التفكير النظري والتطبيق
للإنجليز براعة في الفكاهة، أكاد لا أجد أمة أخرى تلحقهم في ميدانها؛ فالفكاهة في أدبهم ليس لها نظير في آداب العالم كلها. وهي فكاهة خفيفة أقرب ما تكون إلى الابتسامة اللطيفة إذا كانت الفكاهة عند غيرهم تُقاس إلى القهقهة العالية. وهم يمزجون فكاهتهم هذه في جِدهم؛ فكثيرًا ما يعمد الخطيب السياسي إلى تخفيف جِد الموضوع الذي يخطب فيه بمُلَحٍ ونكاتٍ ينثرها في غُضون حديثه هنا وهناك. وإذا أقاموا حفلًا للتكريم — مثلًا — فيكاد يستحيل على المتكلم في مثل هذا الحفل ألا يجعل كلمته كلها أقرب إلى الفكاهة المستمرة، حتى إن قصد إلى الجِد في الحديث.
بل إن ميلهم هذا إلى الفكاهة لا يَبرَحُهم حتى في المحاضرات العلمية التي قد توحي بطبعها إلى عبوس المحاضر وتجهُّمه. وإني لأذكر بهذه المناسبة موقفًا لطيفًا لأستاذ في علم النفس كان يحاضرنا في جامعة لندن، وكان الموضوع الذي يحاضر فيه هو نظرية فرويد في التحليل النفسي. فبعد أن شرح الرجل بعض معالم هذه النظرية، وبيَّن كيف يحاول أتباعها أن يصلوا بالتحليل إلى سببٍ نفسي لكلِّ شيءٍ مما يحدث في سلوك الإنسان، وإن خَالَه الإنسان مصادفةً عارضةً، قال: على أنني أحب ألا تبالغوا في تطبيق هذا الرأي. وأضاف إلى قوله هذا مثلًا من حياته الخاصة، فحكى ما يأتي: لاحظت حينًا من أيامي الماضية أنني أفقد أشياء كثيرة؛ فأضع المفاتيح في جيوبي، ثم لا أجدها، وأضع النقود فيها حتى إذا ما همَمت بدفع أجر للسيارة أو ثمن لفنجان القهوة؛ لم أجد نقودي التي وضعتها واثقًا مما فعلت. فقلت لنفسي: أنت تعلم شيئًا من التحليل النفسي؛ فلماذا لا تفكر في سبب من نفسك لهذه الظاهرة الغريبة التي انتابتك هذه الأيام؟ وجلست إلى مكتبي ساعات وساعات، أسجل أحلامي وأحلِّلها ما استطعت إلى ذلك سبيلًا، وأضع لنفسي الاختبارات وأنتزع النتائج … وبينا أنا في غمرة من هذا البحث العلمي الذي أجريته على نفسي لأعلم السبب الدفين في اللاشعور، منذ الطفولة الأولى، الذي يستلزم ضياع مفاتيحي ونقودي هذه الأيام؛ إذا بي ألحظ أن جيوبي فيها خروق! فكَفَفْت عن بحثي وتحليلي وتعليلي … لأن سبب الظاهرة الذي أبحث عنه بين أوراقي، كان أقرب إليَّ من حبل الوريد.
هذا مثل جيد جدًّا — على ما فيه من فكاهة حلوة — لما أردت أن أقوله؛ فكثيرًا ما تأخذنا الحماسة لنظرية علمية فنطبقها على كل شيء كأنما هي مفتاح الغيب المجهول كله، أو كأنها لعبة جديدة صادفت أطفالًا أغرارًا ففرحوا بها، وجعلوها دنياهم بأسرها حينًا، حتى يَمَلُّوها، أو تجيئهم لعبة غيرها.
وإن شئت تسريةً عن نفسك من عَناء الحياة وأعبائها؛ فتعالَ لي أُجْلِسك مع جماعة من أصدقائي يقرءون كتبًا في التحليل النفسي هذه الأيام، فيجدون على صفحاتها ما يفرحهم من طريف الآراء ولطيف التعليلات للظواهر الإنسانية، فلا يكادون يسمعونك في أحاديثهم إلا أخبار هذا التحليل، وكيف انفتحت لهم بفضله مغاليق النفوس. وهم حريصون كل الحرص على أن ترِد في أحاديثهم ألفاظ ضخمة حتى لا تظن بهم اللهو والعبث؛ لأنهم لا يقولون إلا «علمًا» لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فهذه — مثلًا — زوجة لا تجد سعادتها مع زوجها، لماذا؟ الجواب عندهم لا بُدَّ أن تكون هذه العقدة النفسية أو تلك مما تركَّب منذ الطفولة الباكرة. ويستحيل — في رأيهم — أن يكون سبب شقائها الزوجي ضآلة مرتب زوجها، أو قسوة هذا الزوج في معاملتها أو ما ينحو هذا النحو من عِلَل وأسباب.
