وضع العقل في غير موضعه
اكتبي إليَّ؛ فما أنا إلا مخلوق ضعيف، يفرح بالرسائل تأتيه، فرحة الأطفال بالحلوى.
اكتبي إليَّ ألف مرة، وارفعي الضواغط عن سن القلم. خفِّفي بعض الشيء من الضوابط واللُّجُم والشكائم التي تكبحين بها القلم إذ تكتبين؛ لعله ينساب انسيابًا، فيمتزج بانسيابه قلب بقلب وروح بروح.
اكتبي إليَّ؛ فإني أقرأ الرسالة وأطويها، ثم أقرؤها ثانية وأطويها، ثم أحفظها في مكتبي؛ لأعود إليها بعد أيام، أو بعد ساعات.
وقد عدت إلى رسالتك لأقرأها مرة أخرى وأطويها، حين أحسست في القلب خفقة غامضة تناديني. لكني لم أكد أمسها بأصابعي، حتى وسوس لي العقل بالتأنيب، الذي ما انفكَّ يوسوس لي به كلما نَزَت مني نزوات قلبي: يا بُني لا تتحدث حديث القلوب؛ فهذه لغة الشباب، ولم تعد شابًّا … إن من سلَخ من دهره ما سلخت من دهرك؛ خليق به أن ينظر إلى الأشياء نظرة العقل، لا نظرة الهوى.
وخفقان القلب — عند العقل — اضطِراب في دورة الدم، وهذا الخطاب — عند العقل — ورقة عليها نثار من مداد!
هكذا همس لي العقل عندما عدت إلى رسالتك أقرؤها؛ فارتعشت أصابعي، وبردت دمائي، وتندَّى جبيني بقطرات باردة؛ لأني رأيتني عندئذٍ تافهًا سخيفًا، قد أفلت زمام عقلي من يدي، وأسلمت نفسي لما يشبه تُرَّهات الشباب. فأعدت الرسالة مكانها؛ ليرضى العقل عني، وعرفت بعدئذٍ كيف أُسكت القلب وأصرفه عن سخافات الصغار.
لماذا أنصت للعقل في نزوات الفؤاد؟
لا، عودي بربك فاكتبي إليَّ؛ فإن كان وضع الهوى في موضع العقل عيبًا، فكذاك وضع العقل في موضع الهوى.
•••
لكن أين يكون موضع العقل؟ وأين يكون موضع الهوى؟ هذا هو السؤال الذي تنزاح بجوابه مشكلات لا أولَ لها ولا آخر. فلو تحدد لكلٍّ منهما نطاقه؛ انحسمت أسباب الغضب عند الناس حين يقوم بينهم خلاف.
فأولًا: لن يكون بين الناس اختلاف في مسائل الهوى؛ لأن الأهواء شخصية ذاتية بحكم تعريفها. وما هو ذاتي بطبيعته لا يكون موضعًا لجدال؛ فإذا شعرت بالبرد ولم أشعر به، وإذا أحسست ألمًا ولم أحسه، وإذا استحسنت طعامًا ولم أستحسنه؛ لم يكن هنالك ما يبرر أن نعترك أو نصطرع، فحالك خاص بك، وحالي خاص بي.
وثانيًا: قد ينشأ بين الناس اختلاف في مسائل العقل، لكنه اختلاف يستحيل أن يؤدي إلى غضبٍ أو حقدٍ أو قتال. فإذا رأيتَ مثلًا أن الضوء يسير في موجات، ورأيتُ أنه جسيمات تنفث نفثات متتابعة بينها فواصل، وإذا رأيتَ أن الخطين المتوازيين لا يلتقيان مهما امتدَّا، ورأيتُ أنهما يتلاقيان في اللانهاية، وإذا رأيتَ أن الصحراء يمكن إخصابها ورأيتُ استحالة ذلك؛ لم يمكن هنالك ما يبرر أن نعترك أو نصطرع، إلا اعتراك الحجة واصطراعها. وما سمعنا قط أن عالمين من علماء الرياضة أو العلوم الطبيعية قد انتهى بهما اختلاف الرأي إلى مبارزة بالسيف؛ ليكون الحق للغالب.
إنما ينشأ الغضب بين فريقين، وينشأ الحقد، وينشأ العراك والقتال، حين يختلط نطاق العقل بنطاق الأهواء الشخصية؛ فنُخْضِع مسائل الهوى لأحكام العقل، ونظل في جدال يستحيل — بطبيعة الحال — أن ينتهي؛ لأن الأهواء لا تنتقل من شخص إلى شخص بالحجة، إنما تنتقل بالإغراء. فإن لم يُجْدِ إغراء؛ فلا سبيل إلى نقلها بالإقناع. ثم يستحيل أن يخلو اختلاف الناس في مسائل الأهواء من الغضب وثورة النفس؛ لأن أهواءك متصلة أوثق صلة بذاتك، فمن أنكرها عليك؛ فقد أنكر عليك وجودك كله وكيانك كله.
