بين الأماني والواقع
«الأحلام أفضل من تحقيقها» هذه عبارة يقولها الإنجليز، مع أنهم — أو إن شئت فقل لأنهم — من أكثر شعوب الأرض تمسُّكًا بالواقع وانحصارًا في نِطاقه، حتى جاءت فلسفتُهم متميزة من سائر الفلسفات باتجاهها الواقعي الصَّريح؛ فهم إذ يقرِّرون ويكررون أن الأحلام أفضل من تحقيقها، فهم إنما يقررون ويكررون حقيقةً نفسية هي نفسُها جزءٌ من الواقع الذي لا مفرَّ من الاعتراف به، لمن أراد ألا يشطح مع أوهامِه؛ حتى لا تمس هذه الأرض الصُّلبة في كثير أو قليل.
فمن الحقائق النفسية الواقعة، أن الإنسان يظل يُزَخرف لنفسِه الأشياء ما دامت بعدُ في حدود الأمل، حتى إذا ما أخرجها — أو أُخرجت له بفعل الظروف — واقعًا ملموسًا؛ هانتْ في عينيه، وخفَّ وزنها على كفَّيه! لماذا؟ لأنه في أحلامه يطبخ لنفسه الطبخة كما يشتهيها، فيحذف عنصرًا ويُبْقِي عنصرًا؛ حتى لا يقدم لنفسه إلا كلَّ طيِّب مستساغ. وأما الواقع حين يتبدَّى له، فيقدِّم له صحافَ الطعام مزيجًا مما يشتهي وما لا يشتهي، وعندئذٍ لا يجد صاحبنا مهربًا من إِبَر النحل إذا أراد العسل، ولا منجاةَ من الشوك إذا التمس الزهور.
وأقرب ما يرِد إلى الخاطر من أمثلة على ذلك، هو هذه الفتاة أو هذا الفتَى، يظل يحلم بحبيبة قلبِه التي ستملأ له الدنيا سعادة وبشرًا، حتى إذا ما جاءت هذه الحبيبة؛ خابَ الرجاء في كثير جدًّا من الأحيان، ووجد الجنَّة المرتقبة جحيمًا وسعيرًا؛ لأنه وهو يحلم، رسم الجانب البرَّاق ونسي الجانب المُعتم. ويستحيل أن يكون واحد بغير الآخر، إنه وهو يحلم رسَم الحبيبة وهي في عافيتها تَثِب وتَطفر، ونَسِي صورتها وهي عليلةٌ طريحة الفراش. رسَمَها وهي ضاحكة مرِحة، ونَسِي صورتها وهي عابسة متجهِّمة، رسَمها وهي مُكتَسِية بالثوب الجميل، متحلِّية بزينتها فوَّاحة بعطرها، ونَسِي صورتها وهي تُلزِمه شراءَ ذلك الثوب وهذه الزينة وهذا العِطر. وقُل ذلك وأكثر منه في الفتاة وهي حَيْرَى بين فتى أحلامها والفتى الذي جاءها به الواقع. آهٍ لو لم يكن أسمَر! لولا هذه الشَّعرات البِيض في فَوْدَيه! لو كان أغنى قليلًا مما هو! ماذا لو كان بغير أمٍّ وأخوات؟ … هكذا ظلَّت فتاتُنا تنظر إلى الفتى الواقع في حَسرة على فتى الأحلام!
على أن الإنسان مُضطرٌّ بحكم ضرورة العيش إلى نِسيان أحلامه ليقبل الحقائق كما جاءته، إلا إذا كانت الفجوة أعمقَ وأوسع من أن تلتَئِم وتنمحي في غير عُسر ولا مشقَّة. وعندئذٍ تجذب الأحلام صاحبَها إلى صومعة بعيدة يعتزل فيها لينجو بنفسه من الحقائق المرَّة الأليمة، فلو رأيت زاهدًا قد انتبذ إلى صومعة قصِيَّة نائية؛ فلا يخدعنَّك الهدوء البادي على وجهه، واعلم أنه على هدوئه ذاك يُخفي في صدره ثورة متأجِّجة على الحياة الواقعة كما لمَسَها بين الناس ورآها. ولا عجب أن نرى بعض الحكام المستبدِّين في الماضي يُوجِسون من أمثال هؤلاء الرهبان الزاهدين خِيفة، ويتعقَّبونهم بالأذى؛ لأن مجردَ وجودهم دليل حيٌّ ناطق أمام الناس على نَقْص الواقع وبُعده عن الكمال الذي تتعلق به أحلام الحالمين.
