رداء ولا رداء
إذا كنا نَحْمِد العُرْيَ مِنْ أجل أنه يسلك الناس في صعيد واحد غيرَ رافع للغَنِيِّ شأنًا، ولا خَافِضٍ للفقير جناحًا، فخليق بنا أن نَحْمَد الكساء من أجل أنه باعثُ الحياء في الصدر، والحياء غذاء الضمير، ولا خلاق لقوم لم تَصِحَّ ضمائرهم. يا عجبًا للمرء! إنَّ أَجَلَّ شيء فيه مستجْلَب من كسائه، ذلك الكساء الذي كان شَعْرًا على ناقة أو ذَنَبًا لبعير لوث البعر ذنبه. ألا قل لمن لا يرفع للمادة شأنًا ولا يقيم لها وزنًا: لقد طَوَّحَ بك الضلال. أما رأيت كيف أنها تحيي الحياء فتحيا بحياته الضمائرُ والأخلاق، ولو أنك رَمَيْتَها بنظرٍ صادقٍ لعَلِمْتَ أنها الوجود وروح الوجود، فإذا زَعَمْتَ أنها روح الوجود فقل مع «بركلي» أنْ ليس في الوجود مادة، فإذا ظنوا بك الظنون فقل: كل عَقْل تَظُنُّ به الظنون.
يقسم الناس الوجود إلى مادة وقوة، أو إلى جسم وروح، فيخطئون في بعض ما يَعْنُون؛ لأن القوة في المادة والمادةَ في القوة، وهما شيئان لا يفترقان أبدًا، ومن أجل ذلك أَنْظُرُ إلى ما يَدْعُوه الناس جمادًا غير ذي حياة فلا أراه كذلك: تلك الفاكهة العفنة لولا أن فيها من القوة شيئًا لما قَدَرَتْ أن تَعْفَن، وذلك الغصن الذاوي كيف يذوي إذا لم يكن فيه من القوة ما يذويه، فإذا فَهِمْتَ ذلك عَرَفْتَ أن كل شيء في الوجود حي، وأن الفناء معنًى من معاني البقاء؛ لأنه انتقال من حياة إلى حياة ومن هيئة إلى هيئة. قال بركلي أنْ ليس في الوجود مادةٌ فصدق. وقال علماء الفسيلوجيا: ليس في الوجود ما يُسَمَّى عقلًا أو روحًا، لم يكذبوا.
هنا يقف الضئيل موقِفَ التعجب والإنكار، ثم يقول ضدان لا يتفقان، وقد وهم في ذلك، فليس بين القولين مغايَرة، فالأول يَنْظُر إلى صفات في أجزاءِ الوجود غير التي يَنْظُر إليها الآخرون. فإذا أَرَدْتَ أن تُوَفِّق بين القولين فقُل: المادة هي القوة والقوة هي المادة، فإذا بَلَغْتَ هذا المَبْلَغَ مِن العرفان فَهِمْتَ قول قاسم بك أمين: «العقل والإدراك والنفس ألفاظ لا تَدُلُّ على أشياء حقيقية، بل وُضِعَتْ لمَلَكَات كان يُتَوَهَّم وجودها بالذات في زَمَنٍ كان العلم فيه قاصرًا يَسْتَمِد مادته من الخيال، ثم استعملها علماء هذا العصر بحكم العادة ولسهولة التعبير وتقريب المعاني إلى الفهم، والحقيقة أن البحث العلمي لم يَجِدْ في الحياة الفسيولوجية إلا خلايا متنوعة قابلة للنمو بذاتها ومتأثرة باشتراك خلايا أخر.»
