حُمَّى الحياة
يُروى أن آخر عبارة نطق بها سقراط قبل أن يُطْبِق جفنيه عن نور الحياة، هي هذه: «يا أقريطون! إني مدين بديكٍ لأسكلبيوس، فهلا تذكرت أن ترد عليَّ هذا الدين؟»
وذلك أن الناس كانوا إذا ما ألمَّ بأحدهم مرض، ثم عُوفي منه، قدم ديكًا إلى إسكلبيوس. فكأنما رأى سقراط نفسه وهو مشرف على الموت، بمنزلة من أصابته الحمَّى حينًا، ثم زالت، فوجب عليه إذن أن يقدم الديك التقليدي إلى من تُقدم له الديكة إثر الشفاء من المرض. والحمى التي أصابته في هذه الحالة ثم زالت، هي حمى الحياة.
والشبيه يُذكر بشبيهه؛ فقد أمضيت ساعاتٍ من القلق الذي لا يستقر على قرار، أجلس إلى مكتبي ساعتين ثم أنهض إلى مقعد وثير في ركن الغرفة أستوي فيه لأسترخي وأستريح، ثم أمَلُّ الراحة والاسترخاء، فأعود إلى المكتب ساعة أو بعضها، ثم يعاودني القلق وأنتفض نحو النافذة أُطِلُّ منها دقائق، ثم يُغريني السرير بضجعة تقصر أو تطول. فمعظم حياتي أقضيه في غرفة واحدة لا أملك أثاثها. نعم قد يغريني منظر السرير بضجعة تقصر أو تطول حسب هذه السرحات التي أسرحها، أستعيد بها الماضي بكل مرارته، وأتوجه إلى نفسي فيها بالتأنيب والتقريع، حتى لأكاد أمزقها تأنيبًا وتقريعًا: لماذا لم تفعل هذا؟ ولماذا لم تقُل ذاك؟ … وأنتزع نفسي من هذه السرحات انتزاعًا لأعود من جديد إلى مكتبي دقائق، وتقع عيني على بدلتي معلقة مدلَّاة كالمشنوق انتحارًا، فأرتديها وأخرج إلى مكان قريب أحسو قهوتي إن كنت من النهار في ساعة الضحى، أو الشاي إن كان الأصيل.
حياة أرِقَة قلقة أعيشها كالمحموم يتقلَّب في الفراش بين جنبيه، هي التي ذكرتني بما يشبه الفكرة التي طافتْ برأس سقراط وهو يُحْتَضَر، مودعًا الحياة ببسمة على شفتيه؛ لأنه رآها عندئذ مرضًا، ورأى نفسَه قد دنا من البرء والعافية.
•••
لكني في ساعة من طمأنينة النفس أكتب هذه السطور لأقول لسقراط حين سخِط على الحياة، ولأقول لنفسي حين سخطت على الحياة؛ لما فيها من قلَق لا يعرف الرضا: لقد أخطأتما؛ فالحياة محببة لهذا القلق نفسه الذي لا يعرف الرِّضا. ولو حلت محلها سكينة الهدوء والقرار؛ لما كانت جديرة بالعيش. ولم يخطئ «ستيوارت مل» حين قال: «إني لأفضل أن أكون سقراط في قلق نفسه، على أن أكون مطمئنًا طمأنينة الغِر الأبله.»
ولولا هذه الشَّرارة المقدوحة التي تؤرِّق جُنوب الناس، وتُباعِد بينهم وبين السكينة والهدوء؛ لكان الإنسان قطعة من طين لم تُنفخ فيها النفخة التي تنقلب معها إنسانًا قلقًا طامعًا طامحًا. ثم لولا طموح الإنسان وأطماعه، لما كان هنالك ما يبرر ارتفاع السماء عن الأرض، ولا ما يبرر أن يكون الأفق بعيد المدى. فكلما دنوت منه خطوة تقهقر إلى الوراء خطوة؛ حتى لا ينقطع لك سير، ولا يَخْمد لك نشاط.