وتعجب أن ترى هذه النزعة تجاوز أوساط الناس إلى عُلمائهم وصفوة مفكريهم. فهذا كتاب ظهر حديثًا في إنجلترا عن الكاتب الإنجليزي المعروف «تشارلز لام» الذي عاش في النصف الأول من القرن التاسع عشر، فهذا الأديب له قصة معروفة مشهورة مع أخته «مارية»؛ إذ أحبها وأحبته حب الشقيق المخلص لشقيقته المريضة العليلة، وحب الشقيقة لشقيقها الذي لم يتنكر لآصِرة القُربي، ولم يتزوج «لام»؛ لأن أخته «مارية» لم تتزوج. وكانت في مرضها تحتاج إلى عطف ورِعاية، والذي جعل هذا التعاطف بين الشقيق وشقيقته معروفًا ومشهورًا هو أنهما تعاونا معًا على إخراج بعض الآثار الأدبية، ومثل هذا التعاون والتآزر جميل ونادر، حتى ليستوقف النظر ويستقر في الذاكرة … فتأتي هذه الكاتبة الحديثة التي أخرجت هذا الكتاب الجديد عن «تشارلز لام»، وتأبى إلا أن تطالع العالم بنظرية جديدة في العلاقة بين الرجل وأخته؛ إذ تذهب إلى أنها كانت علاقة جنسية، فقد كان الأخ والأخت معًا على شيء من الشذوذ العقلي — وهو شذوذ قد انتهى بهما معًا إلى الجنون — فالأرجح أن ينحرف بهما هذا الشُّذوذ إلى شذوذ جنسي كذلك … إلى آخر ما قالت في هذا الاتجاه، ونحن لا نقول إن ذلك مستحيل الوقوع، لكننا نعجب: لماذا لا نعلِّل الأشياء بأسبابها القريبة ولا نلجأ إلى هذا الإغراب في التعليل إلا إذا كانت الحجة قاطعة باترة؟! إننا إذا سمعنا بشقيق وشقيقة يتحابَّان ويتعاطفان، فأول ما ينبغي أن نعلل به هذا الوُد بينهما هو العلاقة الطبيعية التي تكون بين أخٍ وأخته، وقد تزيد قليلًا هنا أو تقل قليلًا هناك، بل هذا ما تقتضيه شروط البحث العلمي الصحيح؛ إذ يقال لنا في هذا المجال: إنه لو كان لظاهرةٍ ما تعليلان، ورأيت التعليلين كليهما على درجة واحدة من حيث تفسير الظاهرة، إلا أن أحدهما أبسط من الآخر؛ فالتحليل الأبسط هو التحليل الأصدق، وعلى هذا الأساس نفسه نأخذ بدوران الأرض حول الشمس لا العكس في تفسير الليل والنهار، مع أن تعاقب الليل والنهار — وسائر الظواهر الفلكية — يفسره أن تكون الأرض ثابتة والشمس تدور حولها (كما ظن بطليموس)، كما يفسره أن تكون الشمس هي الثابتة، والأرض تدور حولها (وهي نظرية كوبرنيق)، وإنما أخذنا بالرأي الكوبرنيقي؛ لأنه أبسط الرأيين؛ إذ يترتب على مذهب بطليموس تعقيدات في مسارات النجوم لا مبرر لافتراضها ما دام هناك تفسير أبسط يحل لنا الإشكال.
لو كان الكلام النظري الجميل يجد السبيل هينةً مُيسَّرة إلى التطبيق الناجح؛ لما عانت الإنسانية كثيرا جدًّا مما تعانيه. فما أجمل أن يجلس أفلاطون في الأكاديمية ليكتب جمهورية يكون فيها الحكم لأصحاب العقول الراجحة وحدهم! وتكون بين الناس مساواة تامة في الفرص وما إلى ذلك من كلام منسَّق جذَّاب، لكن الكلام شيء والتطبيق شيء آخر. وإنما يكون الأمر كذلك؛ لأن الكلام النظري يتجاهل ألوف الألوف من التفصيلات، لكن هذه التفصيلات كائنة واقعة في الحياة الحقيقية، فإذا ما أردت التطبيق وجدت الفرق واضحًا بين سهولة القول الذي يلخِّص الواقع تلخيصًا موجزًا شديد الإيجاز، وبين هذا الواقع المركَّب المعقد الذي لا تكاد تُحصى عناصره.
لقد قرأ قارئ مرة في إحدى المجلات أن الإنسان لو نظر بحِدَّة إلى عينَي قطة، فسرعان ما تنام القطة نومًا «مغناطيسيًّا». وأحب صاحبنا أن يُجري هذه التجربة اللذيذة؛ فأتي بقطة ووضعها على مِنضدة أمامه، وجعل ينظر إليها نظرًا مركزًا حادًّا، لا يتحول عنها، وجعلت القطة تنظر إليه بدورها — ولعلها كانت تعجب في نفسها من هذا المجنون! — حتى مَلَّت القطة طول النظر؛ فمدت كفَّها في سرعة خاطفة، وخدشت عينَي الرجل خدشةً خطيرة، وانصرفت لحالها … قد يكون الذي كتب هذا الخبر عن القطة وتنويمها صادقًا فيما روى، لكن القطط مختلفات والرجال مختلفون؛ فمن القطط ما هو سمينٌ ومنها ما هو هزيل ومنها ما هو جائع ومنها ما هو ممتلئ، وهكذا! وكذلك قُل في الرجال وسَعَة حيلتهم أو ضيقها وقوة نظراتهم أو ضعفها إلى آخر ما بين الأفراد من فُروق، لكن النظرية تلخِّص هذه الفروق، بل تهملها إهمالًا، مع أنها قِوام الواقع ونسيجه، ومن هنا كان التفكير النظري شيئًا وتطبيقه شيئًا آخر.
ولعلي تلقَّيت في ذلك درسًا هو بين دروس الحياة أمرُّها وأقساها؛ فقد كنت أرى في المرأة المصرية رأيًا حَدَا بي إلى الكِتابة مرة بعنوان «النساء قوَّامات»؛ لأني رأيت — نظريًّا — أن المرأة المصرية أصدَق نظرًا وأصحُّ رأيًا من الرجل المصري، ناسيًا بذلك ما بين الأفراد من فُروق … حتى علمتني الحياة درسَها القاسي، وهو أنها في واقعها أعقد جدًّا من أن تلخِّصها النظريات في أقوال موجزة مبسطة.