بغير مرآة
نزلت أسبوعًا في غرفة من فندق ريفي (في فرنسا) كانت بغير مرآة، فمن ظن — كما ظننت — أنه ضيِّق بنفسه صدرًا، ولم يعد يملك على حياته صبرًا؛ فليسكن — كما سكنت — أسبوعًا في غرفة بغير مرآة.
لم أكن أدري كم أحببت نفسي، حتى حُرمت — خلال ذلك الأسبوع — من رؤية نفسي. تُرى أكان اليونان في أساطيرهم جادين أم هازلين، حين رووا لنا عن «نارسيس» أنه رأى صورة وجهه لأول مرة معكوسة على صفحة الماء، فأحبها — وهو لا يدري أنها صورته — وأراد أن يضم إلى صدره هذا الحبيب، فلم يجد إلى ضمِّه من سبيل. ثم تمضي الأسطورة في قصتها، فتروى أن «نارسيس» لما عزَّ عليه الحبيب — الذي هو نفسه — اعتزل الحياة محزونًا على حافة الغدير حتى فارقته الحياة. وسمعت عرائس الجن بموته فأرادت أن تواري جسده في جدث يزوره الرائح والغادي، ولكنها لم تجِدْ جسده الذي ذوى وذوى ثم ذوى. لم تجد إلا زهرة نبتت على حافة الماء، حيث كان الحبيب يتأمل وجه الحبيب، يتأمل الحبيب البعيد وهو قريب. نبتت زهرة مكان جثمانه الذاوي، فأطلقت عرائس الجن اسمه على الزهرة وما يلحقها في نوعها من زهرات فجعلوا اسمها «نارسيس»، ومعناها النرجسة. فكلما رأيت نرجسة — أي قارئي الكريم — فارفق بها، واعلم أنك تبصر فيها رمزًا نسجَتْه يد الطبيعة؛ تخليدًا للمرء يحب نفسه حبًّا قد يودي به إلى الفناء.
كنت أتوهم، قبل الأسبوع الذي عشته بغير مرآة، أن اللحى تنبت على وجوه الرجال كارثة أُصيب بها الرجال؛ لأنهم بين اثنتين إما أن يطلقوها أو يزيلوها. فإن هم أطلقوها ذوائب تنوس على صدورهم؛ نفِرت منهم جموع الغانيات، ثم … ثم إذا أنت أطلقت للرجال لحاهم؛ فأين يكون الفرق بين الكواسر والرجال؟ وإن هم تعقبوها بالحلق كلَّ صباح؛ فيا له من عناء موصول لا يدري فداحة رزئه إلا الرجال!
ولم أدرِ إلا خلال ذلك الأسبوع أن اللحى فضل من الله ونعمة … «وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها» … هي فضل من الله ونعمة؛ لأنها ذريعة يتوسل بها الرجال لينظروا إلى وجوههم في المرآة كل صباح. فلا بأس على المرأة إن هي استهلت يومها بالنظر إلى مرآتها لتطمئن على جمالها. لكن ماذا عسى أن يصنع الرجل المسكين، وقد عُدَّ عارًا أن يطمئن على جماله؟ بماذا يبرر أمام ضميره وأمام الناس نظره إلى المرآة، بحيث لا تشوب رجولته شائبة من التخنث والتأنث؟ هي اللحية أطال الله بقاءها، هي اللحية التي تبرر لك أن تجلس إلى مرآتك كل يوم، فيسبق إلى وَهم الناس أنك حلاق بريء عن الهوى، أملَتْ عليك الصناعة مواضعات المجتمع وضرورة العيش بين الناس؛ لأن الناس — لسبب لا أدريه — يريدون للرجال أن يبدوا بأوجه ملساء. أما الحق الذي لا مِراء فيه ولا خداع، فهو أنك تجلس أمام مرآتك كل يوم، حبًّا لنفسك وإعجابًا بها. ومن ظن أني أفترى على الرجال كذبًا؛ فليختلس نظرة إلى رجل جالس إلى مرآته ليحلق لحيته، فسيراه يلوي عنقه يَمنةً ويَسرةً في عجب وإعجاب، ويربت بيده على خده في رِفق وحنان، بل فيما يشبه العشق والهيام.
