أغلاط الحقائق
كلمة ما سارت في أذن إلا وَخَزَتْها، غَيْر أُذُن مَنْ عَرَفَ أن كل حقيقة ناقصة حتى تُقْرَنَ بأمثالها، ومن أَجْل ذلك كان في كل صواب شيء من الخطأ وفي كل خطأ شيء من الصواب. قال فيكتور هيجو: «كل أغلوطة لها جانبان؛ جانب مشرق وهو الخطأ، وجانب مظلم وهو الصواب.» وسبب هذا أن الإنسان الفرد غير مُسْتَقِل بذاته، ومَنْ كان هكذا كان كل معنًى يُنْتِجه ذِهْنُه جزءًا من معنًى، وكل حقيقة يَقَعُ عليها جزءًا من حقيقة، ومن أجل ذلك كان كل شيء في الوجود مرآةً لكل شيء وتفسيرًا له.
كل رأيٍ في أول أَمْرِه يطرق طروق الضعيف الغريب. فمن الناس من يستقبله بالإجلال، وهو الذي يرغب في حلاوة الجديد، ومنهم من يستقبله بالإعراض عنه والخوف منه خاشيًا أن يكون ضيفه مجرمًا متنكِّرًا. فإذا طال مُكْث الضيف بيننا لَقِيناه غير مأخذنا، فنعدم إذ عُدِمْنا حلاوة الجدة، ذلك الخوف الذي استحوذ علينا من طلعته، فإن الضيف يكون قد نَبَذَ من عاداته ما نبغض، وتلبس بما نحب، وكذلك المعنى إذا طال عليه القِدَم فارق غرابته بأن يفارق أكثره، لا شيء أكثر إفسادًا لمعنًى جديد مثل معنى قديم.
الخطأ يتسرب إلى المعنى الجديد من التناقل؛ لأنه إذا أراد امرؤ أن يُفْهِمك شيئًا لم تفهم كل ما يريد أن يُفْهِمك، فالتفاهم الكامل لا يوجد بين عقلين متشابهين، ولكنه يوجد بين عقْلَيْن كُلٌّ منهما هو الآخر، فالتفاهم الكامل من أجْل ذلك مستحيل.
كيف يَفْهم الإنسان؟ ولَمْ يُلْقَ المعنى على اثنين متشابهَيْن في مقدار ذكائهما فيفهمان فهمًا مختلفًا بعض الاختلاف؟ أما الفهم فسببه وقوع ما يعرض عليك على معانٍ كنت قد اجتنيتها أو معانٍ خَرَجَتْ مِنْ توالُد المعاني التي كنت قد اجتنيتها. فإذا تعارَف المعروض والمجتبى تعارفًا قليلًا أو كثيرًا فهِمْت المعروض بمقدار ذلك التعارف، فإذا تناكَرَا كُلَّ التناكر لم تَقْدِر أن تفهمه، ومن هذا تَعْرف سَبَب اختلاف فَهْم اثنين لمعنًى واحد، فإذا شِئْت أن تضرب مثلًا من الألوان فقُل: إنَّ تعارُف المعروض والمجتبى في ذِهْن الأول مثل تمازُج الأصفر والأخضر، وإنَّ تعارُفهما في ذهن الثاني مثل تمازُج الأصفر والأسود، وتَسْتخرج من ذلك أن الحقيقة الواحدة هي حقائق متشابهة، فالحقيقة الواحدة في ذِهْنِي غيْرُها في ذهنك، بل هما حقيقتان متشابهتان، المرء ليس بفاهم كل ما تريد أن تُفْهِمه.
والمعاني التي يُخْرِجها التفكير خارجة بسبب توالُد المعاني التي في ذهن المُفَكِّر، وهي كما عَلِمْتَ ناقصة، فيخرج المعنى المولود ناقصًا، والتفكير نوعان: تفكير يقْدِر المفكِّر أن يعرف كيف خَطَا وسار، وتفكير لا يَقْدِر المفكِّر أن يتَتَبَّع خطواته، وهذا النوع الثاني هو الذي يدَّعُونه الإلهام، فقد يقول المرء كلمة لا يعرف معناها، غير أن يرى نفسه مدفوعًا إلى قولها. فإذا وَقَعَتْ في أذن غيره كانت مفتاح لُبِّه، وربما خَطَرَ في ذِهْن أحدنا خاطِرٌ لا يعرف كيف خَطَرَ، فيجتهد في أن ينساه حتى إذا قرأ في بعض الكتب وجَدَه مشروحًا.
