كلمة
قال الشاعر بيرون:
وإنما المرء ضحكة ودمعة، والحياة دمعتان، دمعة تُراق عند البكاء، ودمعة تُراق عند الضحك، والعاقل مَنْ جَعَلَ حياته ضحكة واحدة أو دمعة واحدة يُرِيقها عند الضحك ويَضِنُّ بها على البكاء، فيسكن البيتَ الضاحكَ المُشْمِس، ويَرْغب في الصديق الضاحك.
الضحك عَدُوُّ الهَمِّ، وكما أن القنبلة تَبْعَث الوَجَلَ في قَلْب الجيش؛ كذلك الضحكات تُفْزِع الهموم.
وأوجع البكاء بكاء الرجل. أما بكاء الغلام فقد لا يحز في قلبه، فإنه دامع العين ضاحك القلب. حدثني صديقٌ قال: «بَكَيْتُ مرة وأنا صغير، ولكني كنت مشغولًا عن بكائي بالتفكير في غير شيء، ولقد بَلَغَ بي ذلك التفكيرُ الطائشُ مَنْزِلَةً لم أَكُنْ أَعْرِفُ فيها أني أبكي.» أما الرجل فإنه إذا بَكَتْ عينه بَكَتْ عواطفه وبكى قلبه.
كل شيء في الوجود يضحك، فالرعد يضحك، والريح الهوجاء إذا أَتَتْ ضحكت، والخرير يضحك، والضوء يضحك، واللون يضحك، والحُسْن يضحك، والصديق يضحك، والزهر يضحك، والربيع يضحك، فقد قال البحتري:
والمشيب يضحك، فقد قال دعبل:
والأرض تضحك، فقد قال الشاعر:
وإني أكاد أقول: إن الضحك بكاء والبكاء ضحك. ألم يضحك الإنسان في الشقاء؟ ألم يبكِ في النعيم؟ أمَّا ضَحِكُه من الشقاء فادَّعِهِ — إذا شِئْتَ — الضحكَ المر، أو الضحك الباكي، أو الضحك الحزين، أو الضحك العابس، أو البكاء المتنكر، وأما بكاؤه من النعيم فادَّعِهِ — إذا شئت — البكاءَ المُشْرِق، أو البكاء الضاحك، أو البكاء العذب.
وللمعاني والأحوال ضحكات؛ فلليأس ضحكة، وللحقد ضحكة، وللأمل ضحكة، وللظفر ضحكة، وللحب ضحكة، ومن العظماء مَنْ نَبُهَ ذِكْرُ ضحكته وذاع صيتها، فإنهم يقولون في ضحكة الاحتقار: ضحكة مثل ضحكة بيرون، وفي ضحكة الأمل والاستبشار: ضحكة مثل ضحكة جيتي.
الغناء ضحك والموسيقى ضحك، غير أنه ضحك موزون مُهَذَّب شجِيٌّ.
وإن لأحوال الحياة ضحكات، فالنعيم يضحك لأنه يخدعنا، والشقاء يضحك لأنه يشمت بنا، كذلك للحرارة ضحك وللبرودة ضحك، غير أن ضحك الحرارة مثل ضحك الشبان، وضحك البرودة مثل ضحك الشُّيَّب. ضحك الأطفال مثل تغريد العصافير، وضحك النساء مثل صوت الحُلِيِّ، وضحك الرجال مثل صوت الرعدة، فالأول يَنُمُّ عما يكنُّه من الطهارة، والثاني ينمُّ عما يكنه من الرقة واللطف والحنان، والثالث يَنُمُّ عما يُكِنُّه من الثبات والعزم. الرجال يلتذُّون الضحك أكثر من الأطفال لأنهم زاولوا مصائب الحياة، وكما أن الراحة أحْسَنُ ما تكون بعد التعب؛ كذلك الضحك أَعْذَبُ ما يكون بعد مزاولة أمور الحياة، والرجال أقرب إلى الضحك من النساء لغِلَظ إحساسهم ورقة إحساسهن، فإن رقة الإحساس ثغرة يَهْجُم الهَمُّ منها على الإنسان.
الضحك العذب خير من البكاء، وكذلك الضحك المر أفضل من البكاء المر؛ لأن في عنصر الأول شيئًا من احتقار المصائب، وهذا أليق بالعزيز النفس وبه أَبَرُّ، وإن في الناس مَنْ يضحك فتَحْسَبه يبكي، ومَنْ يبكي فتحسبه يضحك، وهذا أشقى الناس؛ لأنه لا يَقْدِر أن يخلط نفسه بنفوسهم وشُعُورَهُ بشعورهم، وإن من الناس من يَسْتَجْلِبُ مَنْظَرُه لآخرَ الضحكَ. كما قال المتنبي في كافور:
ومن رحمة الله؛ أن المرء مهما كَرَثَه الشقاء قادر على الضحك، فإذا تَكَلَّف الضحك خرج ضحكه سقيمًا فاتِرَ الصوت مكذوبًا، ولكنه إذا لجَّ في هذا الضحك المكذوب الحزين انقلب ضحكًا مجنونًا غالبًا لا سَبَبَ ولا حَدَّ له. هذا من رحمة الله بالناس.