الأخلاق التي لا تزال بخير!
هذا قارئ من المنصورة، ذكي حصيف، قد كتب إلى «الثقافة» كتابًا، يعلق فيه على مقالتي «عندما أطللت من النافذة»، التي عرضت فيها اتجاهًا جديدًا في الأدب وفي الفنون عامة. فشرحت أساس المذهب شرحًا موجزًا، وأردت أن أزداد له فهمًا، وأُزِيد القارئ به علمًا؛ فأجريت له تطبيقًا؛ إذ سجلت مجرى خواطري كما وقعت في تيارها الدافق؛ لأرى — وليرى معي القارئ — كيف يكون هذا المذهب في صورة عملية؛ فليس أصلح اختبارًا للفكرة من تطبيقها.
وقرأ قارئ المنصورة الذكي الحصيف هذا المقال، فوقفت شعراته فوق رأسه على أطرافها جزعًا وفزعًا، ونهض من فوره، وحمل القلم ليرسل إلى «الثقافة» هذا «الخطاب المفتوح» يوجهه إليَّ، ويستهله بمدح أشكره عليه أبلغ الشكر وأوفره، ثم يعقب على هذا الثناء المشكور برأيه في مقالتي التي أسلفت ذكرها. ولو قد استطاع القلم أن يستقيم بين أصابعه ثلاثة أسطر كاملة، بحيث يجري في عربية صحيحة؛ لأفسحت الثقافة لرأيه مكانًا رحبًا فسيحًا.
ولست أنوي بطبيعة الحال أن أناقش خطابه من حيث الرأي والفكرة؛ فكل ما في الخطاب دليل ناهض على أن أدنى ما أهبط إليه مع كاتبه هو أن أعلِّمه، وأرقى ما يرقَى إليه معي هو أن يتعلَّم.
لكن الذي استوقف نظري في خطابه، بحيث حملني على الإغراق في الضَّحك أولًا، ثم على الكتابة ثانيًا، هو أن قارئ المنصورة الفاضل يَرى أن مثل هذا الكلام الذي نشرته لو جاز أن «يُستساغ» نشره في الصحف الغربية؛ فهو مما لا يَصِح نشره في صحافتنا؛ حيث لا تزال الأخلاق بخير، والفتاة بخير! بارك الله فيك يا مولانا، واللهِ إن الدنيا كلها خير ما بقيتَ وما قرأتَ وما كتبتَ!
•••
لست أدري إن كان قارئ المنصورة الذكي الحصيف قد سمِع بكتاب كامل أخرجته منذ حين، وأسميته «جنة العبيط» … وإذا لم يكن قد سمِع به، فإني أتقدم إليه خجِلًا متواضعًا؛ لأنبه بأن العبيط الذي أردته بهذا العنوان، بل بهذا الكتاب كله، هو ذلك الذي يعيش ها هنا، ويتلفَّت حوله، حيث قد اجتمع كل ما أراد الله لعباده من نكَد وبُؤس في صعيد واحد، ويهتف لنفسه مع ذلك كله — ومن يدري؟ فلعله يهتف لنفسه بسبب ذلك كله! — أن الحمد لله رب العالمين؛ الذي هيَّأ لنا في بلادنا ما لم يهيِّئ لأهل الغرب المناكيد مثيلًا له ولا شبيهًا.
إن العبيط الذي أردته — يا سيدي — بعنوان الكتاب، بل أردته بالكتاب كله، هو الذي يتلفَّت حوله في هذا البلد، ثم يرسل بصرَه المديد الحديد إلى ما وراء هذه البلاد، فإذا هو يطمئنُّ نفسًا وينعم بالًا؛ لأن الله قد أراد لنا من الخُلُق المتين المكين ما لم يُرِد مثله لأهل أُوربا الذين يخبطون في أدران الضلالة وأوحال المُنكَر والبغي!