وروي أن بشارًا الشاعر سمع أحد الناس يفَسِّر بيتًا من أبياته فأعْجَبَه تفسيرُه، فقال لرَاويته: «ارْوِ هذا المعنى لهذا البيت، فوالله ما عَنَيْته.» هذه أشياء بالغةٌ بنا أن نعتقد أن تلك النفس المودعة في كل فرد هي زِيٌّ من أزياء رُوح الوجود، ومَظْهر من مظاهرها، ولا يُرَوِّعك أيها القارئ قائلٌ يقول: لو كانت نفوس الأفراد مَظَاهر مِنْ مظاهر رُوح الوجود لكانت كلُّ واحدة أحنى على أختها منها وأحَبَّ لها … أليس في نفس الإنسان صفات متضادة كل واحدة تَهُمُّ بقتل الأخرى؟ وأضرب مثلًا من أمثال ما رُوِيَ عن بشار فأقول: إني نظمت منذ سنين هذين البيتين:
أما شَبَه الحزن بالسرور فكبير مِنْ أَجْل أن كليهما ميزان للبقاء ومقياس للعمر؛ لأن تقسيم الزمن مِنْ صُنْعِنا نحن نقسمه إلى دقائق وساعات، وليست الدقائق والساعات إلا ضحكات القلب وعبراته، فطول الزمن وقِصَره غير موقوف على طلوع الشمس وغروبها، ولكنه موقوف على إحساسنا بالحياة التي تنبض في عروقنا، وشعورنا بما يملأ صحيفة العمر من الحزن والسرور. قال إدسون: «أنْكَرَ مَلِكٌ من ملوك مصر آيةَ الإسراء قائلًا: إن مسافة ما بَيْن أوَّل الإسراء وآخره شاسعة، والزمن الذي وَقَع الإسراءُ فيه قصير، فأتاه حكيم من قومه، وقال له: إني جاعل بينك وبين الشَّكِّ سترًا من الحجة. قال ما حُجَّتُك؟ قال: ائتِ بإناء كبير، فأتى به فملأه ماءً وقال للملك: اخْلَع عمامتك وأَدْخِل رأسك في الماء، ففعل الملك ذلك فحَسِب أنه غريق تقاذفته الأمواج حتى رمَتْ به على شاطئ قريب، فجعل يمشي على تلك الأرض حتى لقيه أناسٌ فاستجداهم فرحموه في غُرْبَته، وأخذوه وآوَوْه وزوَّجُوه من قومهم فتاة، فلبث معها سنين، وولدت له أبناء حِسَان الوجوه، ثم خرج يمشي على شاطئ البحر فتذكَّر ما كان فيه مِن العز والسلطان، فأَسِفَ على حياته الماضية، وذَكَرَ أن ضياع سلطانه كان من أَجْل إنكاره آية الإسراء، فقال: صلِّ للهِ ركعتين عسى أن يَقْبَل منك التوبة ويُرْجِعَك إلى ما كُنْت فيه من جلالة المُلك، فخلع ثيابه ونزل في البحر ليغتسل ويتوضأ، ولكنه لَمَّا رَفَع رأسه وَجَدَ نَفْسه في وسط أتباعه وعساكره والحكيم بجانبه والإناء أمامه. فسأل المَلِك أتباعه، كم سَنَة غِبْتُ عنكم، فتعجبوا من قَوْلِه وقالوا: إنك ما لَبِثْتَ أن وَضَعْتَ رأسك في الإناء حتى رَفَعْتَه ولم تَغِب عنا، فنَظَر المَلِك إلى الحكيم وقال: صَدَقْتَ؛ هذه أبيض الحجج، وإنما ذكرت هذه القصة لتعرف أن طول الزمن وقِصَرِه غير موقوف على طلوع الشمس وغروبها.»
