التعميم في الحكم
سألني طالب فقال: أيُّهما في رأيك أقوى من الآخر: الفرد أم المجتمع؟
فقلت له: أي فرد وأي مجتمع؟
فقال: الفرد كائنًا من كان، والمجتمع أيًّا ما كان.
فقلت له: السؤال على هذه الصورة ليس له عندي جواب. ولو أردت مني جوابًا مفيدًا تحتَّم عليك أن تدلني على فرد معين في مجتمع معين؛ ليتسنَّى لي الحكم أيهما كان أقوى من الآخر، بحيث حَمَلَه على تغيير مجراه.
وسُقْتُ له بعض الأمثلة لأوضح له ما أريد فقلت له: لو كان الفرد الذي تعني — مثلًا — هو محمد عليه السلام، ولو كان المجتمع الذي تريد هو المجتمع العربي الذي ظهر فيه النبي؛ لقلت في غير تردُّد جوابًا على سؤالك: كان الفرد في هذه الحالة أقوى من المجتمع؛ لأنه أرغم المجتمع إرغامًا على تغيير أوضاعه، حتى ليُقال كان العرب على الصورة الفلانية قبل محمد، وأصبحوا على صورة سواها بعد محمد.
وقُل شيئًا قريبًا من هذا في النوابغ الذين صنعوا التاريخ بما أحدثوه في مجتمعاتهم من انقلابات اجتماعية أو سياسية أو علمية، فالعالم أو العلماء الذين كان لهم الفضل في الكُشوف العلمية التي انتهت في القرن الماضي إلى الثورة الصناعية؛ كانوا بغير شكٍّ أقوى من المجتمع، بل أقوى من سائر البشر أجمعين؛ لأنهم شَقُّوا للناس طريقًا جديدة رسَمت لهم أوضاعًا غير التي أَلِفُوا، وبدأت لهم بدايات فكرية جديدة لبِثَت تتخمَّر في الرءُوس — وما تزال — حتى انتهت إلى القلقلة التي يجتازها العالم اليوم، والتي تهدف بالعالم إلى وضع جديد يقلب القديم رأسًا على عقب.
أما إن كان الفرد رجلًا من غمار الناس يصنعُه المجتمع بعاداته وتقاليده صناعة لا تترك له أدنى مجالٍ للاختيار؛ فذاك فردٌ المجتمع أقوى منه.
وليس يكفي أن تحدد لي الفرد لكي أحكم لك أهو أقوى أم المجتمع، بل لا بُدَّ كذلك أن تُعَيِّن لي أي مجتمع تُراد الموازنة بينه وبين ذلك الفرد المعين؛ لأن الفرد قد يكون زعيمًا في جماعة، حتى إذا ما انتقل إلى جماعة أخرى، كان نكرة لا وزن لها ولا خطر.
واستطردت في حديثي مع الطالب السائل فقلت له: هكذا ترى سؤالك يتضح جوابه كلما جعلت تفكيرك منصبًّا على أفراد جزئية. وهو سؤال بغير جواب إذا أطلقته إطلاقًا عامًّا بغير تحديد.
إنني لا أكاد أرى عاملًا أقوى تضليلًا في الحكم وإفسادًا للرأي من التعميم الذي لا يقف عند الجزئيات والأفراد، ولست أرى طريقًا في التفكير أقوم وأهدى من تصوُّر الجزئيات عند إبداء الرأي في موضوع معين، بل إني لأوشك أن أقول إن أقوى ما يميِّز العقل المتنور البصير من العقل المظلم الأعشى هو القدرة على النظر في جزئيات الأمر الذي يكون الإنسان بصدَد التفكير فيه.
خُذ هذه المشكلة التي ملأت ألوف الألوف من صفحات الكتب والصحف: أيُّهُما أقدر على كذا وكذا: الرجل أم المرأة؟ … هذا سؤال كثيرًا ما يُسأل، وكثيرًا ما يندفع المسئول في جوابه قائلًا: الرجل لأنه كيت وكيت؛ أو المرأة لأنها تتصف بهذا أو بذاك. ولو سأل هذا المجيب بدوره: أيَّ رجل تريد وأيَّ امرأة؟ لألقى بذلك ضوءًا قويًّا على طريق الجواب الصحيح. لو قلنا مثلًا: أيهما أقدر على البحث العلمي: الرجل أم المرأة؟ ثم تنبَّه المسئول إلى ضرورة التفكير في أفراد بدل التعميم الذي يؤدي إلى الضلال؛ لقال في غير مشقة ولا عسر: لو كانت المرأة هي مدام كوري، ولو كان الرجل هو هذا الحوذي؛ كانت مدام كوري أقدر على البحث العلمي من هذا الحوذي. أما إن كانت المرأة هي خادمتنا في المنزل، وكان الرجل هو مسيو كوري؛ كان الرجل في هذه الحالة أقدر من المرأة … وهكذا قُل في كل سؤال تُلقيه جزافًا على الرجل والمرأة؛ فالأمر مرهون بأفراد جزئية في ظروف معلومة محدودة.
