عصور الانتقال
سبيل الإنسان في الحياة مثل سبيل الغلام الصغير إلى المدرسة، تعترضه فيه الهواجس فيحيد عنه إلى الحارات ويُضِيع وَقْتَه في اللعب.
وكذلك الإنسان، قد يحيد عن الغرض الذي خُلِقَ ليسعى إليه في الحياة، ثم يُضِيع الحياة عبثًا، وسواء كان الغرض من الحياة جليلًا أو حقيرًا، فلا بد للأفراد والجماعات أن تَشْعر في الحياة بغرض تسعى إليه، وقد تكون حياة الأفراد والجماعات مِثْل نهر من الماء تعترضه تيارات متضادة من الميول والآراء والمذاهب المختلفة. مِنْ أجْل ذلك يضطرب سطحه ويصعب على الأفراد والجماعات في مثل هذه الحال أن تعيش حياة سعيدة، وكما أن الإنسان قد يؤدي به سَعْيُه إلى طريق مسدود لا مَنْفَذَ له، فيُضْطَرَّ أن يرجع إلى طريق آخر كي يَصِلَ إلى المكان المقصود، كذلك الإنسان في الحياة، وكذلك الأمم والشعوب والجماعات، قد يؤدي بها سعيُها إلى طريق مسدود من طُرُق الحياة فتُضْطَرَّ أن تَسْلك طريقًا آخر يؤدي بها إلى الغاية التي تقصدها من النجاح والقوة.
وإذا كانت أمة في عصر انتقالٍ وتَغَيُّر كانت حياتها مِثْل نهر تعترضه تيارات كثيرة متضادة، فحينئذ تكون حياتها الاجتماعية والفكرية متماوِجة، فيقع المفكِّرُون من أفرادها في حيرة وارتباك، وفي مثل هذه الحال يَصْعُب عليهم أن يحكموا حُكْمًا صادقًا على الحقائق، كما أنه يَصْعُب على من كان في وسط الزحام أن يَحْكُم حكمًا صادقًا عما يحدث في ذلك الزحام من الشجار واللطام والخصام، فإذا أراد أن يَحْكُم حكمًا صادقًا ينبغي له أن يبتعد عن الزحام لكي يراه رؤية تامة صحيحة، فنحن نظن أن الحركة الفكرية في حياتنا سريعة، ولكنها في الحقيقة أبطأ من السلحفاة، فينبغي لكلٍّ منا أن يُحَرِّك هذا التفكير الحيوي بما يستطيع.
تَمُرُّ العصور والقرون على الأمم والجماعات كما تمر الأيام والسنون على الأفراد، ولكن لحوادثها قيودًا تُقَيِّد بها تلك الأمم والجماعات كما تُقَيِّد بها الأفراد، وإن المرء ليحاول أن يُفْلِت من قيود الحوادث الماضية، كما يحاول الطائر أن يُفْلِت من حبائل الصياد، وكذلك الأمم تُحَاوِل أن تتخلَّص من قيود الحوادث الماضية والقرون الغابرة، ولكن ذلك لا يكون إلا إذا صادفها من العوامل ما يُحَرِّك قُواها الكامنة، فتستخدم تلك القوى كي تَصْدَع عنها قيودَ الحوادث الماضية، وهذه القوى تختلف مصادرها مِنْ أَمَلٍ أو غَضَب أو يأس، فإن لليأس في بعض الأحايين قوة مثل قوة الأمل.
