شمال وجنوب
كثيرًا ما أقرأ الصحيفة أو الكتاب في شيء من الغَفْوة والذهول؛ فعيناي تطالعان شيئًا، والعقل مشغول بشيء آخر، حتى إذا ما فرغت من قراءتي، وسألني سائل: ماذا قرأت في هذا الفصل أو في ذاك المقال؟ لم أجد ما أجيب به إلا على نحو مضطرِب مُهوَّش غامض.
لكني قد أصادف في غضون قراءتي الغافية الذاهلة فقرة أتنبه لها مذعورًا كأنما هي تلسع؛ فأعيد قراءتها متمهلًا متفهمًا، وأديرها في رأسي لأتخذ إزاءها موقف القابل أو الرافض أو المتشكك، ثم أمضي في القراءة … ولعله من مثل هذه الفقرات المنبهة الموقظة تتألف ثقافة الإنسان؛ لأنها هي التي تكون له رأيًا ووجهة النظر، وما أكثر ما يكون الكاتب أو الفيلسوف صنيعة وَخْزة من هذه الوخزات القوية، التي لولاها لظل العقل قابلًا، يحصل العلم تحصيلًا يجمع الحقيقة إلى جوار الحقيقة، حتى يصبح الرأس كتابًا متحركًا لا إنسانًا مفكرًا.
وهذا هو فيلسوف الألمان «كانت» يقرأ لزميله الإنجليزي «هيوم» ما ذهب إليه في إنكار العلاقة السببية بين الأشياء والحوادث، «فيستيقظ من سباته» — كما يقول — وينهض ليجيب عن قول زميله إجابة مستفيضة، فإذا هو يقيم للناس بجوابه ذاك بناءً شامخًا جبارًا.
من هذه الفقرات التي قرأتها فتنبهت من غَفْوتي، ثم أعدت قراءتها متمهلًا متفهمًا متفكرًا، هذه الفقرة الآتية التي كتبها كاتبها «ديورنت»، وهو يصف كيف أطبقت القبائل الآرية الشمالية في العصور القديمة على بلاد الهند؛ فاكتسحت أهلها نحو الجنوب اكتساحًا، ولم تلبث أن استذلتهم واستعبدتهم وملكت زمامهم … «ولم تكن غزوة الآريين لهذه القبائل المزدهرة، وانتصارهم عليها إلا حلقة من سلسلة متصلة من الغزوات، كانت تقع على فترات منتظمة بين الشمال والجنوب، فينقضُّ الشمال انقضاضًا عنيفًا على الجنوب المستقر الآمن. وقد كان ذلك مجرى من المجاري الرئيسية التي سارت فيها حوادث التاريخ؛ إذ أخذت المدنيات تعلو على سطحه وتهبط، كأنها أدوار الفيضان يعلو عصرًا بعد عصر؛ فالآريون قد هبطوا على الدرافيديين (في الهند) والآخيون والدوريون قد هبطوا على الكريتيين والإيجيين (في اليونان)، والجرمان قد هبطوا على الرومان، واللمبارديون قد هبطوا على الإيطاليين، والإنجليز قد هبطوا على العالم بأسره، وسيظل الشمال إلى الأبد يمد العالم بالحاكمين والمقاتلين، والجنوب يمده برجال الفن والدين، فالجنة إنما يرثها الجبناء.»
إذن فهذه تفرقة جديدة تقسم عباد الله قسمين: شمالًا سيظل إلى الأبد يمد العالم بالمقاتلين الذين يحكمونه، وجنوبًا سيظل إلى الأبد كذلك ملقيًا بزمامه في أيدي سادة يجيئون إليه من الشمال؛ لأنه في شُغل بالآخرة عن الدنيا، فلئن كان أهل الشمال يقاتلون بالحديد والنار ليمدوا سلطانهم على هذه الأرض وِهادها ونِجادها وسهولها ووديانها؛ فأهل الجنوب ساهمون حالمون، يريدون الجنة، والجنة — في رأي الكاتب الذي نقلنا عنه الفقرة السالفة — يرثها الجُبناء.
