غير مطلوب
ليس أشدَّ مرارة على نفس الإنسان من شعوره بأنه غير مطلوب لذاته ولشخصه الذي يختلف به عن سائر الذوات والأشخاص؛ فالإنسان إنسان بمقدار ما ينفرد بخصائصه ويتميز من سواه. ومن وسائل التفرد والتميز أن تُوكِل إلى الإنسان مهمةً يشعر أنه وحده دون سائر الناس جميعًا هو الذي يستطيع أن يؤديها. ومن ثَم كان شعور الآباء والأمهات بالزهو بما قد عهدت إليهم الطبيعة من أبناء يقومون على تربيتهم، مهما لاقوا في سبيل ذلك من عناء، ومن ثَم أيضًا تولَّد الشعور عند من لا ولد له يرعاه بأنه تافه القدر قليل الشأن إذا قِيس إلى من له ولد. وعبثًا يحاول الناس إقناعه بالمنطق والأرقام أنه مستريح البال موفور المال بسبب عقمه؛ فالشعور بالخلاء يملؤه ويطارده، واستخفافه بقيمة نفسه ما ينفك يتابعه ويلاحقه؛ لأنه يعلم أنه غير مطلوب لذاته. وقد يكون البنون زينة الحياة الدنيا بهذا المعنى؛ فالحياة الدنيا نسيجها من التوافه، ولا تنقلب هذه التوافه شيئًا له قيمة في عينيك إلا إذا أحسَست بمهمة تعتمد عليك أنت دون سواك. وإذن فلا عجب أن يقول لنا رجال الإحصاء إن حوادث الانتحار أكثر في غير الوالدين منها في الوالدين.
وأقسى ما تقسو به على إنسان هو أن تُشعره بأنه غير مطلوب لشيء مما يستطيعه هو ولا يستطيعه سواه. ولعل هذا بعينه هو ما اتخذه الناس أساسًا لتقسيم الأرزاق بينهم منذ أقدم العصور؛ فأجر العامل يزداد كلما ازدادت فيه العناصر التي تجعل العمل متعذرًا على غيره، ويقل كلما قلَّت فيه هذه العناصر بحيث يستطيع كثيرون أداءه. فإذا سأل سائل: لماذا يتقاضى الكناس أجرًا أقل مما يتقاضاه الطبيب؟ كان الجواب هو هذا: ليس في عمل الكناس ما يجعل صاحب العمل مطلوبًا لذاته. بمعنًى آخر: ليس فيه ما يجعل الكناس فردًا متميزًا من سائر الأفراد. أو إن شئت فقُل: ليس فيه ما يجعله إنسانًا بمعنى الكلمة الدقيق. إذا كان معنى الكلمة الدقيق هو التفرد والتميز بخصائص لا تتكرر في سائر الأفراد، وهكذا يظل أفراد الناس على تفاوت في أقدارهم بمقدار ما فيهم من تفرد في الخصائص، حتى تبلغ القمة في النبي الذي يُبشر بدين جديد، أو العالم الذي يكشف عن قوانين الطبيعة، أو الفنان الذي ينظم أو يعزف أو يصوِّر أو ينحت على نحو لا يشاركه فيه غيره من الناس.
إذا فقدت الجماعة رجلًا مطلوبًا لذاته؛ فقد فقدت شيئًا لا يُعوَّض بسواه، أما إذا فقدت رجلًا يعمل ما لا يعجز عن عمله الآخرون؛ فكأنما هي لم تفقد شيئًا، ولم يتغير منها إلا أرقام السكان والوفيات. ومن لطف الله بالناس أن غرز فيهم غريزة تميل بكل إنسان إلى الوهم بأنه يؤدي ما يستحيل على غيره أداؤه. فكم من رجلٍ يصادفك ويحكي لك عن نفسه ما يوهمك بأنه لولا قيامه بعمله على النحو الفريد الذي يقوم به، لوقَفَت العجلات وتعطلت الآلة عن المسير! وهو مخلص كل الإخلاص مع نفسه حين يتوهم، وحين يوهم، بأن الفراغ الذي يشغله يستحيل على سواه أن يملأه، ولا يكاد يتصور كيف تكون الحال؟ بل كيف تكون الحياة كلها بغيره؟ ذلك لأنه يريد من صميم طبيعته أن يشعر بأنه مطلوب لشخصه. وهيهات أن يتنبه الواهم أن الأفراد تموت، وأن الناس يزولون عن أماكنهم أو يُزالون عنها، ومع ذلك فالآلة ما زالت تدور!