ونحن من الأمم التي تُثْقِل أعناقَها أغلالُ الحوادث الماضية وقيودها، فإن القرون الغابرة وما أَبْقَتْ في حياتنا من الأثر مثل ضَعْف العزيمة والطيش والتقلب والسأم والجهل وضآلة النفوس والجبن والتوكل إلا على عزائمنا والاعتماد إلا على أنفسنا، كل ذلك مثل حِمْل ثقيل لا ننهض به، يُثْقِلنا ويكاد يُفْقِدنا بواقيَ حياتنا، فكأن هذه الحياة التي نعالِجُها نوم مضْطَرب غير هادئ، وكأنَّ حِمْلَ الحوادث الماضية وما أبقت من الأثر السيئ الكابوسُ الذي يضغط على صدر النائم، وليست هذه الحركةُ التي في حياتنا غيرَ حركة النائم الذي أثقله الكابوس يتقلب ويتلوى من الألم. فهل رأيت أحدًا حسب ذلك التقلب والتلوي نشاطًا وهمة ونهوضًا؟
نعم إن الكابوس لا يزال بالنائم حتى يوقظه، وكذلك الأمة من الأمم في عصر التغير والانتقال تكون كأنها تحلم بالعصور المظلمة السوداء الهائلة التي مَرَّت عليها، فيورثه الحلم كابوسًا، فما يزال يتلوَّى ويتقلب من أَلَم الذكرى حتى يوقظه التلوي والتقلب، وكذلك الأمم، ولكن الأيام السوداء — أيام التعاسة والشقاء — تُبْقِي في نفس المرء أثرًا تَمْحُوه عواملُ الرخاء شيئًا فشيئًا، ولكنه لا يُمْحَى كُلُّه، بل يَبْقى في النفس شيء منه ما بَقِيَت النفس، وكذلك يبقى في الأمم ما بَقِيَت الأمم أَثَرٌ من القرون الماضية، ولكن العوامل والمَنَازع والرغائب والآراء الجديدة تُجَدِّد قوى الأفراد كما تُجَدِّد قوى الأمم وتُقَلِّل من ذلك الأثرِ الذي أبْقَتْه القرون الماضية، والذي يعوق الأممَ عن مَنَازل الرُّقِيِّ والقوة.
وهذا الأثر الذي تبقيه القرون الماضية له مصادر كثيرة، فهو ناتج من مرور عصور مظلمة على أمة من الأمم بالذل والتعاسة والضعة، فإن الذل والضعة ينحتان في العزائم، ويمحوان الاعتماد على النفس، ويورثان النفسَ ضآلة والذهنَ جهلًا، ويمحوان الفضائلَ الشخصية التي تُؤَهِّل الأفراد والأمم للنجاح في الحياة.
وهذا الأثر السيئ قد يكون سببه فساد الأنظمة القديمة، فإن الأنظمة تُفْسِد الأيامُ والسنون صِحَّتَها كما تفسد الأيامُ صحَّةَ المرء وشبابَه، فينبغي للأمم أن تتهيأ لقبول الأنظمة والآراء والمَنازع والرغائب والآمال الجديدة، وأن لا تيأس من فساد الأنظمة والآراء والرغائب القديمة؛ لأن حياة الأمم مثل الماء؛ إذا رَكَدَ ولم يُحَرِّكْه ويُجَدِّده تيارٌ جديد من الماء عَطَنَ وفَسَدَ، ولكنْ مِنْ أين تأتي النفوسَ الضعيفةَ تلك العواملُ والدوافعُ التي تَدْفَعُها للتعلق بالمَنازع والآراء والأنظمة الجديدة التي تُجَدِّد حياتها؟
إن النفوس — مهما كانت ضعيفة — لها أعماقٌ لم يَصِل إليها باحثٌ ولم يَبْلُغْها مُفَكِّر، وكما أن البحر العميق تنظر إليه فتَحْسَب أنه خِلْو من الحياة والأحياء وهو ملآن بها، كذلك النفس تنظر إليها فتحسب أنها خالية من عوامل الحياة وهي ملأى بها. غير أن للنفس قوًى تبقى ساكنة راكدة، حتى يُحَرِّكَها مُحَرِّكٌ من العوامل الأخرى النفسية، أو من عوامل هذا الوجود ودوافعه. فكما أن الرياح تُهِيج قوى البحر وأمواجَه كذلك للحوادث رياح تُهِيجُ قوى النفس، إلا أن بعض الأمم مثل بعض الأفراد لا تُصَادِف تلك الدوافع التي تُهِيج ما كَمَنَ مِنْ قُوَاها. نعم إن هذه الأنظمة والآراء والمَنازع الجديدة قد تُغَيِّر حياة الأمة كُلَّ التغيير حتى تصير كأنها أمة أخرى، ولكنْ خَيْرٌ للأمة أن تحيا حياة ثانية وأن تتغير أحوالُها مِنْ أن تَنْعَدِمَ وتفنى.
وإذا نظرت إلى التاريخ وَجَدْتَ أن تلك الأمم التي فَسَدَتْ أنظمَتُها القديمة ومَرَّتْ عليها عصور مُظْلِمة بالتعاسة والذل والضعة، يأتي عليها عَصْر تكون فيه بين عوامل التجدد والحياة، فلا تخشى من التغير وعوامل المحافَظة على القديم، فتجبن عن الجديد وتُحْجِم عن أن تُجَدِّد حياتها باقتباس المَنازع والرغائب والآراء الجديدة، فإما أن تحيا حياةً ثانية، وإما أن تَنْعَدم وتفنى في شخصية غيرها من الأمم.