الآدمية الصحيحة
أهديها تحية إلى «قارئة»؛ فلرسائلها في نفسي أجمل الأثر وأعمقه.
***
كانت ليلة من شتاء إنجليزي برده زمهرير، تغوص الأقدام غوصًا في أكوام الثلج وكثبانه، حين التمست طريقي إلى حفل راقص أقامته الجامعة في لندن. التمست طريقي إلى هناك بعد تردد طويل؛ إذ كنت في غرفتي جالسًا أمام النار مستدفئًا، فما كان أغناني عن التعرض لذلك البرد الذي يقرض الأطراف قرضًا، ويأكل الأنوف والآذان أكلًا.
ترددت طويلًا، شأني دائمًا كلما دعاني داعٍ للمرح والفرح، فعندئذٍ تتأَلَّب في ضميري أسباب الموانع والتعِلَّات، ويظل عقلي يفنِّد لي تلك الأسباب واحدًا في إثر واحد، ويدفعني دفعًا للأخذ من لذائذ الحياة بنصيب … فإن وجدت الناس تدفعُهم طبائعهم إلى اجتراع اللذائذ وعَبِّها، لا يمنعهم عن ذلك أحيانًا إلا صوت العقل فيهم؛ فإني على عكس ذلك؛ أتخوف بطبعي من الإقدام على مُتع الحياة، وأتردد طويلًا كلما سنَحَت لي ظروفها، ثم لا يدفعني إليها إلا صوت من العقل ومنطقه!
التمست طريقي إلى هناك، ولم أكد أخطو داخل البَهْو خطوة أو خُطوتين حتى شمل الدفء أطرافي، وعادت إليَّ حرارة الأحياء، بعد أن كدت أنقلب من برد الطريق عودًا جفَّ وذَوَى … فالمكان دافئ جميل، وحسبي هذا الشباب النضير من فتيان وفتيات، يشع من حوله حرارة تستنهض من به ميلٌ إلى قعود، لكني جلست هُنَيْهَة على هامش المرقص، لا أضرب بسهم في زحمته. جلست أنظر مفتونًا بهذه الموجات المتناغمة المتهادية من الراقصين والراقصات … إن أجمل شيء في الدنيا غادة في «فستان» السهر! فماذا تقول في مجموعة كبيرة منهن دفعة واحدة تراهن راقصاتٍ مع زملائهن من الشباب الفتي الوسيم؟!
وإني لأنظر تجاه الباب، وإذا الداخلة مرغريت — فتاة عرفتها من الجامعة — كانت تطمئن إلى حديثي، وأسعد بحديثها، فيا لفرحة قلبي حينئذٍ! لقد كنت أتوقع كل إنسان إلا هذه الصديقة؛ لأنها كانت تسكن ضاحية بعيدة مع أبويها، ولم تكن بها عادة التخلف إلى هذه الأمسيات الراقصة التي يقيمها الطلاب آنًا بعد آنٍ … لكنها جاءت وفرحت لمجيئها. وما هي إلا أن أخذت تنفض إليَّ همَّ يومها.
– جئت إلى الرقص على غير نية سابقة، فأعتذر عن ثيابي! كان وينبغي أن أكون بثوب السهر.
– لا داعي لاعتذار منك عن ثيابك؛ فكل شيء رائع وجميل … كأني بك لم تذهبي إلى الدار!
– لا، بل ظللت هاهنا في المدينة، أبحث لي عن غرفة أسكنها.
– ماذا تقولين؟!
– نعم، فقد بلغت روحي الحلقوم من أبي. إن مصيبتي الكبرى هي هذا الفارق البعيد بيني وبينه في العمر؛ فلست في هذا كسائر الناس مع آبائهم. إنه تزوج من أمي وهو قريب من الخمسين، وكان يكبرها بخمسة وعشرين عامًا، فلا عاشا سعيدين، ولا عرف كيف يعيش سعيدًا مع أبنائه وبناته. إنه الآن يدنو من السبعين، وأنا في الثانية والعشرين؛ فالتفاهُم مستحيل بين عمرين يفصلهما خمسون عامًا. فلأكبر ما شاءت لي الأيام، ولأنضج ما وسعني النضج، لكني ما زلت في عينه طفلة.
