المتفرج واللاعب
كثيرًا ما يقال إن هذه الحياة مسرحية، وهؤلاء الناس ممثلوها، والحق أن الحياة والمسرحية شبيهتان إلى حدٍّ بعيد، فليس يقتصر الأمر فيما بينهما من أوجُه الشبه على الظواهر التافهة، كأن يُقال مثلًا: إن الحياة لها — كما للمسرحية — ستار يُرفع ساعة الميلاد بصرخة ويُسدل ساعة الختام بشهقة خفيفة ينتهي بها كل شيء، أو أن يُقال إن في الحياة — كما في المسرحية — فصولًا ومشاهد؛ فهذه طفولة لاهية، وهذا شباب مندفع، وتلك كهولة تنضج عندها ثمرة العمر نضجًا قد يشوبه شيء من العطب فتسقط، كما يسقط البطل في نهاية المأساة سقوطًا ينسدل بعده الستار.
كل هذا شبه صحيح، لكن ما هو أعمق منه من أوجه التشابه بين الحياة والمسرحية؛ هو أن الإنسان في الحياة — كاللاعب في المسرحية — يحصر نفسه في «دوره» حصرًا؛ فلا تتوقف إجادته له على معرفة العلاقة بين ما يقوله أو يفعله، وبين ما يقوله أو يفعله سائر اللاعبين. ولو قد ارتفع بنظره لينظر إلى الأوضاع كلها نظرة تَقْرِن بعضها إلى بعض، كما ينظر إليها مؤلف المسرحية، أو كما ينظر إليها المتفرج؛ إذن لتغيرت قيم كثيرة للأشياء في عينه وتقديره.
إن من يلعب دور العظيم في الحياة — كالذي يلعبه في المسرحية — قد لا يكون عظيمًا بالقياس إلى شخص آخر من أشخاص الرواية، إذا نظر إلى الشخصين نظرةً مقارنة تحلِّل وتوازن، وهي النظرة التي ينظر بها المؤلف أو المتفرج الناقد، لكنه عظيم في ظن نفسه، لأنه— كما قلت — يحصر نفسه في دوره حصرًا، لا يتيح له أن يمد النظر إلى ما وراء ذلك من أشخاص وأحداث.
وإنه لمن أشَق الأمور على الإنسان أن يجاوز حدود نفسه، بحيث يجعل من شخصه شخصين: شخصًا يلعب دوره في قصة الحياة، وشخصًا «يتفرج» بعين الناقد الخبير العاقل؛ ليزن مقدار نفسه بالقياس إلى مقادير الناس الآخرين، غير أن هذا الأمر العسير الشاق قد استطاعه نفَرٌ قليل من العباقرة الجبابرة الفحول، فقد يبلغ الرجل من هؤلاء قمة المجد البشري، لكن هذا المجد لا يمنعه من الخروج على نفسه لينظر إليها «من الخارج»، فيزنها بالقسطاس المستقيم وزنًا لا يصدر فيه عن التعصب والهوى لنفسه. أقول إن الرجل من هؤلاء قد يبلغ قمة المجد البشري، ثم ينظر إلى نفسه من الخارج، فإذا به يُؤْثِر عليها «دورًا» آخر، لا يكون له ظاهر المجد وإن تكن له حقيقته. فهذا بوذا مثلًا، كان في مسرحية الحياة الظاهرة صاحب سطوة لا تُقاس إليها عند النظرة العابرة أدوار كثيرين من سائر اللاعبين، لكنه خرج من حدود نفسه، وقارن وحلل، فإذا به يُؤْثِر على سطوة الملك — أو ما في حكمها — دورًا آخر يقتضيه أن يكون جائعًا عاريًا، وِطاؤه الأرض وغطاؤه السماء، وقد أثبت الزمان صدقَ ميزانه؛ لأنه لو آثر وجاهة الإمارة والملك لما أفسح له التاريخ من صفحاته أكثر من سطر أو سطرين. على حين ضمن له ذلك العُري والجوع زعامة ألوف الملايين من البشر، وكتب له صفحات من نور في سجل الخلود.
وهذا الغزالي مثلًا آخر، أتيح له في مسرحية الحياة أن يلعب دورًا فيه كثير من الأُبَّهة والعظمة الظاهرتين، لكنه هو الآخر استطاع أن يتجرد من نفسه لينظر إلى نفسه نظرة موضوعية تمكنه من قياسها إلى غيرها، فإذا دور آخر يستهويه، ليس فيه من جلال المنظر كثير ولا قليل.
نحن في مسرحية الحياة لاعبون، لكلٍّ دوره الذي أُرِيدَ له، أو الذي اختاره لنفسه بما يتفق مع ميله وهواه. ولو قد أُتيح للواحد منا أن يكون لاعبًا حينًا ومتفرجًا حينًا آخر؛ لهان كثير جدًّا من الكوارث والخطوب؛ لأن كثيرًا جدًّا من هذه الخطوب وتلك الكوارث منشؤه ما يعيش الناس فيه — أفرادًا وجماعات — من أوهام عن أقدار أنفسهم. وإني أعود فأقول إنه ليس من الهيِّنات الميسورة لكلِّ إنسان أن يقف من نفسه موقف المتفرِّج ليضعها موضعها الصحيح بالنسبة لما عداها، ولو كان ذلك من الهينات الميسورة لكلِّ إنسان، لما طُلبت الرحمة من الله لمن يعرف قدر نفسه بالتعيين والتخصيص؛ إذ قيل: رحم الله امرأ عرف قدر نفسه.