أعود فأقول إنه لو تحدَّد لنا على وجه الدقة أين يكون موضع العقل، وأين يكون موضع الأهواء؛ لانحسمت كل أسباب الغضب والخلاف في مسائل العقل، ولأنه لا وجه للمناقشة حين يكون الخلاف في مسائل الأهواء الذاتية.
بل إننا إذا حددنا على وجه الدقة، أين يكون موضع العقل، وأين يكون موضع الهوى؛ لما كان سبيل الاختلاف المرء مع نفسه هذا الخلاف الذي دبَّ بين عقلي وقلبي، حين هممت بقراءة الخطاب بدافع من القلب، وأبى عليَّ العقل ذلك لما فيه من سخافة ظاهرة.
وإذا كنت مثلًا بصدد قياس البعد بين الشَّمس والأرض؛ فلا يجوز لهواي الشخصي أن يتدخل في أمري، حيث يقول لي: اجعله كذا ميلًا واخلص من الإشكال. وكذلك إذا خفَق قلبي لهذا الخطاب وأردت تلاوته مرة بعد مرة، فلا يجوز لعقلي أن يتدخل في الأمر قائلًا: إنه لا ينبغي لك أن تحس هذا الإحساس إزاء ورقة انتشرت عليها قطرات من مِداد.
لكن الناس يخلطون بين نطاق العقل ونطاق الأهواء، بل إن الفرد الواحد ليخلط بينهما، فيعترك الناس فريق مع فريق، ويعترك الفرد عقله مع قلبه.
•••
ولو جاز لنا أن نقول إن ميدان العقل هو ميدان العلوم على اختلاف أنواعها؛ فهَلَّا يجوز لنا أن نقول كذلك إن ميدان الأذواق الشخصية هو الفنون على اختلاف صنوفها؟ أظن ذلك.
فموقف العالم إزاء جبال الهملايا هو أن يصف صخوره ويقيس ارتفاعه وما إلى ذلك. حقائق لو خالفته في واحدةٍ منها؛ لم يشعر في نفسه بدافع لمبارزتك بالسيف، واكتفى بمطالبتك أن تسافر إلى الهملايا كما سافر، وتصفه أو تقيس ارتفاعه كما وصف أو قاس.
أما موقف الشاعر أو الفنان بصفة عامة إزاء الهملايا؛ فهو أن يحس إحساسًا خاصًّا، فيرهب جبروت الطبيعة مثلًا، أو يحب الإقامة في غابات السفوح هناك، وما إلى ذلك. إحساسات لو خالفته في واحد منها، لم يكن ثَمة سبيل إلى اتفاق بينكما. فإذا أحسَّ هو جبروت الطبيعة بحيث عبدها، وإذا جئت أنت فأحسست إزاء الطبيعة نفسها بالاستهزاء والاستخفاف؛ فقد يؤذَى في شعوره إيذاءً يدفعه إلى حمل السلاح، فإما خشعت معه لِمَا خشع له، وإما فناؤك أو فناؤه.
وليس كل من يحس إحساسًا خاصًّا إزاء شيء يخافه أو يحبه بقادرٍ على إخراج هذا الإحساس في كلمات إن كان أديبًا، أو في ألوان إن كان مصوِّرًا، أو في حجر أو برونز إن كان نحَّاتًا، أو في أصوات إن كان موسيقيًّا … على أنه لا يجوز لك في كلتا الحالين — في حالة قدرة صاحب الإحساس على التعبير الفني، وحالة عدم قدرته — أن تجادله فيما أحس؛ وإلا كنت بمثابة من يضع العقل في موضع الهوى. كل ما لك من حق في هذا الصدَد هو أن تذوق مذاقه أولا تذوقه، وكفى الله المؤمنين شر القتال.
ومن ثَم كان أكبر اختلاف بين العلم والفن؛ أي بين الحالات التي يجوز لنا أن نحتكم فيها إلى العقل، والتي لا يجوز فيها ذلك، هو أن الأولى عامة يشترك في إدراكها الناس جميعًا، لو أُتيحت لهم وسائل الإدراك، والثانية خاصة يدركها صاحبها وحدَه. ولست أريد للقارئ أن يظنني مدافعًا عن الاحتكام في النقد الفني إلى الذوق دون العقل؛ لأني على نقيض هذا الرأي. فأنت تنتج الفن تبعًا لذوقك وهواك، وتتمتع بفن غيرك تبعًا لذوقك وهواك أيضًا، لكنك إلى هنا لست بناقد. أما إذا بدأت تنقد؛ فقد بدأت تناقش صاحب الفن في فنه، أعني أنك قد أهملت الجانب الذاتي الخاص في فنه؛ لأن ذلك يستحيل بطبيعته أن يكون محلًّا لمناقشة بينكما، وأخذت من فنه إطاره أو بنائه أو هيكله. فهذا وحدَه ما يصح أن يكون عامًّا بينك وبينه، وبالتالي ما يصح أن يكون محلًّا للمناقشة والنقد.