– هوِّني على نفسك الأمر يا مرغريت؛ فأحسب هذا شأن الآباء في كل زمان ومكان. إن أعجب ما في الآباء أنهم لا يقررون لأنفسهم؛ هل يريدون لأبنائهم أن يكونوا كبارًا أو صغارًا؟ فإن تصرف صغيرهم كما يتصرف الصغير، قالوا له: إنك لم تعد صغيرًا. وإن سلَك لهم مسلك الكبار، قالوا له: تذكر أنك لا تزال صغيرًا! … لم تكن مسافة العمر كبيرة بيني وبين أبي، ومع ذلك فكنت إذا تصرفت تصرف الأطفال وأنا طفل فعلًا، نهَرني؛ لأني في رأيه ينبغي أن أصنع صنيع الرجال. وإذا تصرفت تصرف الرجال، وأنا رجل فعلًا، غضب مني قائلًا: لا تنسَ أنك في عيني طفل وستظل طفلًا. الحق أني كم تمنيت لأبي أن يستقرَّ في ذلك إلى قرار يطمئن إليه.
– ليت أبي مثل أبيك، يعترف لي ولو مرة واحدة بأني رشيدة ناضجة، وينبغي أن أسلك سلوك الراشدات الناضجات. لكني عنده طفلة دائمًا … لا، إن هذه حال لن تدوم بعد اليوم. لقد كان يصبحني بنصيحة، ويمسيني بنصيحة. فلما أحسست إزاء نصحه الذي لا ينقطع أني لا أكاد أملك من أمر نفسي شيئًا؛ أبلغت أمي أن تنقل إليه نذيري بأني تاركة له الدار إنْ عاد … وكفَّ يومًا ثم عاد! فكان لي أن أختار لنفسي طريق حياتي. ولا طريق عندي إلا ما يصون عليَّ شخصيتي وفرديتي، بحيث لا تنطمس معالمها في شخصية أخرى. ونتيجة اختياري هي أني سأستقل منذ غدٍ في غرفة وجدتها اليوم.
فهتفت لنفسي، وأنا أنظر لها نظرة الإعجاب، قائلًا: تلك يا بنيتي هي الآدمية الصحيحة!
•••
إن ذلك منك يا فتاتي هو الآدمية الصحيحة! والآدمية الصحيحة هي أن يتصرف الآدمي كما تصرف آدم نفسه، ومن شابه أباه فما ظلم. لقد جاء خروج آدم من الجنة رمزًا لما يتفرَّد به الإنسان دون سائر الكائنات جميعًا، وهو أن تكون له إرادة حرة يختار بها لنفسه هذا الطريق أو ذاك، وكان خروجه من الجنة أول عمل إنساني حُرٍّ كتب السابقة لكل من أراد أن يكون حرًّا من بنيه. بل كان خروجه من الجنة أول عمل فيه تفكير؛ لأن التفكير كذلك هو في اختيارك لطريق دون أخرى، وهل تفكر الآلة كيف تسير؟ هل تفكر النحلة كيف تجمع الرحيق؟ أمام الآلة وأمام النحلة طريق واحد لا اختيار فيه. وإذن فلا فكر، ولا إرادة ثم لا كرامة. الإنسان إنسان؛ لأنه يفكر كيف يعيش هذه الحياة التي لا تقع له أبد الدهر إلا مرة واحدة!
كان خروج آدم من الجنة رمزًا لتقرير الذات الفردية، كان أول خروج للإنسان على الطبيعة. وبالتالي أول خروج على القانون الذي يسد المسالك أمام الإرادة سدًّا، كان خروجه من الجنة أول خروج للإنسان عن محيطه، وانفراده ذاتًا حرة تفكر لنفسها وتعمل وفقَ تفكيرها.
