الصفر النفيس
يقولون في تاريخ الرياضة إن الصفر كان آخر الأرقام العددية ظهورًا، ومع ذلك فهو أهمها على الإطلاق. وإذن؛ فهو أكثرها تحضرًا وأرقاها تطورًا؛ لتأخر ظهوره في عصور التاريخ من جهة، ولهذه الأهمية التي يمتاز بها من دونها من جهة أخرى، كما يُقال عن الإنسان — مثلًا — إنه أرقى ضروب الحيوان؛ لأنه جاء في مراحل التطور بعدها، ولأنه كذلك أهمها وأخطرها في آنٍ معًا.
أما أن الصفر قد كان آخر الأرقام العددية ظهورًا؛ فذلك معقول، لأن الإنسان في مراحل همجيته يبدأ بعدِّ الأشياء الموجودة فعلًا، ولا يأبه كثيرًا أو قليلًا بحساب ما هو معدوم ليس له وجود، وهو يريد أن يعرف كم بقرة له: واحدة هي أم اثنتان أم ثلاث؟ وكم زوجة يملك؟ يريد أن يعدَّ الثمار المخزونة والطرائد التي صِيدت، والأسرى الذين وقعوا له في القتال، وكل هذا يحتاج إلى أعداد، لا يكون الصفر بينها.
فلما تطور الإنسان على مر الزمان، استوقف نظره العدَم كما استوقفه الوجود، فأراد التعبير مثلًا تعبيرًا حسابيًّا عما يكون لديه من بقَر أو ثمر أو زوجات أو أسرى، حين لا يكون لديه في الواقع من هذا كله شيء، فاضطُرَّ حينئذٍ أن يخلق «الصفر»، أداة للتعبير عما يريد، فلو قال لزميله إنه يملك «صفرًا»، من البقرات أو الزوجات؛ فهِم زميله عنه ما أراد.
وأما أن الصفر قد جاء أهم الأرقام العددية جميعًا؛ فذلك أيضًا واضح إذا ما ذكرنا أنه لولاه لاستحال على الحساب أن يجد أرقامًا مقدار ما لدينا اليوم من أعداد، ولاضطُرَّ الإنسان تبعًا لذلك أن يحصر حسابه في دائرة ما عنده من أرقام. فلولا الصفر؛ لما أمكن للواحد المتواضع أن ينقلب عشرة أو عشرين أو ألفا أو عشرة آلاف أو ما شئت من هذه الأعداد، التي أعرفها أنا وأنت أرقامًا على الورق، وقد يعرفها سوانا جنيهات أو ما إليها مما تطيب به الحياة. نعم، لولا هذا الصفر «المسكين» الذي لا يساوي في سوق البيع والشراء شيئًا — لأنك لا تشترى بالصفر خبزًا ولحمًا — لولاه لاستحالت عمليات الحساب، التي لها في شئون الحياة العملية والحياة الفكرية، ما لها من خطر.
•••
تلك حقيقة أرويها لك باردةً لا تجري في عروقها دماء، ثم أضع القلم حينًا لأدير البصر في الحياة من حولي، وما تدل عليه أوضاعها من معانٍ، فإذا هذه الحقيقة التاريخية الجامدة قد انتفضت أمامي بغتة كائنًا حيًّا مُختلجًا نابضًا، يُمتِعني ويُفزِعُني … وكان المفتاح الذي ضغطت عليه بإصبعي، فانفتحت لي هذه الآفاق الجديدة الممتعة المفزعة هو أني حوَّلت الصفر من أرقام الحساب إلى دنيا البشر!
تخيلت أن هؤلاء الناس من حولي أعداد حسابية، تختلف «قيمة» باختلاف «قدرتها الشرائية»؛ فهذا الرجل واحد، وذلك اثنان، وهكذا حتى وصلت إلى الرجل الذي تكون قيمته تسعة بالقياس إلى من ذكرت. ثم أردت بعد ذلك أن أنتقل إلى من يكون عشرة بين الناس — واضعًا أرقام الحساب التي أقيس عليها نُصْبَ عيني — فإذا بالأمر يقتضيني في هذا الموضع أن أبحث عن شخص آخر تكون قيمته في الحياة صفرًا؛ ليقف إلى جوار سيده، حتى يجعله في الناس عشرة محترمة موقرة …
وها هنا انفتح أمام عيني هذا الأفق المخيف الرهيب! أيكون هذا صحيحًا في عالم البشر كما هو صحيح في أرقام الحساب؟! أصحيح في عالم البشر أن الإنسان يستحيل أن يعظم ويضخم — بعد حد معلوم — إلا على حساب غيره من «أصفار» الإنسانية الذين لا يساوون في دنيا العيش شيئًا؟ أمن أجل هذا إذن قاربت اللغة بين لفظتي العَدَم والعُدْم؛ لتدل على أن ما كُتب عليه أن يكون صفرًا — أي عدَمًا — لا بُدَّ له كذلك أن يعيش في عُدْم وإملاق، ولا عبرة بالحقيقة الواقعة الرهيبة المخيفة، وهي أن هذه الأصفار البشرية هي التي خلقت «عشرات» الرجال و«مئاتهم» و«آلافهم»؟
إي والله إنه الحق! فقد يستطيع الرجل مثلًا أن يزرع أرضه بيديه، وعندئذٍ لك أن تعده واحدًا أو تسعة حسب انفساح الرقعة التي يملك، لكنه إذا ما اتسعت رقعته فوق ما يستطيع زرعه بيديه، اضْطُرَّ أن ينتقل خطوة في علم الحساب، فيجعل نفسه في خانة العشرات، بأن يضع «إلى يمينه» صفرًا أو صفرين أو أكثر حسب ما يقتضيه اتساع ملكه. وعلى هذه الأصفار أن تظل قائمة إلى يمينه، تمده بقيمته الحقيقية، وإلا اندَكَّ بناؤه وانهار!
