من طبائع الناس
من أعجب ما يستوقف النظر من طبائع الناس حبُّهم الشديد أن تنزل بهم المصائب الخفيفة، كأنما يريد الإنسان أن تكون بمصائبه موضع عطف الآخرين، فما أشدَّ فرحة الإنسان حين يصيبه وجع خفيف في ضرسه! تراه عندئذٍ يضع إصبعه على صدغه آنًا بعد آنٍ ليستوثق أن الوجع لم يزَلْ هناك. والكارثة الحقيقية عنده أن ينزل به الوجع، ثم يزول دون أن يراه أحد من آله أو أصدقائه. والأفضل عند المرء إذا ما سُئل كيف صحته أن يقول إنها ليست على أكمل حالاتها، فهو يشكو من عُسر في الهضم أو صُداع في الرأس. وما أجمل عنده أن يزوره الزائر مصادفة فيلقاه في فراشه عليلًا! على أن الإنسان في كل ذلك لا يريد أن يجاوز به الوجَع أو المرض حدًّا معقولًا، يعرضه على الناس، دون أن يُعَرِّضَه للخطر.
إني ما زلت أذكر يوم أُعلنتْ هذه الحرب الأخيرة، وكنت ساعتئذٍ أجالس بعض الأصدقاء في مقهًى، فلا تَسَلْ كم اهتزت قلوب الناس من نَشْوة الفرح! وكم تهلَّلت الأسارير وعلَتْ قهقهات الضاحكين! ولم يكَدْ يستقرُّ من الحاضرين رجل واحد على كرسيِّه لحظة واحدة؛ فهو يدور ويتلفت ويرفع كفَّه بالتحية، ويصيح ويضج ويزأط ويحرك قدميه ويخبط المنضدة أمامه بغير مُوجِب … قليلون هم جدًّا أولئك الذين يحزنون لسوء النتائج قبل وقوعها. وقد كنت أظن ذلك الفرح بالحرب عند أول إعلانها لا يقع مثيلُه في الأمم المحاربة فعلًا، وكم دُهشت حين أخذَتْ سيدة إنجليزية في نحو الستين من عمرها تقص عليَّ بعض ذكرياتها عن الحرب العالمية الأولى، فراحت تلاحظ على قومها الذي رأيته نفسه في قومي؛ هزَّة من الفرح كادتْ تشمل الناس أجمعين. ثم ألم نبدأ قتالنا في فلسطين منذ قريب؟ ألم تكن رنة الفرح ذائعة شائعة على ألسنة الناس وفي قلوبهم في أولى أيام القتال؟ … هذه طبيعة الإنسان إزاء المصائب إذا لم يتبين بعدُ فداحة نتائجها.
واستمع إلى الناس يتحدثون عن غَلاء المعيشة وارتفاع أجور المساكن، إنهم ليفرحهم أن يتناقلوا أخبار الغلاء الفاحش. ولطالما لحظت في كثيرين رغبتهم في إخفاء ما قد سمعوه من أنباء تدل على انخفاضٍ في السعر أو بُحبوحة في العيش. تسمع الناس يتحدثون عن أجور المساكن الجديدة، فيقولون: إن الغرفة الواحدة في العمارة الفلانية بلغ أجرُها عشرة جنيهات، وإذا قلت لهم مصحِّحًا: إن أجر الغرفة ستة جنيهات فقط؛ فكأنما قد أسأت إليهم؛ لأنك خيَّبت آمالهم وأحبطت رجاءهم. وإني لأذكر جيدًا كيف كان الناس يتمنَّون من صميم أفئدتهم — عندما بدأت موجة الغلاء في الارتفاع سنة ١٩٤١م — يتمنَّون أن تزيد وتزيد. إن الناس لا يرضيهم أن يكون المصاب من التفاهة بحيث لا يُذكر، كما أنه لا يُرضيهم أن يكون المصاب من الفَداحة بحيث لا يُحتمل، لكن لا يكون ذلك إلا بعد ما يعانونه فعلًا من فَداحة المصاب الثقيل، أما قبلَ ذلك، عندما يكون الأمر في مرحلة الكلام والتوقُّع؛ فهم يرحبون بكل زيادة فيه.
وذلك يذكِّرني بحالة شبيهة، عندما كان الضَّباب يكتنف مدينة لندن. فإذا كان ضبابًا خفيفًا فهو مضايقة للنفوس بغير طائل. أما إذا اشتدَّ — كما يحدث أحيانًا — بحيث لا تستطيع رؤية قدميك، عندئذٍ ينقلب الضيق عند الناس فرجًا، ويأخذون في التعليق على هذه الحالةِ الفظيعة من حالات الجو — هي فظيعة باللفظ، لكنها مُحبَّبة إلى نفوسهم مُقرَّبة إلى قلوبهم — ويحلو للناس عندئذٍ أن يتذاكروا ما يحدث في أمثال هذا اليوم من حوادث؛ فقد حدَث في عام كذا أن اصطدمت سيارات في الطريق ومات ناس. وحدث في عام كَيت أن ارتطمت سُفن في صخور الشاطئ وغرق ناس …
وانظر إلى الناس في القاهرة إذا نزل المطر، انظر إلى الأطفال يزأطون وكيف يمرحون، وانفذ إلى أعماق نفوس الكبار؛ تَرَ المطر الخفيف يضايقهم، فإذا ما أخذ المطر يشتدُّ سقوطًا؛ لمحت لديهم رغبةً أكيدة في أن يظل على ازدياد شدته، ليصبح لهم حدثًا يتحدثون فيه يومًا أو يومين.
