رسالة إلى صديقة أدبية
أهديها إلى الآباء والأمهات الذين قد يُنزلون بأبنائهم السوء من حيث لا يعلمون.
***
صديقتي أ …
يشاء الله يا صديقتي أن تكون أُولى رسائلي إليك صادرة عن قلب مكروب مكلوم حزين، وقد كنت أوثر أن يجيء أول اللقاء ابتسامة صافية لا تشوبها شائبة من هذه الهموم التي أُترعت بها نفسي. لكننا تعاهدنا — ألا تذكرين؟ — تعاهدنا على الصدق الذي ينثر مكنون القلب نثرًا، ولا يفتري على الحق شيئًا … أفلا تذكرين ذلك اللقاء السريع العابر، والبحر يطن في مسامعنا صداه، حين اختلجت يداك، ولمعت عيناك، في إيمان صادق، وقلت صارخة: حرام، حرام أن يعيش الناس في جوٍّ من أكاذيب … فلنكن نحن صادقين في رسائلنا، ولنسكب خواطرنا ومشاعرنا على الورق خالصة لوجه الفن، لا نخشى في تصوير الحق لومة لائم.
هذا القلب الجريء الذي لا يخاف لومَ اللائمين هو أمَلي، وهو علة إخفاقي في آنٍ معًا!
نعم يا صديقتي، فلست أرجو لنفسي شيئًا أعزَّ من أن يكون لي قلبٌ حرٌّ جريء، مثل عقلي الحر الجريء! … فقد أَشرفت بنفسي على تربية رأسي وتغذيته بالفكر، جاء عقلًا لا يتردد لحظة في تحطيم الأصنام كائنةً ما كانت تلك الأصنام. فلا يعتز بقديم لقِدَمه، ولا يهوله جبار لجبروته … لكن قلبي — وا حسرتاه! — صنيعة سواي! أشرف على تربيته والدي رحمه الله، فجاء قلبًا رعديدًا جبانًا، يريد له الرأس أن ينهض فيكبو، يريد له أن يطير معه في أجواء الحرية الطليقة، لكنه يسقط ويهوي، يريد له أن يحطم الأصنام فيعبد الأصنام! يا حسرتي من هذا القلب الضعيف الخائر الذي أحمله بين جوانحي!
في هذا الصراع بين رأسي وقلبي، يا صديقتي، تقع مأساتي. يقرأ الناس ما أكتبه، فيتوهمونني سيلًا عرَمرمًا دفَّاقًا كاسحًا. هيهات أن توقف مجراه سدودٌ أو حُدود، ثم يلقاني من يلقاني، فإذا أنا المستكين الخائف الخائر المتهافت، الذي لا يثبت على قدميه أمام التوافه!
مَنْ لي بمَن يُعلِّم هذا القلب الجبان أن التخلص من الخوف هو حكمة هذه الحياة؟ من لي بقلب جريء مثل رأسي، فلا تهوله أرض ولا سماء ولا يروعه عرف ولا تقاليد؟
لكنه أبي — رحمه الله — هو الذي حطَّم بين أضلعي قلبًا خلقه الله وثَّابًا؛ فقد أنسى كل شيء من أحداث طفولتي ويفاعتي، قبل أن أنسى كفَّ والدي التي قست على ذلك الطفل مني أو اليافع. وهل أنسى يومًا أجلسني فيه والدي أمامه — وكنت لا أجاوز الخامسة — وسألني سؤالًا في الحساب ولم أسرع له بالجواب، فضربني بكتاب ضخم كان أمامه ضربة لا أزال أشعر بالدُّوار كلما ذكرتها. وكان بالغرفة أضياف، فضحكوا ضحكات تهز الهواء من حولي حتى الآن. وقال منهم قائل وهو غارق في ضحكه: «قد ضربته بالدنيا كلها على رأسه.» وترددت الكلمة في سمعي دون أن أفهم لها معنًى، لكنني سأنسى كل شيء، قبل أن أنسى كيف عزَّ على نفسي أن أُضرب «بالدنيا كلها على رأسي» مع أني بريء. فانفجرت باكيًا، لا أملك لدمعي زمامًا، ولعلك تعلمين يا صديقتي أن الطفل كثيرًا ما يبكي مؤخرًا؛ فقد يُصاب بجرح وهو لا يدري، حتى إذا ما نبَّهوه أن دماءه تسيل، أخذ في البكاء … ودارت الأيام، وجاء يوم كنت فيه تلميذًا بالمدرسة الابتدائية، وتسلمت «الأطلس الجغرافي» بين ما تسلمته من الكتب أول العام الدراسي، وأخذت أقلب صفحاته، وأدير فيه البصر معجبًا بألوانه، فإذا جاري يهمس لي: «الدنيا كلها في هذا الكتاب الذي في يدك»، فانتفضت لعبارته انتفاض الجريح؛ لأني ذكرت عندئذٍ حادثة طفولتي التي جُرحت فيها كبريائي جرحًا لم يندمل حتى اليوم. ويومئذٍ فقط، أدركت معنى ما قاله ذلك الخبيث الذي قال لوالدي ضاحكًا: لقد ضربته بالدنيا كلها على رأسه.
