الذِّكر والأماني
الذِّكر والأماني صنوان، لزَّا في قرن. غير أن باعث الذِّكر التعلق بما مضى، وباعث الأماني الرغبة فيما يُسْتَقْبل، ومن أجل ذلك كانت الأماني أقْرَبَ إلى خاطر اليافع وأحَبَّ إليه من الذِّكْر؛ لأن عيشه مُقْتَبِل، ولم يزعجه — مما تقع به الحوادث الكارثة — ما يخفض من غلواء طموحه وتعَلُّقه برغائبه. أما الشيخ الهرم فقد لقي من الطارقات ما تَرَكَهُ فقير الأماني غَنِيَّ الذِّكْر، والأماني إذا استُثِيرَتْ كانت كالنار يتبع شبوبَها خمودُها، وإنما يستثيرها الطُّموح.
إن كل أصناف النعيم الزائل تثير الذكر الغر فينبعث اللسان بالكلم الرقيق، فهو تارة يناجي الزمان الخالي ويَنْشُد فيه لَذَّاته، وتارة يتوجع من فقدانها، وتارة يسألها الرجوع إلى ما عَهِدَ منها، ألَا يجول بخَلَدِك إذا قرأت قولَ ابن زريق:
أن تلك الليالي وذلك الزمان الذي عَمَرَتْه لذَّاتُه، قد صار جزءًا من نفسه وشيئًا من حبة قلبه، فهو لا يستطيع أن يكون بمنأًى عنه، وليس هو براغب في ذلك، ولكنه لو رغب ما وَجَدَ إلى رغبته سبيلًا، وكيف يَمَلُّ صُحْبَته وهو خلاصة حياته وأحق شيء منها أن يُفْدَى من سلطان النسيان.
على أن الذكرى لا تكون إلا بعد سطوة من سطوات النسيان، فإذا كان النعيم الخالي حاضِرَ الذكرى في ذهن المرء، لم تكن ذكراهُ خليقةً أن تُدْعَى ذكرى، وفي مثل ما نعني يقول الشريف الرضي:
وهناك نوع آخر من الذكر لا يكون إلا إذا كان المرء في حالٍ بينها وبين تلك الحال التي وقع له فيها النعيم الزائل صلةٌ، فإذا أَسْعَدَه في ليلة الاثنين مثلًا ذَكَرَ هذه الليلة حين تعود في كل أسبوع، وفي مثل ما نعني يقول ابن المعتز:
«يعني بقوله: وَشَتْ فيها الصبا بمواقع القطر؛ أن القطر إذا وَقَعَ على الأزهار ذات الرائحة الطيبة أخرج تلك الرائحة، فتأتي ريح الصبا تحملها إلى كل مكان، فكأنها تَشِي بالأزهار وتُبِيح سِرَّها المعطار.»
الذكر نوعان: ذِكْر النعيم الزائل، وذِكْر الشقاء الزائل. أما ذِكْر النعيم الزائل فإنه يَبْعث ابتهاجًا في النفس؛ لأن ذلك النعيم كان من نصيبها، ويبعث أسفًا لأنه لم يَدُمْ لها، ويختلف مقدارُ الابتهاج ومقدارُ الأسف. أمَّا ذِكْر الشقاء الزائل فإنه يبعث الابتهاجَ للخلوص منه، والأسفَ لأنه حَدَثَ والخوف من أن يعود.
الذكر أشباح وأرواح تَعْمُر الخاطر الخَرِب فتثأر لذلك العهد الميت. أيها الزمان الخالي، أشدُّ ما نعاني من ذلك الحجابُ المُنَوَّع الذي تضعه بيننا وبين لذاتنا البائدة، وأحبابنا الألى ذَهَبَتْ بهم حوادث الأيام كُلَّ مَذْهَب، ولكنك لا تعلم أيها الغصوب أنك تحْجُب عنا أجزاءنا وأشياء من حنيات قلوبنا. على أننا نستعين بالذكر والأماني في إزاحة حجابك، وهي قديرة على إسعادنا.
الطُّموح يثير الأماني، وقد تثيرها الأشياء التي تُذَكِّر المرءَ رغبته كما قال الشاعر:
إن الذكر تثير الأماني، والأماني تثير الذكر؛ لأنك إذا ذَكَرْتَ النعيم الزائل ودَدْتَ أن تقع على مثله، فتُهَيِّئ لنفسك أسباب الطموح والبلوغ إليه. ثم إذا كُنْتَ تناجي الأماني كانت تلك المناجاة عاملًا في تذكيرك بمثل أمانيك؛ أي بالنعيم الزائل.
إذا عَمَرَت الذكر والأماني نواحيَ الخاطر كان كأنه مَعْبد مُقَدَّس يبعث الإجلال والوقار والخشوع في النفس. أليس الذكر موصولًا بالنعيم البائد وهو ميت، وأيُّ نفس لا تَخْفضُ من جِمَاحها وخلاعتها عِنْدَ ذِكْر الموت؟
إن الإنسان إذا مات أقيم له تمثال يجعله مُتَرَدِّدَ الحضور في الذهن كلما رآه الرائي، وكذلك الحادث إذا مات كان الذكر تمثاله الذي يستجلبه من قبر النسيان.
قال الشاعر شلي:
يعني: أن الذكر يبْعَث الحسرة على فواته، ولكنها حسرة لذيذة رقيقة معسولة، تتمشى في الخاطر كما يتمشَّى النسيم البليل على وجه التعب.
ولم أجد أحدًا شَعُرَ بتلك الصلة المتينة التي بين الذكر والأماني مثل ما شَعُرَ بها الشاعر العربي عنترة؛ حيث يقول:
لم يَحْمَد الشاعر الطلول؛ لأنها تُذَكِّرُه بمن كان يَعْمُرها، وبتلك الليالي والأيام التي قضاها في أَحْسَن حالٍ حين كان الخَطْبُ مأمونَ الطروق، مخفوضَ الجناح، ولم يَحْمَد ذكرى السنين التي مَضَتْ؛ لأنها كانت لباس لَذَّاته أيام كان وفاء الأصحاب والأحباب يُسْعِده، أيام كان النعيم مضروبة قبابُهُ عليه، أيام كان الحسود مُتْعَبًا مِنْ حَمْل ثقل الحسد. ثم إن الشاعر لم يَحْمَد في البيت الثاني الأماني لأنه يحسبها خُدْعة وعناءً، ولكنَّ من النفوس نفوسًا تَسْكُن إليها، وتتخذها علالة. أما جمْع الشاعر بين الذكر والأماني فسببه عرفان أن الأمانيَ تُثِير الذِّكْر، والذكر يثير الأماني.