إن الزمن في عصرنا هذا يعدو عَدْوًا بعد أن كان يمشي برِجْل عرجاء في العصور الغابرة؛ لأن الحركة الحيوية الآن أَسْرَع منها في القرون الغابرة. فإذا تَفَهَّمْنا الصواب عَلِمْنا أن يومًا من أيامنا أكبر من يوم من أيام آبائنا؛ لأننا نعمل في يومنا ما لم يَعْمَله الأولون في أيامهم. كم خَطْرَة من خَطَرات النعيم والشقاء تمرُّ علينا لا كما تمُرُّ الريح المكسال، بل كما يمُرُّ السهم يَشُقُّ الهواء شقًّا، وكم خَطْرة دونها خَطَراتٌ مُنْتِجات خواطرَ أُخَرَ. هذه حياتنا، حياة كأنها محمومة مِنْ أَجْل أن نبضاتها سريعة، وإذا شِئْت أيضًا قُلْتَ: إن يومًا من أيام آبائنا الأولين أكْبَر من يوم من أيامنا؛ لأننا نعمل أكْثَر مما كانوا يعملون في يومهم، وكثرة العمل تُلْهِي المرء عن أن يُحِسَّ طول الوقت. فإذا نَظَرْتَ إلى هذين الرأيين نظرًا صادقًا عَلِمْتَ شَبَهَ المكث بالمرور.
لم يَخْطُر بذهني وأنا أكتب هذين البيتين هذه المعاني، بل كنت أنْظِمُهما وفي الذهن معنًى أقرب غورًا، وإنما ذَكَرْتُ هذين البيتين لأقول إن المرء قد يقول قولًا غير فاهم منه إلا جانبًا من جوانبه.
ومن دلائل روح الوجود أن المرء قد تتمَلَّكه الفكرة في إظهارها الهلاك فيريد أن يغلب نفسه عليها فلا يَقْدِر.
وما معنى النهضات والاضطرابات واندفاع الناس بدافع عنيف من دوافع الآراء والعقائد. هذه الحجج ليست أحلامًا، ولكنها أيضًا ليست بالتفكير الذي جعله المادِّيُّون من إفراز الروح.
كلما قَرُبَ المعنى إلى الصواب بَعُدَ عن أذهان الجمهور، فإذا أرَدْتَ للمعنى أن يَكْبُر بأن يرَدِّده الناس صَغُرَ بأن يصير لفظًا ميتًا، فإن في هذا الموت حياته بين الناس، وهذا سبب أن النظريات والكلمات العامة التي تملأ أفواه الناس أكثرها فاسد عليلُ المعنى، وجمهور الناس كالنساء.
فإذا شئتَ أن تُرْضِي النساء فلا تُسْمِعْهُنَّ غير ما يُرِدْنَ أن يَسْمَعن، فالحقائق عند العامة مثل الدنانير إذا مُزِجَ عنصرها الكريم بعنصر غير كريم (كالنحاس) كانت أبقى على الزمن منها وهي من الذهب المحض، وكذلك الحقيقة إذا مُزِجَت بشيء من الخطأ كانت أبقى على الزمن، وإن من المفكرين من يُذْهِله خوفه من الناس عن رأيه حتى يُدْخِل عليه — وهو لا يدري — من الخطأ ما يُجَانس بينه وبين أفكارهم … اثنان قد ينظران إلى الحقيقة مِنْ وجهين كُلٌّ يزعم أن أخاه مخطئ وهو مخطئ في زعمه مصيب في نظره إلى الحقيقة من ذلك الوجه، فلا غَرْو إذا وَجَدْتَ معنيين متضادَّيْن وكلاهما مصيب راجح، ومثل ذلك أن يقول قائل: إن سبب احتقار المرء الحياة أنَّ الحزنَ من ضياع شيء كان مالكه، والخوفَ من ضياع شيء هو مالكه سيان؛ أي أن الخوف من زوال النعيم يُفْسِد النعيم ويَذْهب به، وقد يناقضه آخر فيقول: إن نعيم الحياة مستجْلَب من خوف الإنسان من زوال النعيم؛ لأن ذلك الخوف يدفعه إلى الْتذاذ النعيم أكثَرَ من الْتذاذه إياه لو كان ذلك الخوف من فقدانه غير متَمَلِّكه. فالأول يقول إن ذلك الخوف يُفْسِد النعيم، والثاني يقول إنه يُزِيده ويُصْلِحه، وكلا الرأيين مصيب، وإنما تأثير الخوف يختلف مِثْل اختلاف طبائع الناس … إذا تعرَّفْت الصوابَ علِمْتَ أن كل مجادَل في أكثر الأحايين غير فاهم ما يَعْنِيه مجادِله، فيجتهد كل واحد في أن يُبِينَ عن فسادِ رأيٍ لم يَرَهُ مُنَاظِرُه، وربما كان صاحب الرأي غيرَ فاهم رأيَه فَهْمًا كاملًا، وإني أكاد أقول بأنه يستحيل على المرء أن يفهم رأيه فهمًا كاملًا، فإنه ليس بغريب أن يخفى عنه أكثرُ جوانبه.