وطلب مني والدي ساعتئذٍ أن أكفَّ عن البكاء. فلما عجزت عن طاعته؛ صفعني بكفه على وجهي صفعة أسمع الآن رنينها، وأعاد لي أمره بالسكوت. ولست أدري الآن كيف استطعت أن أوقف البكاء، لكني فعلت، وأنا أنتفض بين يديه جزعًا فزعًا. ولم أجرؤ على رفع بصري إلى الجالسين، خجلًا من كبريائي الجريحة … وأعاد والدي رحمه الله سؤاله من جديد، وأراد الجواب السريع. لكني كنت في هذه المرة أعجزَ عن الجواب مني في المرة الأولى، فحمَلني بين ذراعيه حملًا، وقذَف بي خارج الغرفة. وكان الباب على بُعد منه لا يقل عن مترين أو ثلاثة أمتار، قذف بي كما يقذف اللاعب بالكرة، وقال لأضيافه في نغمة المزهو الشامخ بأنفه: لن يعيش لي ولد خائب؛ فإما أن يُفلح أو يموت!
أقسم لك بالله يا صديقتي، أن دمعة كادت تطفر مني، وأنا أكتب هذه السطور. لعلها دمعة باقية في محجري منذ ذلك اليوم! … إنني لأنظر الآن إلى الناس من حولي، وكأني أرى في وجوههم الضاحكة انعكاسًا لوجوه هؤلاء الأضياف الذين كانوا يجلسون إذ ذاك مع والدي. يشهدون ويضحكون، أنظر إلى الناس من حولي الآن، يضحكون، فأكره منهم هذا الضحك: ترى هل تضحكهم خيبة رجائي في حياتي كما كان يضحك أضياف أبي عند خيبتي في حل المسألة التي ألقاها إليَّ أبي وأراد الجواب؟! تُرى هل يرضى عني روح والدي لو ألقيت بنفسي في اليمِّ لأحقق له مبدأه الذي ألقاه في مسمعي، وأنا بعدُ في سن الخامسة؟ ولا تزال آثاره عالقة برأسي، تحركني في مسالك الدنيا يَمنةً ويَسرةً: إما أن يفلح أو يموت!
ماذا يا أبتِ لو لم يكن نجاح، والنجاح ليست عناصره كلها في يدي؟
واحرَّ قلباه! … ألا إن الجواب عن هذا السؤال مُخيف فظيع. لقد عشتُ ما عشت يا صديقتي، وجاهدت ما جاهدت، فلم يَفتح عليَّ الله من أبواب النجاح بمثل ما يُفتح على سواي من الناس، وأحاول ما استطعت أن أُشيع الرِّضى في قلبي القلق الثائر، فلا أستطيع. ترن في رأسي عبارة أبي ألف مرة في اليوم الواحد: إما أن يفلح أو يموت، ثم أفكر في اليوم الواحد ألف مرة في تحقيق ما أراده لي أبي!
إنه لا يعلم إلا الله مدى ما أثر ذلك اليوم المشهود في مجرى حياتي. فكما عزَّ على نفسي عندئذٍ أن أرفع بصري إلى وجوه الحاضرين وأنا موصوم بالعجز والخيبة، لا أزال حتى اليوم عاجزًا عن مواجهة الناس، كلما ظهر في حياتي مظهر جديد من مظاهر الخيبة؛ فما أسرعني إلى الانزواء والانطواء كلما هاضَ إلى الزمن جناحًا …
معذرة، يا صديقتي، فلم أرد أن يجيء هذا الخطاب في هذا السواد، ولكننا تعاهدنا على مقربة من هدير البحر ساعة الغروب، ألا يخفي أحد منا في رسائله شيئًا، فهل تذكرين؟