بل إن تَبَرْعُم الأفراد أفرادًا هو معنى التطور في الطبيعة نفسها؛ فقد كان العالم كله سديمًا واحدًا، فلما انفصلت عن السديم أجزاء، وقام كل جزء مستقلًّا بذاته، قلنا إن العالم بهذا قد تطور … التطور في كل شيء هو السير من الوحدة التي تنطمس فيها الأجزاء، إلى التفكك الذي يُبْرِز تلك الأجزاء أفرادًا. فكان الناس في بدائيتهم يعيشون قبائل، كل قبيلة وحدة لا تعرف لأفرادها وجودًا ولا وزنًا؛ فالقبيلة كلها جسم واحد، ولها شيخ رئيس يُسَيِّرها كيف شاء، حتى إن اعتدى على أحد أفراد القبيلة معتدٍ من الخارج، عَدَّت القبيلة كلها أن الضر قد مسها جميعًا. لكن المجتمع اليوم هو أقرب إلى أفرادٍ تعاقدوا على العيش معًا، لكل فرد منهم شخصيته، ولكل منهم صوته في انتخاب الرئيس.
تقرير ذوات الأفراد هو الهدف الذي تهدف إليه الحياة في خطوات سيرها. وليس مصادفة عمياء أن تكون العبادة عند الهمج البدائيين طقوسًا جماعية، يؤديها أعضاء القبيلة معًا؛ لأن الفرد لم يكن له وجود مستقل عن سائر الأفراد، ثم تطور الإنسان وتقدم، ونزلت شرائع السماء تقضي بأن تكون العبادة واجبًا يؤديه الفرد بغض النظر عما يفعله في ذلك سائر الأفراد؛ لأن الفرد أصبح مسئولًا عن نفسه أمام الله يوم يكون السؤال، يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذٍ شأن يغنيه.
إن ما فعلتِه، يا مرغريت، هو الآدمية الصحيحة، الآدمية التي تفعل ما فعل آدم، حين فَصَم الروابط التي كانت تربطه بمحيطه، ما دام ذلك المحيط من شأنه أن يطمس وجوده. تُرى هل ذلك ما أرادته الطبيعة حين جعلت ولادة الطفل مصحوبة بقطع الحبل السري الذي يصل الجنين بأمه؛ إيذانًا من الطبيعة بأن هذا الوليد لم يعُد جزءًا من غيره، بل أصبح فردًا يُعد واحدًا في عداد الناس؟
إن مَن طمس فردًا من البشر، بحيث حَرَمه معالمه التي تميزه من سواه؛ قتل نفسًا حرَّم الله قتلها. وقد يكون القتل بغير دماء تسيل! وليس أشدَّ إهدارًا لآدمية الإنسان من ذوَبان وجوده في أسرته أو في أمته، بحيث لا يعود له وجود شخصي بارز ظاهر. وهل العبد الرقيق إلا إنسان أُهدرت آدميته؛ حين جعلوا وجوده جزءًا من وجود مولاه؟!
وددت يا فتاتي أن أذكر لك — لولا وطنية مني — كيف يتبرَّع الناس عندنا تبرعًا بمحو أنفسهم. فيقول الواحد منهم — أستغفر الله فما هو في هذه الحالة بواحد – يقول لكبيره الذي يتملقه: أنا محسوب عليك؛ يعني أنه بذاته لا شيء. ويريد أن يُحسَب تابعًا من الأتباع، وهو بذلك مغتبِط سعيد!
وددت يا فتاتي أن أذكر لك — لولا كبريائي — أننا أمة تُحسب بالحزمة لا بالعود؛ فأبناء العزبة كلهم — عند الوجيه صاحب العزبة — خلية واحدة تتبعه. والأصل عندنا في الأسرة، يا مرغريت، هو إما أن يكون الزوج كل شيء والزوجة لا شيء، وأن يكون الوالد صاحب الكلمة التي لا تُرَد، والأبناء في عينه هباء. وإما أن يُفلت الزمام، فتصبح الزوجة كل شيء والزوج لا شيء، ويصبح الأبناء الصغار مرَدة طغاة والوالدون أتباعًا.
الأصل عندنا، يا مرغريت، ألا يعيش فردٌ إلا إذا أكل في جوفه أفرادًا. أما أن يعيش الأفراد جميعًا في توازن واتساق كما تقوم أنغام الموسيقى ممتزجة متجاورة؛ فهو عندنا ضرب من المحال.
لكنى مستبشر؛ فنحن اليوم في رجة اجتماعية عنيفة قد أيقظت بعضًا، وما تزال توقظ بعضًا؛ ليعلموا — كما علمتِ — كيف يعيش الفرد آدميًّا كاملًا.