إنني لا أستطيع أن أعرِّف الحياة المتوثبة المتوقدة بخير من قولي: إنها عصيان الطبيعة، ولا أن أعرف الموت في خموده وهموده بأحسن من القول إنه الخضوع لقوانين الطبيعة. فالكائن الحي يعصي الطبيعة، بمعنى أنه إذا فرَضت الطبيعة على الحجر أن يَنحدر من قمة الجبل إلى أسفله مدفوعًا بقانون الجذب؛ فللإنسان أن يعصيها ويصعد من بطن الوادي إلى قمة الجبل. وإذا فرَضت الطبيعة على الحجَر أن يتمدَّد لها إذا سخنت، وأن ينكمش لها إذا بردت، وأن تتفتت أجزاؤه هَباءً إذا شاءت له عواملها؛ فللإنسان أن يرغمها على البرودة له إذا سخنت، وعلى الحرارة إذا بردت، وألا يُصِيخ إلى ما تأمُر به عواملها من تفتيت أجزائه … إلا إذا مات!
والسكينة الهادئة هي إلى الموت أقرب، فقل لي كم يبلغ بك استقرار الحياة؛ أقُل لك كم فعلت بك أسباب الموت. وقل لي كم أنت قلق؛ أقل لك إلى أي حد قد بلغت من سلم الحياة؛ فالقناعة — التي هي الرضا بما أنت فيه — كنز لا يفنى عند مَن خمدت في صدره شعلة الحياة. أما عند اليقظان الحي فهي والهزيمة شيء واحد. ودُرْ ببصرك حيث شئتَ في جنبات الأرض، وفي أرجاء التاريخ؛ لتعلم علم اليقين أنه ما ذلَّ أبدًا من طمِع، ولا عزَّ أبدًا من قنع.
ولئن صدق هذا القول على الأفراد مرة؛ فهو على الأمم أصدق ألف مرة. ولو شئت فاستعرض أمم الأرض جميعًا. وإن شئت فاسترجع أُمم التاريخ منذ فجر التاريخ؛ لتصل إلى هذه النتيجة الواحدة. وهي: أنه حيثما دبَّت الحيوية في جسم الأمة لسببٍ من الأسباب، أخذها القلَق مما هي فيه، وراحت «تطمع» في غيره وتطمح إلى سواه، والعكس صحيح أيضًا؛ أي إنه إذا قلِقت أمة فاعلم أنها بهذا القلق في طريقها إلى الحياة بمعناها الكريم، الذي لا يكتفي بتردُّد الأنفاس في الصدور.
إن المادة المَوات من دأبها دائمًا أن تتلمس في سيرها سبيلًا لا تعترضه من عوامل المقاومة إلا أقلُّها. فاسكب على الأرض ماءً، وانظر كيف يسيل. إنه لا يصعد من أسفل إلى أعلى، ولا يقتحم صخرة أمامه إذا استطاع أن يدور حولها، لكن الحيوية السليمة تبحث عن الصعب لتُذَلِّلـه، ولا تنفك أمام العقبات حتى يسلس قيادها. وهؤلاء هم أبطال الإنسانية جميعًا؛ أنبياؤها وعلماؤها وقُوَّادها ورجال الفن فيها. كان بوُسْع كل واحد منهم أن يقنع ويرضى ويغمض العين لينام ويستريح، لكن أحدًا منهم لم يجِدْ في القناعة عزَّة، وراح يطرد عن نفسه وعن أمته هذا الذل القانع، طامعًا له ولها فيما هو أعزُّ وأكرم.
وإذا كان ذلك كذلك؛ فكم يغيظك أن تسمع هنا وهناك هذه المقارنة السخيفة السمجة بين ما يسمونه شرقًا وما يسمونه غربًا. فيقال: قد عرف الشرق كيف يخلد إلى السكينة فهو نعيم، وأما الغرب فهو الأتُّون الذي يغلي بالحروب، وبالمعامل التي شغلت نفسها بإنتاج القنابل الذرية وغير القنابل الذرية من أدوات الفتك والتقتيل. لكني أرى هناك قلق الحياة الطامعة، وأرى هنا سكينة الموت. وإذا أخذت تدبُّ فينا الحياة، فبمقدار ما نحن آخذون في سبيلنا إلى مشاركة الغرب في مثل قلقه واضْطِرَابه … فوالله لو خُيرت بين أن أكون فردًا في أمة تنتج القنابل الذرية أو أكون عضوًا في جماعة تُلقَى القنابل الذرية فوق رءوسها؛ لما ترددت في الخيار لحظة. وبالطبع أترك للقارئ كامل الحرية يختار لنفسه ما يشاء.
فلئن كان هذا القلق الذي يدوخ منه الرأس، هو حُمَّى الحياة التي سخِط عليها سقراط، وسخطت عليها أحيانًا، ويسخط عليها كثيرون؛ فقد أخطأنا جميعًا؛ لأن مثل هذه الحُمَّى هي التي لا نرجو لأنفسنا منها شفاءً.