ولئن كان هذا الضرب من الفِرار من وجه الحقائق قليلًا نادرًا لا يستطيعه إلا نفَر معدود؛ فهناك ضروب أخرى شائعة يلجأ إليها سَواد الناس كل يوم، منها قراءة القصص. فلسنا على صواب إن زعمنا أن الإنسان يحب قراءة القصة — أو الأدب بصِفة عامة — إذا كان فيه تصويرُ نفسِه، بل العكس؛ كثيرًا ما يكون هو الصواب، فتعجبك القِطعة الأدبية بمقدار بُعدها عن تصوير نفسك؛ فلو أخذت تقصُّ أخبار الفقراء على فقير لما أعارك أذنًا ولا احتَفَل لحديثك؛ لأنه منقوع في الفقر، ولا يثير انتباهَه شيءٌ هو منغمِس فيه إلى أذنيه، لكن قُصَّ على الفقير كيف يعيش الأغنياء في قصورهم يُرْهِف لك الأذن؛ لأنه يحب أن يعلم كيف تدور الحياة في هذا العالم البعيد. وكذلك يحب القعدة أن يسمع قصص المغامرين، ولا يَشُوق المصري أن يسمعك تحدثه عن المصريين بقدر ما يَشُوقُه أن يسمع نبأ رحلة بين أهل الصين … وإذن، فطريق الفِرار قد أصبحت واضحة أمام مَن خيَّبت حقائق الواقع أحلامَه، فليقرأ قصة فيها حياة تشبه هاتِيك الأحلام الرائعة، وهكذا يفعل الناس.
وليس كل الفِرار من الحقائق البغيضة يتم على هذا النحو العملي الذي وصَفنا، بل هناك من تخيب أحلامه فينطوي على نفسه. وحسبه بذلك فرارًا، فلا هو من الهمَّة بحيث ينسحب إلى دير بعيد، ولا هو من هُواة القصص يهرب فيها من دنياه الواقعة، فأقلُّ ما يستطيعه هو أن يُغلق أبواب نفسه على نفسه ويظل يَجترُّ أحلامَه كما يَجترُّ الجمل طعامَه المخزون إذا عزَّ الطعام في عُرض البادية. وكم رجل وامرأة ممن ترى حولك لا يعيشون مع الناس بقدر ما يعيشون في نفوسهم! أولئك لم يستطيعوا سدَّ الثغرة التي تُباين بين الحقائق والأحلام.
وإذا كان لكلِّ فردٍ منا حقائقه وأحلامه جنبًا إلى جنب، فمراحل العمر — بالإضافة إلى ذلك — تختلف من حيث رجحان كِفَّة هذه أو تلك، في الشباب ترجح كِفة الأحلام بصفة عامة، وفي الرجولة المكتملة والكهولة ترجح كفة الحقائق بصفة عامة كذلك؛ فقلَّما يستطيع الشاب الفيَّاض بغمرة الحياة الدافعة أن ينظر إلى الواقع، ثم يقِف عند هذا الحدِّ لا يعدُوه، بل تراه — بغير وعي منه — يُضفي على ذلك الواقع ألوانًا زاهية من عنده؛ ولذلك قلَّ أن تجد شابًّا يائسًا. وفِيمَ اليأس ما دام خياله كفيلًا أن يكمل النقص الذي أصاب الواقع؟!
وأما إذا نضِجت الرجولة — أو الأنوثة — في إنسان؛ فهو يزداد حصرًا لنظره في نِطاق الحقائق، فكأنما كان وهو شاب زوبعةً من دُخان لا تمكن العين من رؤية الحطب المشتعل، فلما تقدمت سنه انجلى ذلك الدخان شيئًا فشيئًا وتبَلْورت النار في جمرات محدَّدة المعالم، وهي إلى أن تُحدَّد معالمها بالقياس إلى الحطَب أول اشتعاله؛ أحمى نارًا وأشدُّ فعلًا … وأقصد بذلك أن الرجل القادر على رؤية الحقائق بعيدًا عن غَفْوة الأحلام أخصب إنتاجًا من الشاب الذي تعميه أحلامه عن رؤية الحقائق في وضوحٍ وجلاء، ومن ثَم كان أكثر زعماء العالم في شتى نواحي النشاط رجالًا أو كهولًا، ونَدر جدًّا في التاريخ مَن أنتج إنتاجًا غزيرًا وهو لم يزل في صدر شبابه الحالم: التجار ورجال الأعمال وأصحاب البحث العلمي وقادة الجيوش وساسة الحكم، ثم الفلاسفة والأنبياء؛ معظمهم رجال تجاوزوا سنَّ الشباب.
على أنه لا مناصَ للإنسانية في سيرها من شباب يحلم وشيوخ يُلجِمون الأحلام بالحقائق الواقعة، أو إن شئت فقل: لا بُدَّ لها من قلب يُحس وعقل يفكر.