أيسمح لي سيدي بذِكْر فِقرة أو فقرتين مما ورد في ذلك الكتاب على لسان العبيط؛ إذ يتحدث وهو في جنته؟ قال العبيط: «أنا في جنتي الحارس للفضيلة أرعاها من كل عدوان، لا أغضُّ الطرف عن مَجانَة المُجَّان. والعالم حول جنتي يغوص إلى أذنيه في خَلاعة وإِفك ورَذيلة ومُجون. دعهم يطيروا في الهواء، ويغوصوا تحت الماء؛ فلا غَناء في علم ولا خيرَ في حياة بغير فضيلة. دعْهم يحلقوا فوق رءوسنا طيرًا أبابيل، ترمينا بحجارة من سجيل؛ فليس الموت في رداء الفضيلة إلا الخلود. إني والله لأشفق على هؤلاء المساكين، جارت بهم السبيل فلا دنيا ولا دين. أتدري ما معنى الفضيلة عند هؤلاء المجانين؟ معناها كل شيء إلا الفضيلة! فالنساء عندهم يُخالِطنَ الرجال، والنساء عندهم يُراقصن الرجال، ثم النساء عندهم يَعمَلْن مع الرجال، وهن يُقاتِلْن مع الرجال! أرأيت أفحش من هذا الإفك إفكًا، وأقبح من هذا المجون مجونًا؟! حدثني صديق أنه رأى هناك ذات يوم بعينيه، في مكانٍ واحد من دكان واحد، قبعة وقبعًا (وأراد بالقبَّع قبعة الرجل تمييزًا للذكر من الأنثى؛ إذ لا يجوز عند أرباب الفضيلة أن يجتمع الرجال والنساء على لفظ واحد!) رآهما معروضين، لا يسترهما عن أنظار المارَّة إلا لوح من الزجاج، يشِف للمارَّة عما وراءه. وأعجب العجَب أن علامة واحدة من علامات الحياء والخجل، لم تبدُ على رجلٍ منهم أو امرأة … إلخ.»
«أنا في جنتي السَّمْح الكريم، الذي ورِث الجود عن آباء وجدود. فمَن سواي كان أبوه يذبح الجمل والناقة ليُطعم كل ذي مَسْغَبة وفاقَة؟ مَن سواي إلى حاتم ينتمي وبهذا العنصر الكريم يَحتمي؟ وهل كانت صفات آبائي وأجدادي تذهب مع الهواء هباء، أو هي تجري في العروق مع الدماء دماء؟ ها أنا ذا أحنو على البائس عطفًا وإن كنت لا أعطيه، وأذوب على المصاب أسًى، وإن كنت لا أواسيه! وتَبَّتْ يدا حاسدٍ يقول إن أصحاب الحاجة عندي يستجدون ولا عطاء، والمعوزين أَكُفُّهم تنقبض على هواء. فقلب عطوف خير للفقير من قرشٍ إنفاقه سريع، وفؤاد ذائب أبقى له من عون لا يلبث أن يضيع. إني أعوذ بالله من إنسان يفهم الإحسان بلغة القرش والمليم؛ تلك لعمري مادية طغت موجتها على العالم كله. ولولا رحمة من ربي، ورشاد من قادتي؛ لكنت اليوم في غمرتها من المغرقين! لقد أقفر العالم حول جنتي، فلا عطف ولا عاطفة، واستحالت فيه القلوب نيكلًا ونُحاسًا. تعرفها بالرنين؛ لأنها لم تعُد من لحم ودم! أهكذا يُقَوَّم كل شيء بالمال، حتى إحسان المحسن وعطاء الكريم؟! فالقرش والمليم هو معنى الإحسان في الغرب الذميم، الذي غلظت فيه الأكباد، كأنما قُدَّت من صخر جماد. كم جامعةً عنده أنشأها ثري؟ وكم دارًا أعدها للفقير غنيٌّ؟ كم منهم يلبي النداء إذا ما دعا الداعي بالعطاء؟ لا، بل إن هذ الغرب المنكود، ليسير إلى هاوية ليس لها من قرار؛ إذ هو يسعى إلى محو الفقر محوًا، حتى لا يكون لفضيلة الإحسان عندهم موضع! فاللهم إني أحمدك أن رضيت لي الإسلام دينًا، وجعلت لي الإحسان دَيْدَنًا.»
معذرةً سيدي؛ فقد أطلت لك الاقتباس من كلام العبيط، وما كان ينبغي أن أفعل ما دام العقلاء من حولنا كثيرين. لماذا نطيل الإنصات إلى هذا الأبله المجنون، والحق أبلج واضح؟ إن قبائل الغابات كلها قد أجمعت على أن الأخلاق لا تزال بخيرٍ ما دامت الفتاة بخير!