كان الإنسان في بدء وحشيته يمشي مكشوف الجسم فاقِدَ الحياء، ولكنَّ حُبَّ التزين كان آخذًا من لُبِّه مأخذًا غريبًا، فاتخذ اللباس حِلْيَةً، وما زال يخلع زيًّا ويلبس آخر حتى ظَهَرَتْ فطنته، فاتخذ من اللباس وقاءً من الحر والبرد. فكان هذا اللباس موري الحياء في قلبه، فسَتَرَ جِسْمَه وغطى على ما يتخلق به من خصال السوء، فكأني به وقد تَعَلَّم الحياء تَعَلَّم الرياءَ أيضًا، فكان أكثر أهل الحياء من أهل الرياء، لأن الحياء المقبوح يَزَعُهم عن ارتياد الريب أمام الناس ولا يَزَعُهم عن مواقعة الرذيلة في السر.
كان أقوى الناس جسمًا في الزمن الخالي أَقْدَرَهم على جمع المال فكان أحسنَهم لباسًا، والقوة معبود الناس، فكانوا يُجِلُّون لباس القوي من أَجْل قوَّته، فما زالت بهم الحال حتى أجلُّوا المرء مِنْ أَجْل لباسه. أليس اللباس الحسَن دليلًا على الغنى والمال؟ هو العبد المطواع والرسول اللبيب إذا سَرَّحْتَه سعى بينك وبين الناس بأحسن ما تحب، وهو الحجة البيضاء والرأي الرجيح.
وهو مغطٍّ على عيوبك ورافعٌ عن حسناتك الخمول، وهو إذا شئت الداء العياء والسم المميت.
لقد حَبَّبَ الجاهُ إلينا اللباسَ فأحببنا الزينة حبًّا في الجاه. إن الرجل إذا خَلَعَ ثياب زينته خلع فيها روحه فلا راجعها حتى يلبس ثيابه، ولقد صارت قيمةُ الرجل ما يتحلى به، وإذا كُنْتَ في ريب من ذلك فانظر إلى المثري يرْفُل في زينته وأطل عليه وهو في الحمام تَرَ أنه خلع عَظَمَتَه وَمَجْدَه حين خَلَعَ ثيابه.
قال شكسبير: ثياب المرء دليل عليه. لقد صدق شكسبير إلا أنها كادت لا تكون ذلك الدليل. أما رأيت إنسانًا ضفا عليه الحرير ورَفَّ تحسبه من الملائكة وهو من الشياطين؟
اثنان أحدهما حسن البزة والثاني رثها، قد همَّ الأول أن يبصق في وجه الثاني، غير أنه رأى ثيابهما تخفى فجأة، أتحسب أيها القارئ أنه فاعل ما هم به من البصق؟ كلا إنه ليخجل أن يبصق على جسم مثل جسمه. فالعري مُنْزِل الرفيع من سمائه ورافع الوضيع من حضيضه، فهو من هذا الوجه مثل الموت. ائتِ بفلَّاح من صميم الريف، وقِفْ به عند دكان أستين أمام تلك التماثيل ذات الثياب الجدد، فإنك ترى صاحبك يكاد يُحَيِّيها؛ لأنه يحسب أن حياة المرء في ثيابه. قاتل الله الثياب، لقد كدنا نكون في حياتنا أمواتًا، وكادَتْ ثيابنا تكون لنا في ذلك الممات أكفانًا.
ينثر الزارع في أرضه الحب ثم يقيم عندها قطعة من الخشب ويضع عليها ثيابًا بالية، فإذا مَرَّ بها الطير كانت له تلك الثياب البالية وازعًا عن التقاط الحب، لكأن ذلك العصفور أعقل من المتمولين الذين يلتقطون قوت الفقير، لا يَزَعُهم عنه تلك الخِرَق البالية التي تكاد لا تكسو جسمه. أتحسب أن الممثل يَفْخَر بأزياء الملوك والأمراء؟ أليست عظمة الإنسان أيضًا مستعارة من ثيابه المستعارة؟ ترى الفقير لابسًا ثوبًا يُطِلُّ عليك الفقر من كل خرق من خروقه.
هذه أبواب الحاجَة تنفذ منها إلى الأبصار. أيها الغني إنك لتحسب أن كل خَرْق في ثوب الفقير جرح رغيب في عرضه، وإنك لواهم، فإنه أقرب إلى طبيعة الإنسان منك أنت تعيش في ثيابك وهو يعيش في نفسه.