•••
إنني حين كتبت مقالي «عندما أطللت من النافذة» لأسوقه مثالًا على سبيل التجربة للاتجاه الحديث في الأدب، بل في الفنون عامة، وهو أن يسجِّل الأديب خواطره كما تقع له في مجرى شعوره بغير تفرقة بين ما يسميه الناس فكرة جليلة تستحق التسجيل، وما يسمونه فكرة وضيعة لا تستحق الذكر؛ لم أتخذ موقف المدافع عن هذا المذهب، لكني أردت عرضه وتطبيقه على سبيل التوضيح والتمثيل.
وتفضل أستاذنا الجليل الدكتور أحمد أمين بك فنقَد هذا المذهب، لكنه جعل بعض نقده قائمًا على أساس أن الخواطر المنسابة كما اتفق؛ لا تتفق مع العقل؛ لأنها لا تفرق بين ما هو شريف وما هو وضيع من الخواطر، وأنها تهم علم النفس؛ لأنها تصور نفسية الكاتب أكثر مما تهم الأديب.
وإني وإن كنت لا أتصدَّى للدفاع عن هذا المذهب الأدبي بصفة عامة؛ فإنني لا أرى أن هذا الجزء من نقد أستاذنا أحمد أمين بك يهدمه؛ لأننا إن قلنا لأنصاره: إنكم لا تفرقون بين الشريف والوضيع من الخواطر؛ كان جوابهم حاضرًا على أطراف ألسنتهم. وهو أن الرفعة والضعة من القيم الذاتية، التي لا سبيل إلى المناقشة فيها كما نناقش المسائل العلمية. إننا نصور لك نفوسنا كما هي على حقيقتها، فلك أن تحب هذه النفوس من أوصافها، أو تمقتها لأنها من نوع لا يعجبك ولا تميل إليه. وهل تقول للكاتب المسرحي: لا تصور في مسرحيتك إلا الشخص العظيم؟!
إن غاية ما ينشده الأديب بأدبه أن يصوِّر نفوسًا؛ نفسه أو نفوس غيره في ضوء خبرته. وكلما دنا تصويره من الحبكة التي تجعل النفس المصورة حية واضحة المعالم؛ كان أدنى إلى الكمال في فنِّه. ولا عبرة بعد ذلك أبدًا للقيمة الخُلُقية لما صوَّر، فلا تفاوت في القيمة الفنية بين تصوير الكريم وتصوير البخيل، أو بين تصوير الشيطان وتصوير القديس. المهم دائمًا هو صدق التصوير، وكما أنه لا وجه للاختيار على أساس خُلُقي بين شخص وشخص عند التصوير الفني؛ فكذلك لا وجه للاختيار بين خاطر وخاطر على هذا الأساس الخُلُقي.
وكذلك إن قلت لأنصار هذا المذهب: إن خواطركم المنسابة في مجرى شعوركم تهم عالم النفس أكثر مما تهم الأديب؛ كان جوابهم هنا أيضًا على أطراف ألسنتهم؛ لأنهم سيقولون: إنها تهم الأديب وعالم النفس في وقت واحد، لكن من وجهين مختلفين: فهي عند الأديب صورة فذَّة فردة حية، وهذا كل ما يريد. وهي عند عالم النفس مَثَل يستطيع أن يضيف إليه أمثلة أخرى من الأدب أو من الحياة الواقعة؛ ليستخرج ما يريد استخراجه من قواعد وقوانين.
لكن أستاذنا الجليل الدكتور أحمد أمين بك يُؤْثِر أن يكون الأديب مهتديًا بعقله فيما يكتب؛ فيختار الطيب ويدع الخبيث. ويريد أنصار هذا المذهب ألا يكون الزِّمام هنا في يد العقل؛ لأنه ليس من اختصاصه، كما يقول أصحاب الدواوين الحكومية. فهل هم على حق في هذا التقسيم؟
الحق أني لو استطعت أن أضع حدًّا لاختصاص العقل في شئوني، لما عانيت في حياتي الخاصة كثيرًا جدًّا مما أعانيه من صراع بيني وبين نفسي. وقد صدرت لك المقال بمثل يسير من هذا الصراع.