وأذكر أني قرأت مرة مقالًا لسيدة كاتبة، تقول فيه إنها كانت تسافر في قطار عبر الولايات المتحدة — أو عبر كندا لا أذكر — وإن القطار تعطَّل عن المسير أيامًا؛ بسبب ما تراكم عليه وفي طريقه من الثلج، وتعذَّرتْ كل وسائل الاتصال بينهم وبين العمران، وأخذ الطعام يقِلُّ في أيديهم شيئًا فشيئًا. تقول الكاتبة إنها توقعت أن ترى على وجوه الناس علائم الحزن لهذا الخطر الداهم، فما كان أشدَّ دهشتها حين رأت عكس ذلك! رأتهم فرِحِين بهذه الوَرْطة التي هم فيها، بل رأتهم كأنما يتمنَّون في أعماق نفوسهم أن تزداد الورطة شدة بنَفَاد الطعام جملة واحدة؛ ليروا ماذا يكون بعدئذٍ … هذه طبيعة الإنسان، مهما تكُنْ بعيدة عن العقل والمنطق.
بل إن لها لعلة عند العقل والمنطق؛ فالإنسان محِبٌّ للحادث الغريب يكسر به ملَل الحياة و«روتينها» الرتيب. إني — في الحق — كلما فكَّرت كيف يتشابه يومي وأمسي؛ عجبت لنفسي كيف أطيق هذه الحياة؟! ولعلني في ذلك خيرٌ حالًا من أُلوف سواي، كثيرًا جدًّا ما أنظر بعين العطف والإشفاق للكمساري في الترام. أسأل نفسي: أيظل هذا المسكين ثلاثين أو أربعين عامًا على هذا النحو يأخذ من الناس ملاليمهم ويعطيهم تذكراتهم؟ ثم أقلِّب الطرف، فأرى الناس كلهم تقريبًا على هذا المنوال المملول الرتيب، مهما تنوعَتْ أعمالهم … هذه الحياة المتشابهة المملة ترحب بالحادث الغريب الذي يكون حدثًا يُطْلِق الألسنة بالتعليق والكلام. وكلما كانت الحادثة أشدَّ غرابة عن المألوف؛ كانت أحبَّ إلى نفسك، وكثيرًا ما يضيف الإنسان بخياله إلى الحادثة الواقعة أشياء تجعلها أغرَب؛ ليجعلها أطرف في الحديث. فلو أُصيب الإنسان بأرَق — مثلًا — ولم ينَمْ من ليله إلا ثلاث ساعات؛ جعل الثلاث الساعات في حديثه ساعة واحدة. ولو سقطت قنبلة فهزت النوافذ؛ جعل الاهتزاز في حديثه للناس تحطيمًا وتهشيمًا، وهكذا … والمحور في ذلك كله أن يجد ما يُقال بحيث يحدث عنده وعند الناس شيءٌ من تغيير صور الحياة المكرورة المعادة.
هذه الحوادث الكريهة في ذاتها محبَّبة؛ لاستثارتها لنفوس الناس التي أخمَدَها ملَل الحياة، كما قلت. وغنيٌّ عن البيان أن الاستثارة تكون أمتعَ لو كانت الحادثة الغريبة التي أحدَثَتْها لذيذة في ذاتها، كأن تكسب ورقةَ النصيب، أو تسبق في لَعِب أو سِباق.
وهنالك علة أخرى تجعل المصائب محبَّبة إلى الناس بحُكم فِطرتهم، وتلك أنها توحد بين الناس في شعور واحد. والناس ينشدون هذه المشاطرة والمشاركة في وِجدان واحد؛ لأنها تكون لأفراد المجتمع بمنزلة المِلاط الذي يُمسك لَبِنَات البناء. هذه المشاطرة الوجدانية بين الناس لذيذةُ الوَقْع في النفوس مهما يكُن الباعث لها؛ فالمطر إذا اشتد حتى زاد على المألوف، والضَّباب إذا تكثَّف حتى حجب الضياء، وما إلى ذلك من أُمور، يتهلَّل لها الناس بشرًا؛ لأنها ستكون موضوعًا للحديث مشتركًا بينهم جميعًا.
وكم في تقاليدِ المجتمع من حِكمة تخفَى على النظرة العابرة السريعة! فالأعياد والمواسم وأيام العطلة الدورية لهذا السبب أو ذاك؛ أساسها أن تهيِّئ للناس فرصةً مشتركة تُشِيع في أنفسهم وجدانًا واحدًا، فضلًا عما تهيِّئُه لهم من تغيُّر في مجرى الحياة الرتيب.