هذه تفرقة جديدة نصادفها، تقسم الناس إلى شمال وجنوب، بعد أن تقيأنا الصديد من تفرقة قديمة مألوفة، شطرت الناس إلى غرب وشرق، والمعنى في التفرقتين واحد، والاختلاف في الأسماء وحدها؛ إذ المراد في كلتا الحالين أن يُقال إن أوروبا وأمريكا صنف من البشر، وسائر العالم صنف آخر، ولك بعد ذلك أن تجعل الصنفين شمالًا وجنوبًا، أو غربًا وشرقًا، كيفما حَلَا وقع الألفاظ في مسمعيك.
وليس لي من العلم بالتاريخ ما أستند إليه في ردٍّ مفصل على هذا الزاعم بأن مجرى التاريخ كان دائمًا يتلخَّص في سادة ينقضون من الشمال ليحكموا في الجنوب. لكن علمي الضئيل بالتاريخ يتيح لي على ضآلته أن أعلم بأن اتجاه الغزو لم يكن دائمًا من الشمال إلى الجنوب؛ فالمصريون القدماء قد ساروا في فتوحهم من الجنوب إلى الشمال. وأخذت جيوش الرومان سَمْتها نحو الشمال حتى بلغت بريطانيا، وجاءت غزوات العرب في خط أفقي لا رأسي؛ فاتجهوا من قلب صحرائهم شرقًا وغربًا، والأتراك ساروا في الغزو نحو الغرب إلى جانب اتجاههم نحو الجنوب، وهكذا.
على أني أعترف أن نفوري من الفقرة السابقة لم يكن أساسه تكذيب الكاتب فيما ذهب إليه من تفصيلات التاريخ، بل كان نفورًا ذاتيًّا شعوريًّا، ما فَتئتُ أُبديه كلما سمعت إنسانًا يُقسِّم عباد الله أقسامًا، فمرَّة هم شرق وغرب، ومرة أخرى هم شمال وجنوب، لأننا — في أغلب الظن — لا نظفر من هذه التقسيمات إلا بصفقة المغبون. فإن كان العالم غربًا وشرقًا؛ فنحن شرق، وإن كان العالم شمالًا وجنوبًا؛ فنحن جنوب، أعني أن العالم إذا انقسم حاكمًا ومحكومًا فنحن الفريق المحكوم، هازمًا ومهزومًا؛ فنحن الفريق المهزوم، سادة وعبيدًا؛ فنحن العبيد، أهلًا لنعيم هذه الدنيا، وأهلًا للجنة؛ فنحن أصحاب الجنة … «التي يرثها الجبناء».
نحن نرفض كل تقسيم من هذا القبيل، فلا شرق هناك ولا غرب، ولا شمال وجنوب في خصائص البشر وصفاتهم؛ فكل شعب في الدنيا ككل شعب آخر من حيث الاستعداد والفطرة، وتبقى بعد ذلك ظروف اقتصادية وسياسية، قد توجد في الشرق أو الغرب، في الشمال أو الجنوب على السواء، فهي تظهر هنا مرة وهناك مرة.
هذا تقسيم خرافي أخذ به أصحابه؛ لأنه يُشْبِع في أنفسهم رغبة الاستعلاء والسيادة، فحين ذهب «رديارد كبلنج» إلى الهند حيث أقام أعوامًا، ثم عاد إلى بلاده ليقول عبارته المشهورة: «الشرق شرق والغرب غرب، ولن يلتقيا»؛ لم يكن بالطبع يقصد أن اختلاف الهند عن إنجلترا هو اختلاف النظائر الأنداد، بل أراد أن يقول إنه اختلاف الأبيض عن الأسود، والسيد عن المَسُود. وكذلك فيما أعتقد، يرمي «ديورنت» إلى شيء كهذا من قوله إن التاريخ لم يزل منذ بدايته يجري في مسلك يبدو فيه أهل الشمال سادة على أهل الجنوب، على الرغم من أن «ديورنت» — على نقيض كبلنج الاستعماري المتعصب الضيق الأفق — من أشد الناس في عالمنا المعاصر تسامحًا وأوسعهم ثقافة، وأرحبهم صدرًا لما بين شعوب الأرض من أنواع الخلاف.
