درع من ذهب
هذا خطاب كتبه كاتبُه، ثم ألقاه على مائدة صغيرة إلى جوار مِخدَعِه؛ وأخذته العلة؛ فألزمته الفراش حينًا. وهو أعزب اختلطت في غرفته زجاجات الدواء بالفراجين والأمشاط، وانتثرت كُتبه وجواربه وأوراقه ومناديله على الأرض والمقاعد.
عزيزتي …
هل كتب الله على هذه الدنيا أن تكون ناقصة شائهة إلى الأبد، لا تعرف الكمال إلا أملًا يتردد في بعض الرءوس؟ تالله يا عزيزتي ما رأيت شيئًا إلا همست لنفسي: «آهٍ لو كان! …» حتى أنت! كنتِ قبل اليوم سيدة الدار وخادمته في آنٍ معًا، حين كنت تطهين وتغسلين وتكنسين؛ حتى إذا ما أقبل زوجك مع الظهيرة، وجد الدار نظيفة مرتبة والطعام مُعَدًّا شهيًّا، ووجد زوجته باسمة ابتسامة مَن لا تعرف حقًّا في راحة البال وطمأنينة الضمير إلا لمن قام بواجبه كاملًا؛ فقد كان هذا الضرب من الكمال في رأيك هو معنى الجمال.
لكن وسوس لك الشيطان أن النافع لا يكون جميلًا، والجميل لا يكون نافعًا؛ فقال لك فيما قال: أرأيت إلى هذا التمثال القائم في ركن الغرفة؟ إنه لا ينفع لكنه جميل، وهل رأيت هذا البساط وما انتشر فوقه من طنافس؟ إنه لا يُستخدم في رُقاد أو جلوس لكنه جميل، وثوبك هذا البديع؟ لقد تكدَّست على جنبيه وفوق ظهره من طيَّات بعضها فوق بعض، ما يكفي وحدَه لكساء فقيرتين من بنات جنسك. إن هذه الثنايا في ثوبك والحنايا لم تُخلق لتأتي بطراوة الهواء في الصيف، أو لتدفع عنك برد الشتاء … إنها لا تنفع ولكنها جميلة! … وهكذا راح الشيطان يوسوس لك حتى دبَّ وسواسه منك في مجرى الدماء، فصحتِ لنفسك: وَيحٌ لي! ألا تكون المرأة كذاك جميلة بمقدار ما يقل نفعها؟! والله لا طهيَ بعد اليوم ولا كنسَ ولا غسلَ ولا ولادة ولا رضاعة «ولا يحزنون» … سأكون جميلة منذ اليوم!
لكنك، يا عزيزتي، كنتِ جميلة قبل اليوم، ولم تُبِقي لنفسك من الفتنة شيئًا بعد هذا الذي اعتزمتِه من هجر ما تنفعين فيه … أصبحت دُمْيَة لا غناء فيها ولا جمال، وأضلك الشيطان ضلالًا بعيدًا وأنت لا تشعرين؛ فالجميل يا سيدتي هو النافع، والنافع هو الجميل.
حتى هذا المثال القائم في ركن الغرفة، جميل لأنه نافع. وهو نافع؛ لأن إدمان النظر فيه وفي أمثاله من آيات الفنون. يهذِّب الحس تهذيبًا حتى ليجزع إن وقع بعد ذلك على قذر أو قبيح. ولو رأيت القاهرة ملأى بما تنفر منه العيون والأسماع، ولا تجدين في الناس إزاء هذا كله إلا حسًّا بليدًا لا يجزع ولا يثُور. فما ذاك يا سيدتي إلا لأن هؤلاء الناس لا تقع أبصارهم على مثل هذا التمثال الجميل!
أتعلمين لماذا تكون الذراع التي طولها كذا أجمل الأذرعة، والخصر الذي قُطره كذا أبدع الخصور؟ أتعلمين لماذا لا ينبغي للفتاة الجميلة أن تقصُر أو تَطُول؟ كل ذلك يا سيدتي أساسُه المنفعة! فالذراع التي طُولها كذا أقدَر على الحركة السَّهلة المناسبة الكاملة منها لو أصابها طول أو قصر. وكذلك الخصر، وكذلك القَدُّ، وكذلك كلُّ شيء.
لقد قال قائل لن أذكر لك اسمه؛ لأنك — فيما أعتقد — تكرهين أسماء الفلاسفة والعلماء، قال: إن وعاء القمامة أجمل عندي من دِرْع الذهب؛ لأن وِعاء القمامة مفيدٌ نافع يؤدي الغاية التي صُنع من أجلها، ودِرع الذهب تؤدي بحاملها في حَوْمة الوغَى إلى هاويةِ الهلاك! ماذا أنتِ قائلة يا سيدتي في جُندي يتقي الحِراب بدرع من ذهب؟! ألا تكون الدِّرع في عينك عندئذٍ قبيحًا بغيضًا مع أنها في أسواق السلع نفيسة ثمينة؟ ذلك لأن الجمالَ في النفع، فالجميل هو النافع والنافع هو الجميل.
كلا، لا تُنصتي إلى الشيطان فيما يوسوس لك! وكوني في بيتك درعًا من صُلب أو حديد، تستعيدي جمالك المفقود.
إني ليعجبني ذلك الرجل الهمَجي الذي سأله رحالة أُورُبِّي عن زوجاته أيهن أروع جمالًا؟ فقال: جمال، ماذا تريد بهذه الكلمة؟ كل ما أعرفه هو أن فلانة أقدر على حمل الأثقال من فلانة. وهذه أبرع في الطهي من تلك … أذلك ما أردت بالجمال يا سيدي؟ وضحك الأُورُبِّي الرحَّالة لجهل الهمجي بالجمال، وراح يكتب مذكِّراته لينشرها في الناس فيضحكهم من هذا الذي لم يعرف معنى الجمال وقرأت أنا هذه المذكِّرات، وضحكتُ مع الضاحكين، لكني ختمت الضحك بقولي: والله لقد أصاب.
فرغت من قراءة الخِطاب ونظرت إلى صديقي المريض باسمًا سائلًا: أفي ظنِّك أن النساء كلهن هذه الفتاة؟
فقال: كلا، فهن مختلِفات.
وراح صديق يُتمتم بقصيدة من الشعر اليوناني القديم، وعنوانها «بعض النساء»:
•••
•••
•••
صافحت صديقي قائلًا: أأنت واضع هذه الرسالة في غِلاف لأرسلها نيابةً عنك بالبريد؟
فأجاب: أرسلها كيف شئت وإلى من تشاء، ولست أحب أن أقع فريسة لفتياتنا الأنيقات الرشيقات؛ فقل عن رسالتي إنها أخلاط محموم.