فالحقيقة الواحدة لها أزياء كثيرة تختلف مِثْل اختلاف نَظَر المرء إلى الحياة. أليس في الناس عابِد الخرافات والأوهام وعابِد المُحاجَّة والفهم؟ أليس في الناس المادِّيُّ والشاعِرُ عابد الجمال؟ أليس في الناس — غير هؤلاء — فِرَق كثيرة، كل واحدة تنظر إلى الوجود نظرة تصبغ أشعتها صبغة في النفوس؟ لا عَجَبَ إذا لَبِسَت الحقيقة الواحدة من الأزياء المختلفة ما يجعلها حقائق كثيرة، وإنما ينْسُج تلك الأزياءَ أساليبُ التفهيم والإعرابُ عما في النفوس، ومن أسباب اختلاف أزياء الحقيقة أن الإنسان قد يَبْلغ منتهى الإجادة بأن يضع المعنى في أسلوب صادق كاذب، ومثل ذلك قول جويتي: «إن الإنسان لا يَسْمَع غير ما يفهم.» هذا هو الأسلوب الصادق الكاذب، هو في الحقيقة نوع من أنواع المبالَغة، وعلى ذِكْر المبالَغة أقول: إن أكثر أمور الحياة مَبْنِيٌّ عليها، ولكنها أنواعٌ بعضها يُصْلِح الحقائق كالذي يعتمد عليه الشاعر في تفسير الحقائق النائبة الغامضة. فوظيفة المبالَغة التي يعتمد عليها الشاعر مثل وظيفة المنظار المُكَبِّر، غير أن المغالاة تلحق بالصواب شيئًا من الخطأ، وسببها الإلحاح في الدفاع عن رأي كَثُرَ مُنْكِرُوه أو جاهِلُوه … خرج جان جاك روسو إلى الحياة في بيئة كل شيء فيها متكلَّف، وكان التصنع يجول مجالًا عجيبًا في أحوالها، ونسي الناس قوانين الطبيعة وما يُنْتِجه العقل من تفسيرها، فكانت حياتهم جريمة كبيرة.
قال روسو بوجوب الرجوع إلى العقل فيما يُسِنُّه من أوامر الطبيعة. قال بِوُجوب تَرْك المرذول الذي تُسِنُّه السلطة والخضوع لهذه السلطة، ولكنه دار بعينه فرأى أُناسًا بَعِيدِين عن هذه الحقيقة، وأن صوت المغالاة أَقْدَر على إيقاظهم من صوت الحق، فكانت المغالاة مُوقِظة لقومه مِنْ غَفْلتهم، ولكنها كانت مُفْسِدةً أكثرَ مبادئه. غالَى روسو في تقريظ الطبيعة حتى قال: إن كل شيء يخرج منها حميد، ونسي أن آباءنا الذين كانوا أقْرَب إليها منا قد ضَرَّهُم قُرْبُهم منها في كثير من الأحوال. من أين تأتي المرءَ تلك الدوافعُ التي تدْفَعه إلى الشر؟ أليس من الطبيعة؟
انظر إلى عيشة الأولين تَرَهَا قطعةً من الدم … أرأيت كيف أن المغالاة تُفْسِد الحق؟ انظر إلى بودلير الشاعر الفرنسي تَرَ رأيه نقيض رأي روسو، ولكنه مثل روسو، مِنْ أجْل أن المغالاة أفسَدَتْ رأيه، وإذا شِئْتَ فقل: جعلته حقيقة مغلوطة. قال بودلير: انظر إلى الأطفال الصغار تَرَ فيهم من الأنانية والقسوة والزهو، وما يثبت أن الطبيعة ليست كما قال جان جاك روسو «خالصة من الشوائب»، ولكن بلغت ببودلير المبالَغة مَبْلَغًا بعيدًا، حتى قال: «إن كل شيء يَصْدر من الطبيعة خبيث، وإنه ينبغي أن نعصي كل أَمْر أو نصيحة لها.»
