ على الأبد، إذا قَرَّبَه صاحب النفس الظامئة إلى الكمال شم منه ريح الخلد، فأصابه داء الأبد فكان مِنْ مَرْضَى الخلود، وإنَّ إبلال المرء من ذلك الداء أشدُّ على النفس منه، فإذا أُصِيبَ امرؤ بذلك الداء ثم أَبْرَأَتْه التجارب منه كان برؤه أَوْجَعَ في النفس منه؛ لأن الحب يترك مكانه يأسًا لا يمحوه شيء غير تَعَاقُب الأيام، وقد لا يمحوه تَعَاقُبُها.
كل إنسان إذا بَلَغَ الشبابَ وبلغ من التهذيب مبلغًا زَعَمَ أن الحب فَرْضٌ على كل مخلوق، وأن فيه برءًا لما في هذا الوجود من الشر، ولا يزال يلتمس صلاح الكون بصلاح الحب، حتى إذا أَكَلَت التجارب قَلْبَه ونَهَشَتْ لُبَّه عاد ذلك الحب يأسًا بعد أن كان أملًا، فيفيق من حلم الشباب وكأنه ذلك الرجل الذي رأى أنه يعانق خيال حبيبته، فلما عانَقَه ذَهَبَ عن ذلك الخيال بهاؤه ورأى المسكين أنه يعانق رمة بالية.
إن عبادة الجمال تمنح المرء سعة في الذهن وتُطْلِقه من رِقِّ التعصب لجانبٍ من جوانب الحق، فإنها تريه أن للحق جوانب كثيرة، وأن أكثر الناس لا يَرَوْن إلا جانبًا من جوانبه، ولكن واسع الروح الذي امتلأ رُوحه من حب الجمال وإجلاله، وامتلأ ذِهْنه من صور الجمال والملاحة، لا يُقَيِّد رأيه بجانب واحد من جوانب الحق.
إن عبادة الجمال تُطْلِق المرء من عقال التحيز والغباء وضِيق الذهن، وتَفِيض على روحه نورًا يُضِيء له أسرار الحياة، وتفتح أبواب القلب لكل طارق من حسنات الطبيعة.
ورُبَّ أُمَّة كان أفرادها يُغَذُّون أبصارهم برؤية الجمال ويُغَذُّون قلوبهم بعبادته، فكان للجمال بينهم سلطان على التناسل، فكانت تُولَدُ لهم أبناء حِسان، وقد أَذْكَرَنِي هذا ما تَفْعَله نساء الفلاحين في مصر، فإنهن يضعن في غُرفَة الحبلى صورة السفيرة عزيزة أو صورة خضرة الشريفة، ويزعمون أن الحبلى إذا أَكْثَرَت من النظر إليها أتى الوليد حسنًا، ويَقُلْن إن نَظَرَ الحبلى إلى الصور الجميلة يُكْسِب الجنين شيئًا من الحُسْن.
رأيت مرة في الحلم أني أحببت فتاة روحها واسعة كبيرة، فهي كالغابة سَمَتْ فروعها وأشجارها حتى أضللنا أعاليها في أعماق السماء، وإن من النفوس نفوسًا غير محدودة بحدود الفكر، نفوسًا لا نهاية لها، نفوسًا يَضِلُّ المرء أعاليها في أعماق الأبد، هذه النفوس مثل نَفْسِ مَنْ أحبَبْتها، ثم صحوت من النوم فلم أَرَ حولي غير نفوس أَحْقَرَ من البق.
رأيتها مرة في الحلم وفي يديها نسر ميت تقص جناحيه، فسألتها ما هذا النسر؟ قالت: هو قلبك أقص جناحيه اللذين يُسْعِدَانِه على الطيران. لقد طالما سما هذا القلب إلى آمال في الحياة بعيدةٍ كالنجوم، فما زال يعلو وجناحاه يساعدانه على الطموح حتى لَمَسَ بهما حاجب الشمس، لفحته النار فاحترق، فهوى إلى الأرض صريعًا. أيها النسر، قد كان لك عن تلك الآمال مَغْنًى ومنأًى. لقد كُنْت في وَكْرك آمنًا لفحات الحب، فلاحت لك الشمس بحاجبٍ مضيء، فعزَّك منها ما عزَّ اليهودي من ديناره فأصابك مصرع أهل الغرور.
رأيتها مرة وفي يديها زهرة زابلة تقطف أوراقها، فقلت لها: ما هذه الزهرة قالت: هي آمالك في الحياة قد خانها الحب كما يخون الخريف الزهور، ضَنَنْتُ بها على الشتاء فَقَطَفْت أوراقها واحدة فواحدة، تلك أوراق الربيع الفائت.