ولست في الحق أدري ماذا يصنع معظم الناس بأنفسهم إذا ما زال عنهم هذا الوهم بحيث تبيَّنوا في وضوح بأن الواحد منهم فرد يُغني عنه أي فرد سواه؟ لقد سألت نفسي متعجبًا: كيف يطيق الكمساري في الترام حياته، وهي عملية واحدة سخيفة آلية متكررة! فهو منذ الفجر إلى ما يقرب من منتصف الليل يأخذ من الناس الملاليم ويُعطيهم التذاكر! وكيف لا يبرم السائس في حظيرة السيارات بحياته، وهو ممسك بخِرقته طوال النهار والليل ينظِّف كل سيارة داخلة وكل سيارة خارجة. وهذا البوَّاب الذي يجلس طوال يومه في مكان واحد لا يعمل شيئًا، ماذا يجد في حياته ما يجعله يمسك بها ويتشبَّث؟! … ولما أخذت أستعرض أنواع الناس في خاطري متعجِّبًا كيف لا يحسون بتفاهة أنفسهم؛ لم ألبث أن اتجهت بفأسي نحو نفسي! لقد شاء لي الله أن أتعلم الفلسفة وأُعَلِّمها. ولست أُخفي على القارئ قلقًا شديدًا يساورني في قيمة ما تعلمت وما أُعَلِّم. أليست قافلة الحياة بمستطيعة أن تسير بغيري؟ لم أعد أُومِن بقيمة هذا الذي أعرفه والذي أرتزق بتعريف الناس إياه. لو كنت نجَّارًا أو حدَّادًا لتصورت أن ينقص العالم عددًا من النوافذ أو المفاتيح لو لم أصنعها أنا، لكن العالم لا ينقص شيئًا إذا نقص رأسًا فيه خليط مما قاله الفلاسفة! لن تُغلق نافذة كانت مفتوحة ولن تُفتح نافذة كانت مغلقة. لن ينهدم بناءٌ كان قائمًا أو يقوم بناء كان منهدمًا … وإني لأعجب الآن كيف شكا إليَّ زميل من الزملاء يومًا أنه لا يكسب ما يكسبه ممثِّل هَزْلي معين، مع أنه يعرف وهذا الممثل لا يعرف! وأنا الآن أَعُدُّ الضحكات التي أضحكها هذا الممثل للناس؛ فأعلم كم ينتقص من بِشر الناس لو زال عنهم. لكني لا أعرف والله ماذا أَعُدُّ لأعلم مقدار خسارة الناس إذا زُلت عنهم، أو زال من هو مثلي في نوع ما يعلم وما يعمل!
ألا ما أشدَّها من مرارة على النفس أن يعلم الإنسان أنه غير مطلوب لذاته! إني لأفهم جيدًا موقف الجندي الحارس الذي وقف يحرس قصر الملك، والذي يَروي عنه الناس قصة ليضحكوا. فيقولون إن أمَّ هذا الجندي الحارس قد جاءت من الريف تزور ابنها، وقد كان أوهَمَها أنه في المدينة ذو خطر عظيم. جاءت أمه تزوره، وحلَا لها أن تُفاجِئه في مكان عمله، فإذا هي ترى ابنها واقفًا لا قيمة له ولا شأن به. فسألته ساخرة: أهذا كل ما تؤدِّيه في حياتك من عمل؟ فعزَّ على الجندي أن يكون تافهًا في عين أمه، ونفخ في بوق الخطر، فازدحم المكان في مثل الغمض بالعين بألوف وألوف جاءوا مسرعين شاكي السلاح. وابتسم الجندي قائلًا: انصرفوا، لا خطر هناك، إنما أردت أن ترى أمي من يكون ابنها!
هذا شعور صادق، يختلج مثله في نفوسنا جميعًا، فليس ألصقَ بطبيعة الإنسان من حاجته إلى أن لم يكون مطلوبًا. ولست أدري — لو تعرضت لمثل هذا التحدي الذي تعرض له الجندي الحارس — في أي بوق أنفخ لترى أمي مَن يكون ابنها؟! آهٍ لو تذرَّع الناس بالشجاعة! إذن لبتروا بترًا سريعًا كل هذه الدراسات النظرية التي يُحمِّلها أصحابها عبثًا في رءوسهم، ثم لا يجدون سبيلًا للرزق إلا أن يُحَمِّلوها لسِواهم! ثم يذهب بهم الغرور بعدئذٍ إلى حيث يسلكون أنفسهم في زمرة من يعلمون، ويطالبون بألا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون!
ومن لطائف النفس البشرية أن الإنسان إذا ما تبيَّن في جلاء لم يعُد يُحتمل عنده شك أنه غير مطلوب. اعتزل الناس إنقاذًا لنفسه، لأنه سيوهم نفسه عندئذٍ أنه هو الذي لم يعُد بحاجة إلى الناس، وأنه يستطيع الاستغناء عنهم. ومن أشقِّ الأشياء على نفسه أن يدرك أن الناس قد أهملوه إهمالًا وأسقطوه من حسابهم؛ فأقسى ما تقسو به على أحدٍ هو أن تهمله، فلا يظفر منك بحب أو كراهية. فليست الكراهية هي آخر درجات الأذى؛ لأن كراهيتك لشخص تحمل في طيِّها احترامك له وتقديرك إياه. ولولا أنه ذو وزن في اعتبارك — مهما خفَّ ذلك الوزن أو هان — لما خصصته بشيءٍ من عواطفك، والكراهية جزء من تلك العواطف. أما أن تهمله وتسقطه من الحساب جملة واحدة؛ ففيه إلغاء لوجوده ومحو لكيانه وإهدار لآدميته كلها. وماذا عسى أن يصيب الإنسان من الإيذاء ما هو أقسى من المحو والإلغاء؟!