وخُذ أيضًا هذه الموازنة التي لا تكاد تُذكر على مسمع مني حتى يضْطَرِب كياني كله ولا أعود مالكًا لزمام نفسي، وأعني بها الموازنة بين ما يسمونه شرقًا وما يسمونه غربًا؛ فقد تسمع القائل يقول في غير تحرُّج ولا قلق: أيهما خير من زميله الشرق أم الغرب؟! وذلك الشرق وهذا الغرب فيهما ملايين البشر! ولو جرينا في هذا السؤال كذلك على المنهج المقترح، فسألنا بدورنا: من ذا تريد من رجال الشرق ومن ذا تعني من رجال الغرب؟ لانحصر الكلام فيما يؤدي حتمًا إلى جواب مفيد سريع؛ لأني قد لا يصعب عليَّ أن أوازن بين فلان الإنجليزي وفلان المصري ما دمت أعرفهما. لا، بل لا يكفي أن أحدد شخصين لتتم الموازنة على النحو النافع، بل ينبغي أن أمضي في التحديد والتجزئة فأقول: إن فلانًا الإنجليزي خير من فلان المصري في كتابة القصة، لكنَّ فلانًا المصري خير من فلان الإنجليزي في ركوب الدراجة.
ولعلي بعد ذلك قريبٌ إلى عقلك إذا ما زعمت لك أن ما يقوله القائلون عن «روحانية الشرق» و«مادية الغرب» كلام يستحيل أن يثبت لحظة واحدة أمام العقل الناقد البصير؛ لأن من أبناء الشرق من ينغمس إلى أذنيه في زراعته أو صناعته أو تجارته، وهذه مادية واضحة. بل قليلون هم جدًّا من أبناء الشرق «الروحاني» مَن لا ينغمسون إلى آذانهم في كسب عيشهم، وكسب العيش بالطبع مادي صريح في ماديته، ومن أبناء الغرب من ينفضون عن أنفسهم شواغل العيش ليفنَوا من أجل فكرة أو عقيدة. ولا أحسب الذين يفنَون من أجل أفكارهم وعقائدهم إلا ممعنين في «الروحانية»، بل إني لأستحلف قارئي الكريم أن يهدأ لي لحظة واحدة سريعة عابرة؛ ليفكر فيها كم من أهل «الغرب» يعيشون ويموتون في معاملهم أو في رحلاتهم الكشفية! وكم من أهل الشرق يصنعون ذلك! وإنما وضعت كلمتي «الغرب» و«الشرق» بين أقواس؛ لأنهما في الحق كلمتان لا معنى لهما إلا عند من يريد أن ينزلق في التعميم الفاسد، وإلا فحدثني: أين الخط الفاصل الذي يكون شرقه شرقًا وغربه غربًا؟
وإذا شئت مثلًا آخر يبين لك كيف يضل الإنسان في أحكامه إذا عَمَّمَ، وكيف يهتدي سواء السبيل إذا خَصَّصَ؛ فانظر فيما يسمونه مُتعة عقلية ومتعة جسدية. والأولى عندهم أفضل وأشرف وأسمى من الثانية، لكنك لو سألت عند الموازنة بين هذين النوعين من المتعة: أيَّة متعة عقلية تريد وأيَّة متعة جسدية؟ إذن لرأيت من متعات العقل ما هو دنيء مرذول، ومن متعات الجسد ما هو رفيع شريف. أوَليس الحقد وحب الانتقام والتعصب وشهوة السيطرة على عباد الله من متعة العقل؟ ثم أليس الطعام المعتدل من متعة الجسد؟ فأيُّهما عندك أشرف: أن يأكل الرجل برتقالة أم أن يثير حربًا دينية أو مذهبية تفنَى فيها ألوف الناس؟!
الفرق بين المرأة العجوز المخرفَة حين تصف للناس «وصفة» علاجية وبين الطبيب حين يصف لمريضه دواء؛ هو هذا: المرأة العجوز الجاهلة تُعَمِّم بغير نظر إلى جزئيات الموقف وتفصيلاته؛ فقد شهدت مرة أن «وصفة» معينة عالجت مريضًا؛ فراحت تُعَمِّم تلك الوصفة في كل المواقف الشبيهة دون اعتبار منها لما قد يكون بين تلك المواقف الشبيهة في الظاهر من أوجه الخلاف. وأما الطبيب العالم؛ فهو لا يكتفي باسم المرض ليصف العلاج، بل لا بُدَّ أن يرى هذا المرض متمثلًا في «المريض» الفرد المعين؛ ليبني حكمه على جزئية أمامه، منفردة في تفصيلاتها، لا على شيء عام مشترك بين الناس أجمعين.
ولا إخال القارئ إلا سائلًا: ألا تريد أن تعترف بإمكان الحكم بصفة عامة، وإذن فماذا تكون القوانين العلمية كلها إن لم تكن أحكامًا عامة؟ إني إذ أقول إن الماء يغلي في درجة مائة — مثلًا — فقولي منصبٌّ على كل ماء. وهذا تعميم لا ضرورة فيه لسؤال يفصل جزئيات الماء المراد … وجوابي على ذلك هو أنه حتى القوانين العلمية تكون مشروطة بشروط؛ فالماء لا يغلي على درجة مائة إلا إذا كان تحت ضغط جوي معين … وعلى كل حال فالتعميم يهون خطره إذا استقيناه من جزئيات درسناها. أما أن نرسل القول إرسالًا بغير ضابط من التفكير في الجزئيات؛ فطريق لا تؤدي بنا إلى صواب الحكم إلا مصادفة.