أيتها الزهرة، قد كانت لك في الربيع أيام كنا نستضيء فيها بِرَوْنَق مِنْكِ غَضٍّ، فالآن إذ ذَهَبَ الربيع لا مَعْتَب على الدهر فيك. هذه يدٌ إليك حبيبة ضَنَّت بك على غير رفيق، فنثرت أوراقَك وفاءً لذلك الزمن الفائت والعهد القديم. رأيتها مرة وفي يديها عقدة تحاول حَلَّها فقلت: ما هذه العقدة؟ قالت: هي إيمانك بالحياة، عقدة لم تَعْقِدها العزيمة فلا غَرْوَ إذا حَلَّهَا اليأس.
إنَّ بيْن الحُبِّ واليأس صلةً، مثل الصلة التي بين الحب والأمل، فليس الأمل أَقْرَبَ من اليأس إليه. الحب مثل الخمر، فالخمر حلوة مرة وكذلك الحب. أليس للخمر نشوة وللحب نشوة؟ أليس للنشوان صَحْو وللمحب صَحْو، فإذا أفاق المخمور مِنْ خُمَاره، أحس ألمًا يُذَكِّره بسكرة أمس، وإذا أفاق المحب من خُمَار الحب بَقِيَت في قلبه حسرة تُذَكِّرُه بالعهد الفائت والحب الذي مضى. الحب حيوان نصفه الأعلى حسناء كاعب، ونصفه الأسفل ثعبان.
رأيتها مرة في النوم كأنها نجمة الفجر تُطِلُّ من سماء أحلامي، أو كأنها قُبْلة لذيذة طويلة صارخة ذات نغمة، مثل ضحك الحسان، أو كأنها قَطْرة من قطرات الندى، نائمة على أوراق زهرة ذابلة. أيتها القطرة الطاهرة إذا شِئْتِ كان لك من قلبي فراشٌ، فإن قلبي زهرة الحب الذابلة الدامية. رأيتها مرة تحوك لي كفنًا من الآلام وهي تنظر إليَّ نظرة أسف وحزن، وكأنها تقول: لا تُلْزِمني جناية القضاء، أنا أَمَة القضاء، أَتْبَع أَمْرَه ولا أَرُدُّ له حكمًا. غيرَ أني قد أَخَذْتُ طرفةً من الحكمة فتبعت قول أولئك الحكماء الذين يزعمون أن التسليم لحُكم القضاء من شيمة العبيد. فينبغي أن تكون رغبة المرء وحاجته فيما يجيء به القضاء فيكون هو والقضاء سيان، لا لأنه قدير كالقضاء ولكن لأنه جعل إرادة القضاء إرادته.
فقلت لها: لا مَعْتَبَ عليك، إني أحبك حتى ولو كُنْتِ غير فاهمة ما تقولين، فضَحِكَت كما تضحك الشمس فوق القبور، وكانت قد فَرَغَت من نسيج ذلك الكفن، فوضعَتْني فيه وقَبَّلَتْني — قبل أن تَطْوِيه — قُبْلَة جَمَعَتْ بين حلاوة النعيم ومرارة الشقاء، فكانت كالحياة حُلْوَةً مُرَّةً.
تَرَكْتِني يا حبيبتي بين ضحكة قاسية ودمعة قاسية، أُرَدِّد نفسًا أعمق من الأبد، أدفع الشكوى في نحر الهواء، لا أنيس لي غير سكون الفضاء وأنين الصدى، وذلك القلب الواهن الخَفوق الذي أَذْوَتْه الحوادث العاصفة كما يذوي الحَرُّ أوراق الغصون.
لَمْ أَنْسَ إذ قَبَّلْتِني وأنتِ في ساعدي فامتصَصْتِ روحي في قُبلتك، كما يمتص الرضيع اللبن من ثدي أمه، ونظرْتِ إليَّ وقد انْعَقَدَتْ في وجهك ابتسامة كلها حنان ودعابة، فوقَعَتْ لحاظك المصقولة عليَّ وقوع قطرات الرحمة على النفس الصادية المجدبة، وفي عينيك هالة يرقص الحسن فيها، كما يرقص القمر على صفحة الماء، ثم تزايَلْتِ في الفضاء وقد بسط الليل أجْنِحَته السوداء وصبغ الهواء بمداده، فبَقِيتُ — كما قال رختر: أنا والليل، ثم سَمِعْتُ في القلب ضرباتٍ لم أَدْرِ أدقات الساعة أم نبضات قلب الدهر، أم هي ضحكاته من غرور الإنسان، أم هي تنعى إلى المرء نفسه، أم هي تذكرة بالموت وحَثٌّ على التقوى …؟
يا عدو الرحمة ما وَقَعَتْ لِحَاظُك عليَّ إلا لتُهَيِّج للقلب شجوًا، قد وأَدْتَ الحب في ريعان شبابه، ووقفْتَ ترقص على قَبْرِه مَرَحًا ودلالًا، لا عتاب، أنتَ الذي أسلفْتَنِي الأمل وأنتَ الذي سلبتَنِيه، والأمل كالحرباء كثير الألوان.