هم يقولون ذلك ليشبعوا في أنفسهم رغبة الاستعلاء والسيادة، فماذا يقول أدباؤنا؟ يعترفون لهم بالتقسيم، ثم يأخذون في الدفاع عن شرقهم أو جنوبهم؛ ليظهروا ما فيه من حسنات بيِّنات. ولست أدري لماذا نلزم أنفسنا بالدفاع عن قضية خاسرة؟! لماذا نتورط في تقسيم خرافي يزعمه سوانا لغرضٍ في نفسه؟! لماذا نضرب على النغمة التي تؤكد في أنفسنا معنى التدهور والتأخر؟!
إن أعجب العجب في موقفنا؛ هو أنا نختار لأنفسنا أسوأ الفروض؛ إذ الفروض ها هنا ثلاثة: الأول أن يكون التقسيم باطلًا من أساسه لخُلوه من المعنى، ومن شاء فليدلني على الموضع من وجه الأرض، الذي يبدأ عنده التقسيم شرقًا وغربًا أو شمالًا وجنوبًا. والفرض الثاني هو أن يكون التقسيم صحيحًا، لكننا نقع من الأقسام في الغرب دون الشرق، وفي الشمال دون الجنوب، وهذا هو ما اختاره الخديوي إسماعيل حين أراد أن يجعل مصر قطعة من أوربا، وما يجب أن يختاره كل عاقل مخلص إذا أخذ بمبدأ التقسيم إطلاقًا. فلو كانت الدنيا أقسامًا؛ فلسنا أقرب إلى السنغال ويوغندة والتبت منا إلى اليونان ويوغسلافيا وإيطاليا. والفرض الثالث هو أن يكون التقسيم صحيحًا أيضًا، غير أننا نقع في الشرق دون الغرب، وفي الجنوب دون الشمال. وهذا ما قد جرى به العُرف، وما قد استسلم له أدباؤنا وثبتوه وأكدوه، كأنما هو شرَف نسعى إليه!
ليس الأمر هنا أمر ألفاظ، وإلا لهان الخطب واحتملنا البلاء. لكنه يصيب حياتنا ووجهة نظرنا وطرق إصلاحنا ونهضتنا في الصميم، إذا أردنا دستورًا سياسيًّا، أو تعليمًا، أو إصلاحًا للأسرة أو المجتمع بأي صورة من الصور؛ فأيَّ طريق نختار؟ إذا أراد الشاعر أن ينظم، والفنان أن يرسم أو ينحت التماثيل، والموسيقيُّ أن يعزف، فأيَّ طريق يختار؟
عندي أن الجواب واحد واضح، لا تردُّد فيه ولا غموضَ لمن أراد أن ينظر إلى الأمور نظرة جادة حازمة، وهو الجواب الذي أجابت به تركيا صريحة جريئة مخلصة. الجواب الواحد الواضح هو أن نندمج في الغرب اندماجًا؛ في تفكيرنا وآدابنا وفنوننا وعاداتنا ووجهة نظرنا إلى الدنيا. الجواب الواحد الواضح هو أن تكون مصر قطعة من أوروبا كما أراد لها إسماعيل، وكل من يريد لها النهوض الذي لا يكبو ولا يتعثر، ليس من العزة القومية في شيء أن نحتفظ لأنفسنا بطابع إذا كان هذا الطابع مما يَصِم صاحبه بالعجز والقعود والبلاهة. فإذا اختلفنا عن أمم أُوروبا وأمريكا؛ فلا ينبغي أن يجاوز هذا الاختلاف مقدار ما تختلف به تلك الأمم بعضها عن بعض.
إنني في ساعات حلمي، حين أحلم لبلادي باليوم الذي أشتهيه لها، وإنني أصورها لنفسي، وقد كتبنا من اليسار إلى اليمين كما يكتبون، وارتدينا من الثياب ما يرتدون، وأكلنا كما يأكلون؛ لنفكر كما يفكرون، وننظر إلى الدنيا بمثل ما ينظرون.
لسنا شرقًا إن كانت الدنيا إلى غرب وشرق، ولسنا جنوبًا إن كانت الدنيا إلى شمال وجنوب … والتقسيم كله باطل من أساسه على كل حال.