الرأس والساعد
بين الرأس والساعد، بين الفكر والعمل، بين العقل والبدن، بين الذين يفكرون والذين يعملون؛ صراع طويل عنيف على الغلَبة والسلطان: فلمن تكون الكلمة العليا؟ أنُلقي بزمامنا في أيدي أصحاب الآراء النظرية والأفكار المجرَّدة؟ أم نجعل السيادة للعاملين بالأيدي والسواعد؟
فقد التقيت منذ أيام بشابٍّ استوقفني في الطريق مناديًا باسمي، وذكَّرني بنفسه، فإذا هو تلميذ قديم من تلاميذي. وسألته كيف دنياه؟ فأجابني بعد أن مطَّ شفتيه وهزَّ كتفيه بما دلَّ على أنه قلق في حياته: أنا أشتغل بالمحاماة، وليسَتِ الحال كما قد كنت أتمنى لنفسي؛ فلا أكسب من عملي ما يكسبه سائق السيارة … وهكذا انقلبت الأوضاع.
فقلت: وكان ينبغي للأوضاع أن تنقلب يا صديقي، فقد مضَى الزمان وانقضى، الذي كان يُزْهَى فيه صاحب الرأس بنفسه على صاحب الساعد.
فسألني: ماذا تريد؟
وهنا اقتربنا من المكان الذي كنت أقصد إليه لأشرب الشاي، فدعوتُه، وجلسنا نصف ساعة، كنت فيها متكلمًا وكان منصتًا: كان «الكلام»، يا صديقي، في القرون الماضية كلها؛ هو صاحب السلطان على «العمل»، ولا تزال هذه الحال — ولن تزال — قرينة التأخر في الأمم.
كان «الكاهن» في العصور القديمة آمرًا مطاعًا، بل كان سيدًا مخوفًا مهيبًا؛ لا لأنه يزرع الأرض ويُنتج الغلَّة للناس يأكلون؛ بل لأنه يعرف كيف يتكلم، فينفث السحر بكلامه، فقد كان يظن أن الكلام وحدَه ينحدر من شفتي كاهن كفيل بإنزال المطر من السماء، والظَّفَر بالنصر على الأعداء، وبكل شيء مما قد يُعْوِز الفرد أو تحتاج إليه الدولة.
ولبثت الحال كذلك مع تغير في نوع «الكلام» الذي يكتب لصاحبه السيادة والسلطان؛ فللخطيب في الأمم المتأخرة شأنٌ أيُّ شأنٍ، مع أنه لا يحمل في جعبته إلا «كلامًا»! وانظر إلى التاريخ؛ تَرَ الأمم كلها في بدايات أشواطها تفسح مجالًا أسمى للخطباء المصاقع. هكذا كان العرب في جاهليتهم، وهكذا كان اليونان، حتى لقد تزاحم الشبَّان الأغنياء في اليونان القديمة على معلمي الخطابة يتعلمون عنهم صناعة الكلام؛ لما رأوا أن الكلام وحدَه ضمين لصاحبه أن يظفر بأكثر الأصوات عند سواد الشعب، وبالتالي فهو ضمين لصاحبه أن يتبوَّأ مكان الزعامة ومناصب الحكم، بل هكذا كانت إنجلترا منذ قرنين؛ فسرعان ما كان يبرز الخطيب بين الناس، فإذا هو النائب في البرلمان، وإذا هو الوزير الحاكم بعد حين. وهكذا كانت فرنسا كذلك أيام ثورتها الكبرى، ولست بحاجة إلى أن أضيف بلادنا مثلًا آخر، فقد اقتضَتْ طبيعة موقفها أيام ثورتها أن تجعل زعامتها، بل حكومتها، في أيدي القادرين على الكلام.
والكلام والفكر النظري قرينان؛ فلم يكن السيد الكريم المحتد من أهل يونان القديمة يرضى لنفسه قط أن يعمل بيده. وكانت علامة الشرف أن تكون من أصحاب الفكر الذي لا يقتضي حركة، بل لا يقتضي جسدًا على الإطلاق. ولعل هذه التفرقة الواضحة بين الفكر والعمل فرع عن مفاضلة الناس بين الروح والبدن؛ فالروح (أو العقل) وما يتفرَّع عنه من فكر أو عقيدة أسمى منزلة وأطهر وأنقى من البدن وما يتعلق به. كان الفرض دائمًا أن الروح شريفة بالقياس إلى البدن الوضيع، وكان الفرض دائمًا أنه لولا هذا البدن الشهواني النجس؛ لارتفع الروح إلى معارج السماء … فلزم من ذلك كلِّه أن يكون المفكر بعقله أسمى مقامًا وأرفع مكانًا من العامل بجسده؛ فأين أين الزارع الذي يفلح الأرض ممن يبرهن بعقله أن المربع المُنْشَأ على وتر المثلث القائم الزاوية مساوٍ لمجموع المربعين المُنْشَأين على الضِّلعين الآخرين؟!