زعم أن الطبيعة قبيحة، فينبغي أن نحيلها بما تمليه علينا الفنون، واستشهد في إثبات قُبْح الطبيعة بأن المرأة من نساء المتوحشين ترى من العار أن تَخْرج إلى الأسواق غير موشومة الجسم، وأن أهل المدنية كذلك قد اتخذوا من الفنون سلاحًا يحاربون به الطبيعة، وقد نسي بودلير أن ذلك السلاح الذي نُحَارِب به قُبْح الطبيعة مأخوذ من الطبيعة.
من الحقائق التي هي أغلاط أيضًا نظرية في علم الحساب، وهي أن ثلاثة رجال هم أبدًا ثلاثة رجال، أَعْطِهِم عملًا يعملونه، وسَلْ علماء الاقتصاد هل هناك رِبْح ناتج من اشتراكهم في العمل، ومِنْ تَفَرُّد كل واحد منهم بفرع من فروع العمل، فيقول علماء الاقتصاد: نعم، هناك ربح في أن يُتْقِن كل واحد ما يتفرد به من فروع العمل، فثلاثة رجال في حين انفرادهم هم خمسة رجال أو ستة رجال في حين اشتراكهم في العمل وتَفَرَّغ كل منهم لفرع منه. ثم واجِهْ بهذا القولِ علماءَ الحساب، يقولون لك: إن ثلاثة رجال هم أبدًا ثلاثة رجال. ثم واجِهْ بهذا القولِ العلامةَ راسكن يقُلْ لك: إن ثلاثة رجال في حين اشتراكهم وتَفَرَّدَ كل واحد منهم بفرع من فروع العمل أَقَلُّ من رجل واحد؛ لأن ما يَخْسَره العامل من ذكائه ومَلَكَات عقله بسبب انفراده بفرع واحد من فروع العمل «مِثْل صُنْع رأس دبوس» أكثر مما يكسبه المتمول من المال …
يقول علماء السياسة بصيانة حقوق الفئة الكبرى من الأمة من غير إضاعة حقوق الفئة الصغرى، ولكن إذا تضاءلت مصالح الفئة الكبرى ومصالح الفئة الصغرى ولم يكن حِفْظ مصالح الفئتين فَهُم يقولون بإضاعة الفئة الصغرى حفظًا لحقوق الفئة الكبرى. هذا عدل وهو غير عدل، هذا صواب وهو غير صواب، هذا خطأ وهو ليس بخطأ … ماذا تَقْدِر أن تقول غير ذلك؟
الذي دفعني إلى كتابة هذه المقالة أنه يغيظني ضيق الفكر الذي يبديه كثير من الناس في النظر إلى الحقائق، هم يظنون أن الشيء إذا كان صوابًا فليس به شيء من الخطأ، وسبب ذلك صلابة في الرأي خارجة مِنْ قِلَّة اختبارهم أمورَ الحياة اختبارَ المُفَكِّر الباحث، ومثل هؤلاء أناس يقولون: إن الشيء إذا كان شرًّا فليس به شيء من الخير، وإنه إذا كان خيرًا فليس به شيء من الشر. لكن أمور الحياة ليست كذلك، وكما أن السم — وهو شر — جزء من الدواء — وهو خير — كذلك أمور الحياة تمتزج الأضداد فيها، هذا مفتاح الحياة، ومَنْ عَرَفَ الحياة كان أكبر من الحياة، فإن عرفانه الحياة يملأ صَدْرَه حزمًا وبصيرتَه صفاءً.