وقع الأقدام
وَقْع الأقدام هو شِعْر (بكسر الشين) الأرجل، فإن فيه من بلاغة التعبير ولُطْف التفهيم ما في نبضات القلب، ووَقْع الأقدام هو للأرجل بمنزلة تلك النبضات للقلب، فتارة يَخْفِق القلب فرَحًا وتارة يأسًا أو أسفًا أو أملًا، وكذلك الخُطَى؛ تارة تَنُمُّ عن جزع وتارة تنم عن فرح أو أمل أو ندم أو جبن. أليست خُطَى الجبان في الميدان دليلًا عليه؟ أليست خُطَى العاشق قصيدة من قصائد النسيب؟ أليست خُطَى الجازع تُبِين عن جزعه؟
أَرِقْتُ ليلة فجلَسْتُ قُرْب النافذة وجَعَلْت أَتَسَمَّع وقعات أقدام المارة، وكُنْت أجِدُ في سماعها لذة تلهيني عن الأَرَق، وكانت تحدثني أحاديث شتى عن يأس اتخذ الليل لباسًا يضرب برجليه الأرض كأنه يريد أن تَسْكُت وقعات خُطَى ضجيج اليأس في صدره، وعن العربيد الذي تحكي وقعات أقدامه أنشودة هوجاء مثل أناشيد الريح وقد أمالت الأغصان، والمجنون الذي تحكي وقعات أقدامه نبضات قلب المحموم، أو كأنها غلام أَخْرَق، يضرب بالطبل، والآمِل الطموح الذي يكاد لا يلمس الأرض، فتحكي خطاه خُطَى الراقص المرِح.
والشاعر صاحب الخيال المستفز يكاد يسمع صدى وقعات أقدامه في عالم الخيال، ويخشى أن يخرق صداها قبة السماء، وصاحب الخيلاء الذي يحسب أنه يتصدق على الناس بخيلائه، والزمن الذي يسعى برجل عرجاء فلا تسبقه الريح، والأيام التي تحكي وقعاتُ أقدامها دقاتِ الساعة، وخطى الغيد تتلو على سمعك لحنًا مُهَذَّبًا شجيًّا كأنه أوزان الغزل والنسيب. أَوَمَا سَمِعْتَ أيها القارئ وَقْع أقدام الموت في دار جارك، وقد حَلَّ به القدر المتاح فحكى لك قصيدة في الرثاء؟ أو أنين الريح، فقل لمن يرى ظلام الموت ولا يرى جماله: إن هذا الظلام الذي تراه هو لون أستاره، ودون هذه الأستار الجمال الجم؟
إن هذا الكون العظيم ليتلو على المرء في كل حادث من حوادثه الصامتة الناطقة نغمةً من نغماته، هذا الكون قلب عظيم، نبضاته وَقْع أقدام الحوادث، كل نبضة منها تَبْلغ أقصى نواحيه فتخفق لها جوانبه كما تَخْفق الضلوع، والوجود دائرة ليس لها محيط، فإذا لمست أَيَّةَ نقطة منه كان لك أن تقول إنك لَمَسْت مركز الدائرة.
وأنت أيها القارئ، فيك تلتقي الحوادث الماضية من قديم الزمن، فيك تلتقي الدول والأمم، فيك يلتقي الشرق والغرب، فيك تلتقي الأنظمة والآراء، فهي طرق كثيرة تؤدي إليك. أنت أيضًا مركز دائرة الوجود. أنت لولا الحوادث الماضية من سياسية واجتماعية وطبيعية، لولا الحوادث التي حَدَثَتْ في هذا الوجود الذي لا حَدَّ له لَمَا كُنْتَ كما أنت الآن.
أما سمعت أيها القارئ خُطَى الغيب يطرق من وراء حجاب فَرَاعَكَ سَمَاعُها، ولجأْتَ إلى عَمَلِ ساعتك كي يُلْهِيَك عن سماع ذلك الطارق المهيب. الأقل لمحتقر الحياة الراغب عن عمل يومه، المُشْرَئِب بعنقه ليَسْمَع وَقْع أقدام الغيب، أيها الراغب عن ساعتك ويومك وحاجة عمرك لم تتعرف ما لم يأتك به الغيب، أليس ذلك السحاب الذي وراءه الغيب والقدر إذا قاربك كان هو الغيب والقدر؟ لم يروعك المجهول من الحوادث. أليس المعروف منها أدعى إلى الروع من المجهول؟
إني ليُخَيَّل لي في بعض أحلام اليقظة أن الآخرة في مكان قريب من هذه الدنيا. فأكاد أسمع ضجيج أهلها، ووَقْع أقدامهم، فأرمي الفضاء باللحظات، كالمشوق الذي يَحْسَب أن حبيبه على كثب، فأحسب أني أرى الآخرة بلحظاتي، فلا أرى غير هذا الناس.
ألم تُنْصِت إلى الربيع القادم وقد بلغ الشتاء مبلغه؟
فسمعت وَقْع أقدامه وكأنه حسناء في ساقَيْها الخلاخيل، تَسْمَع رنةَ أجراسها في تغريد العصافير، والصباح ألَمْ تَسْمَع وَقْع أقدامه؟ إنما الصباح أخو الربيع الأصغر قد عُنِيَ به الربيع فعَلَّقَ في ساقيه من خلاخيله تحبُّبًا إليه. ألم تسمع رنات أجراسها وقد صدحت الطيور في الفجر، وقد هبَّ النائم من مضجعه، ورأى مطلع الشمس فحَسِبَ أن الكون يُخْلَق مرةً جديدة.
زُرْتُ المقابر في ليلة من ليالي الشتاء، فخُيِّلَ لي أني أسمع أقدام الموتى، فصرت أتلفَّتُ لأرى تلك الأقدام التي أسمع وقعاتها، ثم عوى الريح في زوايا القبور فحسبته أَنِينَ الموتى، فجعل الخيال المشبوب يُمْلِي عليَّ وأنا أكتب:
إنه ليُخَيَّلُ لي أن الأطفال يسمعون وَقْع أقدام الملائكة. ألم تَرَ طفلًا يُصْغِي إليها فحسبْتَهُ يصغي إلى غير شيء؟
ألم تسمع وَقْع أقدام الأفلاك في دوراتها؟ هل سما بك الخيال مَرَّةً بين الشمس والقمر والنجوم، فسَمِعْتَ تلك النغمات الفضية التي تُطْلِقُها خُطَى الأفلاك في دوراتها؟ أم هل غِبْتَ مرة عن هذا الكون وجَعَلْتَ ترخي للتفكير عنانه، حتى حَسِبْتَ أنك كائنٌ في غير هذا الكون، وقد خُيِّلَ لك الوجود الذي لا جِدَّ له وهو يخطو في الفضاء فسمعت وَقْع أقدامه؟ آهٍ! ما ألذَّ تلك السويعات التي يُطْلِق المرء فيها من رِقِّ هذا الوجود، فيصير وجودًا كائنًا بذاته!