ثم بالغ أهل اليونان القديمة في هذا الاتجاه حتى أسرفوا فيه إسرافًا يستوقف النظر ويستثير العجب، فما كل علم عندهم بمنزلة سواء؛ بل تتفاوت العلوم نفسها قيمةً بمقدار ما تبعد عن كل ما يتصل بحركة الجسد في أثناء بحثها. ومن هنا كانت الرياضة عندهم أفضل العلوم إطلاقًا، ولذلك تقدموا في ميدانها خطوات فسيحة، بل كاد المفكر عندهم والمشتغل بالعلوم الرياضية يكونان شيئًا واحدًا، فلا فكر إلا الرياضة. وحتى إن فكَّر الرجل في غير الرياضة؛ فلا بُدَّ أن تكون الدقة الرياضية في عمله هي مقياس نجاحه في تفكيره.
وكان لليونان القدماء باعٌ كذلك في الفلك؛ لأن ملاحظة النجوم والتفكير في مسالكها لا يستدعيان منك أن تحرك الجسد أو أن تستعين به … أما الكيمياء — مثلًا — فقد كان حظها عندهم ضئيلًا هزيلًا؛ لأنها تقتضي شيئًا من العمل باليدين، والعمل اليدوي من شأن العبيد!
وإنه لمما يُذكر في هذا الصدَد أن أرشميدس الذي نعرفه اليوم بنظريته عن الأجسام الطافية في الماء، كان قد مهر في الميكانيكا، وكان ابن عمه أميرًا على «سرقصة»، فلما هاجم الرومان بلاده؛ استعان بابن عمه العالم في اختراع آلات حربية تساعده على حماية ملكه من الأعداء المهاجمين. فتلاحظ أن «فلوطرخس» المؤرخ اليوناني، وهو يؤرخ لأرشميدس، يعتذر عن اشتغاله بصناعة الآلات؛ لأنه يشعر أن مثل هذه الصناعة لم تكن تليق بمثل ذلك الأمير الشريف، فتراه يلتمس له العذر في ذلك على أساس أنه اضطرَّ لمعونة ابن عمه الملك ساعة الخطر، فليس بعجيبٍ بعد هذا أن يتصدى فيلسوف اليونان «أفلاطون» لرسم معالم الدولة المُثْلَى، فإذا الدولة المُثْلَى عنده أن يكون الزرَّاع والصنَّاع في أسفل القاع من البناء، وأن يكون في قمة الحكم فيلسوف! لماذا؟ لأن الزراع والصناع عاملون منتجون، ولا يعمل بيده في سبيل الإنتاج إلا الرجل من طبقة العبيد، أو من يهبط في إدراكه العقلي هبوطًا لا يُفْسِح له مجالًا بين أولي الأمر في الدولة، ولأن الفيلسوف من جهة أخرى هو وحدَه الذي يستطيع أن «يسبح» في ملكوت الله و«يشطح» في تأملاته النظرية. وهذا وذاك من شأن الروح والعقل، لا يتصلان بالجسد بأي سبب من الأسباب.
ويتقدم الزمان بالإنسانية — يا صديقي — شوطًا بعد شوط، فلا تُغَيِّر من قديمها إلا بمقدارٍ ضئيل لا تكاد تدركه الأبصار، كأنما أصرت ألا تُغَيِّر من نفسها شيئًا إلا بثورة تَرُجُّها رَجًّا. فها أنت ذا ترى أعقاب القديم ما زالت عالقةً في أذهاننا، رغم تَغَيُّر الظروف كلها. وانقلاب الأوضاع كلها — على حد تعبيرك أنت — لا نزال نؤمن في أعماق نفوسنا أن صاحب الدراسة النظرية خير مقامًا ممن يعمل بساعديه؛ فالمدرسة الثانوية النظرية لا تزال أرفع منزلةً من مدرسة تعلم الصناعة والزراعة بحيث لا يلجأ إلى هذه إلا من فشل في تلك، وبحيث يعدها الناشئ من الأسرة الكريمة سُبَّة كبرى لحِقت به وبأهله وذوي قرابته، أن يكون واحدًا من هؤلاء، لا من أولئك.
فمن البشائر بالخير أن ترى الأوضاع في طريقِها إلى الانقلاب؛ فالخطة التعليمية الجديدة في العالم المتمدن كله — والحمد لله أن نرى مصر ها هنا قد لحقت بالركب غير مبطئة — تعمل على التسوية التامة بين ضروب المهارة على اختلاف أنواعها، فما ينبغي لك يا صديقي أن تُزْهَى بمهارتك في الكلام على سائق السيارة، وقد مهر هو الآخر، لكنه مهر في «العمل».
بل ماذا أقول؟ أأقول إن من البشائر بالخير أن ترى الأوضاع قد تم بحمد الله انقلابها، فقامت في إنجلترا حكومة «العمال» لا حكومة الفلاسفة التي تمنَّاها فيلسوف اليونان القديم؟!