الذوق
جاء في قصة دون كيشوت للكاتب الإسباني الشهير سرفانتس أن رجلًا اشترى زقًّا من الخمر المعتقة، ودعا أصحابه ليُذِيقَهُم لَذَاذَتَهَا، ويسمع منهم كلمات الثناء عليها، فلما ذاقها أحدهم صَمَتَ قليلًا ثم قال: لقد كانت تلك بالغةً غايةَ اللذاذة، لولا أن مذاقها يشوبُهُ مذاق الحديد، وذاقَها آخرُ فصَمَتَ مثل الأول ثم قال: لقد كانت تكون بالغةً غايةَ اللذاذة لولا ما يشوب مَذَاقَهَا من مَذَاقِ الجلد، فجعل الحاضرون يَسْخَرُون منهما ويتهمونَهُما بسُقْم في الذوق، فلما أُفْرِغَ الزق وجدوا فيه قِفْلًا من الحديد رُبِطَتْ به قطعة من الجلد، فجعلوا يَعْجَبُون من سلامة ذوْقَيْهِما، وعِرْفَانِهما دقائقَ الأمور.
وإنما أوردنا هذه القصة لنضرِبَ مثلًا للأذواق، وكيف أن الصحيح منها ما كان قديرًا على تَتَبُّع الأجزاء الدقيقة. فلو عُرِضَ عليك كتاب وسُئِلْتَ رأْيَك فيه وكُنْتَ نافذًا إلى حسناته، كان خليقًا بك أن لا تَحِيدَ عن الرأي الرجيح. ثم إنك لا تكون صادقَ الحُكْم في آداب اللغة العربية مثلًا إلا إذا دَرَسْتَ آداب العصور التي تعاقَبَتْ عليها، فإذا درسْتَ آداب عصر واحد كان رأيُكَ أبْعَدَ ما يكون من الصواب، ومثلك مثل الحَكَم الذي إذا سَمِع شهودَ الإثبات أفاد من المتهم، قبل أن يسمع شهود النفي. فإذا أَرَدْتَ أن لا تَضِلَّ أصالة الرأي، كان خليقًا بك أن تعرف أنحاء الأمر الذي أنت حاكم فيه، فإذا أردت أن تكون ناقدًا لفن التصوير ولم تَدْرُس إلا صور الأوائل مثل روفائيل وتشيان خَفِيَت عنك حسنات المصورين أصحاب المذاهب المخالفة لمذاهب الأوائل.
والأذواق تتفق في أشياء وتختلف في أخرى، من حيث الاستملاح والاستهجان، فما اجتمعَتْ عليه الأذواق فهو ذَوْق عَامٌّ، وما اختلفت عليه فهو ذَوْق خاص، ولكل امرئ من هذا نصيب حسب أهوائه وطبائعه وما تغذى به إحساسه، وما وَقَعَتْ عليه حواسه، ولا يجحد أحدٌّ أن في دائرة الذوق ما يَتَّفِق عليه الكثيرُ، ولولا ذلك ما كان بين الناس صِلاتٌ؛ لأنها لا تكون إلا بمقدارٍ من التعارف، والتعارف لا يكون إلا بمقدار من التشابه في الأذواق، ولقد رأيت الناس يعْرِضون ما يعالجونه من المسائل العقلية على عواطفهم، جاعلين لها سلطانًا على قوة المحاجة، ويُحَكِّمُونها في أشياء لا تقوى على أن تحسن مناصحتهم فيها، وتبدي لهم عن الرأي الرجيح، ورأيتهم يهملون مَلَكَة انتقاد النفس، فلا يتعهَّدُونها بما يُصْلِح من شأنها ويعمل في إنمائها، حتى تَضْعُف فتضعف قوة الحكم على الحقائق بقدر ضَعْفِها، ورأيت أناسًا رفضوا ما تُصْدِرُه عواطفهم من سنن وعادات، وأساءوا الظن بها اتكالًا على قوة المحاجَّة وما رأوا فيها من الحكمة والتدبير، ولكن فاتهم أن للعواطف مجالًا في كثير من الأمور.
وما تقول في رجل يرى زوجه فيريد أن يعرف نصيبها من الجمال فيقول في نفسه: إن طولَ أَنْفها خمسة أشبار ونصف، وهكذا يريد أن يعرف مقدار تناسُب أعضائها، والتناسب معنًى من معاني الجمال، فكأنما هو موظَّف من موظفي مصلحة المساحة وقد أُمْرَ أن يقيس قطعة من الأرض.