•••
على أن الحكمة هي في الموازنة بين اللعب والتفرُّج؛ فالإمعان في تجرد الإنسان عن نفسه ليتفرج مُضِر ضَرَر الإمعان في اللعب بغير وقفة للتدبر والنظر. فلو كان العالم كله لاعبًا بغير تدبر الناقد الفاحص المحلل؛ لما اتخذت الأمور أقدارها الصحيحة، ولو كان العالم كله متفرجًا لما أنتج شيئًا.
وإن سياق الحديث ليدعوني في هذا الموضع أن أستطرد، فأقول: إن اللاعبين في مسرحية الحياة من جهة، والمتفرجين من جهة أخرى؛ قد اختلفت قيمة الفريق منهم بالنسبة لقيمة الفريق الآخر في العصور المختلفة، اختلافًا يبعث على التأمل والتفكير.
فقد كان الناس في الألعاب الأولمبية عند اليونان الأقدمين، ينقسمون فرقًا ثلاثًا: ففريق ينزل مضمار السباق، وهؤلاء هم اللاعبون وفريق آخر يجلس على هامش الحلبة، وهؤلاء هم المتفرجون، وفريق ثالث لا ناقة له في مضمار اللعب ولا جمَل، وإنما ذهب هنالك لينجز ما أراد لنفسه من أعمال تتصل بالبيع والشراء في ذلك المُزدَحم المائج من الناس ألوانًا وأشكالًا، وكانت القيمة الاجتماعية الكبرى للفريق الثاني — فريق المتفرجين — فما كان يجوز لرجل يعتز بكرامته وكرامة أسرته أن ينزل المضمار لاعبًا متسابقًا، ويتلو هؤلاء في المنزلة فريق اللاعبين؛ فقد كان هؤلاء يظفرون بكثير من المجد في أعين الناس، مهما يكن قدرهم بالنسبة إلى الطبقة العالية المتفرجة. وأما أرباب البيع والشراء، الذين لا هم إلى أولئك ولا إلى هؤلاء؛ فكانوا أدنى الناس قيمة وقدرًا.
ويمكن التعبير عن هذا المعنى نفسه بعبارة أخرى، فنقول: إن القيمة الكبرى عندئذٍ كانت لمن يتدبر ولا يعمل. أو بعبارة ثالثة: كان أصحاب التفكير النظري هم السادة، والعكس صحيح؛ أي إن من علامة السيادة والرفعة أن تقف عند حد التفكير النظري دون أن تجاوزه إلى العمل والتطبيق. ولذا كان أمعن العلوم في التفكير النظري — مثل الرياضة والفلسفة — هي أجدر العلوم بالدراسة عند أبناء العِليَة. ولا عجب في مثل هذا الجو الفكري أن يدعو فيلسوفهم أفلاطون إلى أنه لا يجوز أن يحكم الناس إلا فيلسوف. ثم لا عجب كذلك أن يقتضي بناء المجتمع عندئذٍ أن يكون فيه طبقة من العبيد، يُوكَلُ إليها العمل اليدوي بأنواعه المختلفة.
وها نحن أولاء نشهد في عصرنا كيف تغيرت الأوضاع، وتبدلت القيمة النسبية للاعبين والمتفرجين، بالمعنى الحرفي والمعنى المجازي على السواء.
فاللاعبون — بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة — قد تفوَّقوا في قيمتهم على المتفرجين. فأين من يسبح في الماء ممن يقف على الشاطئ متفرجًا؟ أين قيمة لاعب الكرة أو المتسابق في الجري والقفز ممن يقرأ أخبار ذلك في الصحف أو يستمع إليها في المذياع؟
ثم تفوق اللاعبون — بالمعنى المجازي هذه المرة — على المتفرجين، لم تعد القيمة في عصرنا للذي يجلس إلى مكتبه «يفكر»، بل آلت القيمة كلها لذلك الفريق اللاعب الذي ينزل مضمار الحياة العملية، والجانب السياسي منها بوجه خاص. الكلمة العليا في العالم الآن صائرة، أو قد صارت، لصاحب الحركة والعمل. وأما الذي يجلس اليوم على كرسيه «يفكر»؛ فما أجدره أن يفتح فمه كالأبله؛ ليملأه الزمان ترابًا.
فلو سألت نفسي بعد هذا: لماذا أخفقت حين نجح سواي؟ كان الجواب: لأنك جلست تتفرج حين لعب سواك.
•••
ولو عدنا إلى تشبيه الحياة بالمسرحية الذي بدأنا به الحديث؛ لقلنا إنه لا تتم حياة كاملة بغير لاعبين ومتفرجين في آنٍ معًا، بغير عمل ونقد نظري جنبًا إلى جنب، والحكمة كل الحكمة أن تجتمع في الفرد الواحد صفِتَا اللاعب والمتفرج، ليعمل من جِهة ويتدبر طريقه ومنهجه من جهة أخرى، وأن تجتمع في الأمة الواحدة فئة العاملين وفئة المفكرين؛ لتُتمِّم كل منهما الأخرى.