ثم ماذا؟
تم مضيت في التشبيه إلى آخره، فوجدت الأمر ينتهي إلى خاتمة اطمأنت لها نفسي بعد ضيق، وانبسط لها جبيني بعد عبوس؛ إذ وجدت أن إدراك قيمة الصفر — في علم الحساب — كان دليلًا على الرُّقِي في مدنية الإنسان. كان دليلًا على الرُّقِي بمعنيين: بمعنى أن هذا الإدراك قد جاء آخِرًا، وبمعنى أنه كان أداة وسعت الآفاق أمام علم الحساب.
أفيكون الأمر كذلك — يا رباه — في أصفار البشر؟ الجواب: كان ولم يكن، أعني أنه قد تم منه شيء وبقي شيء نرجو له التمام؛ فقد أخذ العالم منذ قريب يعرف للطبقات العاملة — وقد كانت أصفار البشر — قيمتها الحقيقية، أخذ العالم منذ قريب يدرك أنه على الرغم من أن هذه الأصفار البشرية محدودة في قوة شرائها؛ فإنها هي التي تهيئ الأسباب لأصحاب هذه القوة، وأنه إن أراد «الواحد» الذي ارتقى إلى «خانة العشرات» أن يحتفظ بمكانته العددية؛ فلا بُدَّ له من المحافظة كذلك على الصفر الذي يقف إلى جانبه مؤيدًا ومعضدًا، لكن ما قد تم من الأمر حتى اليوم لا يكفي؛ لأنه إن غَيَّر في إدراك القيمة العددية لهؤلاء الأصفار؛ فهو لم يُغيِّر بعد في إدراكنا لقيمتهم «النفسية» … ولا مدنية بغير هذا.
لا مدنية بغير إدراكك أن للصفر البشري قيمة شعورية، وإن أعوزته القيمة في سوق البيع والشراء، وكيف أنسى ما رأيته أمس في غرفة الطعام من الفندق الذي أقيم فيه؟
جاء ضابط طيَّار، وجلس إلى مائدة قريبة مني يتناول غداءه. فلما قدَّم له الخادم طبق الفاكهة، ازوَرَّ عنه الضابط لعطب رآه — فيما أظن — فوجَّه إلى الخادم لومًا حادًّا عنيفًا (وقد لا يكون في ذلك ما يُعاب؛ إذ ربما جاز هذا «للواحد» على «صفره»، الذي جعله عشرة موقرة محترمة) لكن الصفر البشري المسكين همَّ بالجواب، فثارت ثائرة الضابط الطيار؛ لأن خادمًا أراد الجواب، وأمره أن ينادي «الخواجة»؛ لأنه لم يتعود أن يجادل الخدم.
وددت أن يعلم القارئ عن هذا الخادم ما أعلمه؛ فوالله ما وقعت عيني عليه مرة إلا وتذكرت قصيدة «جراي» الخالدة التي وقف فيها وسط قبور الفقراء في فناء الكنيسة يسائلهم: ترى كم منكم من كان يعدل فحول الشعراء وجبابرة القادة والعلماء لو أسعفته الظروف؟!
إن المسكين «صفر» في سوق البيع والشراء، ولسوء حظه أن الضابط الطيار لم يبلغه أن الإنسانية منذ قرون طويلة قد فرَغت من الكشف عن قيمة الصفر في علم الحساب؛ فرأته أكثر الأرقام العددية حضارة، وأهمها منزلة وقيمة … وإنه لم يبقَ إلا أن تعترف الإنسانية كذلك بما للأصفار البشرية من خطر وقيمة.
وفرغت من غَدائي، وصعدت إلى غرفتي، فإذا بي ألمح الخادم مُقَرفصًا في ركن مُعتِم يجهش بالبكاء.