فليس جمال المعاني ومعاني الجمال مما يُحَكِّم فيه قوى العقل غالبة للعواطف، ولا هو نظرية تُحَلُّ بالتفكير فيها، حتى إنه قيل: إذا لم يكن ناقد الشعر ذا عواطف مشبوبةٍ كان خليقًا به أن يجد لنفسه مهنة أخرى.
فالعواطف هي أكثر الأشياء سلطانًا على الأذواق، فإذا كانت العواطف سقيمة كانت الأذواق كذلك، ولا شيء يُفْسِد العواطف مثل مزاولة المرذول، فإن المرء لا يزال حتى يراه لأسباب الفضل جامعًا ولأصناف الحسن شاملًا، وحتى لا يرى الفضل إلا فيه، فإنك لتنشد الأزهري في أزهره والشاب في دار تمثيله ما يُسْمِع الصم، فلا يسوءك إلا أنك طربْتَ ولم يطرب، وعرضت بضاعة لو صادفت ذا ذوق صحيح ما ردها عليك ولكن:
وإذا بالأول يُنْشِدك من حواشيه ومتونه ما يزيده في فتونه، وإذا بالثاني يتغنى بشعرٍ ملؤه الوهن والغميزة، فأنشدهما قول البحتري:
وقل لهما انظرا كيف جعل الخطوب لا تعرف ما هي فاعلة به كما يعبث الطفل بجانب الورقة، فتارة يطويها وتارة ينشرها، وأنشد قول الشريف:
«النعامي ريح» فإنه جَعَلَ مَرَحَ الإنسان في النعيم، مثل لعب الريح بالأغصان والأوراق، فلا تجد منه بعد ذلك إلا ازورارًا مثل ازورار التقيِّ عن مظان الريبة.
اجتمع أعاظم المصورين وصَنَعَ كلٌّ صورة أملاها عليه ذَوْقُه، زَعَمَ أنها بَلَغَتْ غاية الجمال، إذا رأيتَها وَجَدْتَ اختلافًا عظيمًا ينبئ عن مثله في أذواق هؤلاء المصورين، وربما كان بين تلك الرسوم ما يستسمجه بعضهم. على أنك لو قُلْتَ لهم: ما هي أصول الجمال؟ لقالوا: كذا وكذا، واتفقوا على أشياء عامة، حتى إذا عرضوا عليك ما يستملحونه من معاني الجمال عَجِبْتَ لاختلافهم فيما يعرضونه عليك، ومن أجل ذلك قال العلامة داود هيوم: الأذواق تتفق في الأصول العامة وتختلف في الأمثلة الخاصة والأفكار. بعكس ذلك تتناكر في النظريات العامة، حتى إذا ولج بها البحث إلى الدقائق أَدَّتْ بها إلى التعارف.
على أنه مهما تباينت الأذواق، فإن لذلك التباين حدًّا إذا تعداه امرؤ عُدَّ سقيمَ الذوق. فإذا تمارى اثنان في تفضيل ابن المعتز على البحتري، كان أحدهما مصيبًا والآخر مخطئًا، ولكن خطأ المخطئ لا يُعْزَى إلى سَقَم ذَوْقِه. أما إذا وَلَجَ امرؤ في تفضيل ابن الفارض على البحتري فلا نجد له شيئًا أحسن من أن نرجو له مغفرة واسعة.
ولقد وضع أناس الأخلاق في دائرة الذوق؛ لأن الناس متفقون على أصول عامة، مثل بُغْض الشر وحُب الخير، ولكنك إذا أَرَدْتَ أن تقسم الأفعال إلى خير وشر وَجَدْتَ اختلافًا كبيرًا في تقسيم الأمم لها. ألا ترى أن العرب لم تكن ترى حَرَجًا في الإغارة، وأن الإسباني كان لا يجد حَرَجًا في أن يجعل السيف سلاحه الذي يقتل به عدوه، ولكنه يأبى أن يَجْعَل السم سلاحه خيفة أن تُنْسَب إليه فظاظة في الخُلُق. أما العادات فهي بنات الأذواق، فإذا كَثُرَت العادات وقيدت المدني نَمَتْ كَثْرَتُها وتقييدها إياه على سقم في ذوقه، ومن الذي ينعم بالحمل الثقيل.