والناس في هذا العشق يختلفون درجات؛ فمنهم من يشبه «روميو»، ومنهم من يصور «المجنون». ولست أدري كم أُغرم قارئي هيامًا بنفسه، فأحب أن أسأله: كم صورة لك علقتها على جدران دارك؟ وكم منها قد وضعته على المناضد ليطلَّ على الزائرين في ابتسامة الظرفاء؟ وفي أي إطارات مزخرفة، مزركشة قد وُضعت تلك الصور؟ أحب أن أسأله: كم تأخذك هزة الفرح الخفي الخفيف حين ترى نفسك — عند الطرْزي مثلًا — معكوسًا في كثير من المرايا في وقت واحد، فتتلفت إلى نفسك هنا وهنا وهناك وعلى شفتيك ابتسام. حتى إذا ما أقبل الطرزي أو صبيه نظرت إلى الأمام في تجهُّم خفيف؛ لتوهم القادم أنك رجل جاد مع نفسك صارم، تضِن عليها بكل ما ينم عن حب وإعجاب. هذه فطرة في نفسي لا أكتمها، ولا أظن أنك كاتم. ولقد ظللت حينًا طويلًا من الدهر، أغالب هذه الفكرة من نفسي، فلا أجلس أبدًا أمام آلة التصوير، حتى اضْطَرَّني القانون أن أصور نفسي لتتم الشروط لجواز السفر. لكني ما كدت أبصر نفسي مصوَّرة على الورق؛ حتى أخذت أطيل النظر إليها. أضع الصورة في غلافها ثم أخرجها لأعيد إليها النظر، ثم لم أملك سوى أن أعود إلى المصور ليرسمني مكبرًا اثنتي عشرة مرة دفعة واحدة!
إنه لتعجبني من أجدادنا الأولين صراحة لم تعرف خداعًا ولا رياء. فإذا ما أحسوا في فطرتهم شهوة أشبعوها، وأطلقوا لها السراح. ففِيمَ كتمان ما فطرنا الله عليه؟ كان هؤلاء الأجداد الأولون يرون صورهم معكوسة على الماء أو غيره من صقيل الأجسام، فيحبونها كما يحبون أنفسهم بل يحبونها لأنهم يحبون أنفسهم، ثم لا يكتمون هذا الحب. فيغارون على تلك الصورة ويشفقون عليها من اعتداء الأعداء، فيحيطونها بالطلاسم والرُّقَى؛ حتى لا ينال منها سحر الساحرين، فلا فرق في عالم السحر بين المرء وصورته. وإنْ أعزَّ المرء صورته فقد أعزَّ نفسه، والحق أن أجدادنا هؤلاء كانوا يحارون لهذا الازدواج العجيب لنفوسهم، فما الجسم وما صورته؟ أين الحقيقة منهما وأين الخيال؟ أيكون هذا الازدواج من قبيل ازدواج الأرواح وأشباحها؟ إذن فليوضع في قبر الميت صورة له أو صور، وتمثال له أو تماثيل، حتى لا يُحرَم في غربته من هذا الحبيب ورفقته.
ونحن نحب نفوسنا إلى هذا الحد، بل إلى أبعد من هذا الحد، ثم نُخْفِي ونستحيي!
الصديق مرآة صديقه، كما يقول شيكسبير. قد كنت أفهم هذا القول فهمًا صبيانيًّا تافهًا قبل ذلك الأسبوع الذي عشته بغير مرآة. كنت في سذاجتي أظن أن شاعر الدنيا بأسرها إنما أراد بقوله هذا أن يدلني هذا الصديق أو ذاك عن رباط الرقبة؛ أهو في موضعه أم ينحرف قليلًا إلى يمين أو يسار؟ وبذلك يكون الصديق مرآتي إذا عزَّت المرآة! أو كنت إذا أوغَلتُ في الفكر والنظر أظن أن الشاعر إنما أراد بقوله إن الصديق يدل على نوع صديقه، كما تدل الصورة على شكل صاحبها، على نحو ما يقال عندنا: قل لي مَن تعاشر أقُل لك مَن أنت. لكني حين افتقدت المرآة في ذلك الأسبوع فلم أجدها، تنبه في ذهني معنًى آخر؛ أني أريد الصديق كما أريد صورتي، أريدهما معًا لأثبت وجودي! لست بالموجود الكامل حتى أراني معكوسًا في جسم آخر، ولست بالموجود الكامل حتى أجد الصديق الذي أتحدث إليه فيجيب، فيكون في جوابه انعكاسٌ لروحي كما يكون في الصورة انعكاس لوجهي على صفحة المرآة. إنني أنظر إلى السماء والأرض وما بينهما فلا أجد في كل ذلك شيئًا واحدًا يدل على وجود العين التي ترى! … لولا أني أراها معكوسة في المرآة! … كذلك أعيش وأحيا، أحس وأفكر، وأنعم وأتألم، دون أن أجد شيئًا واحدًا يدلني على وجود هذا الذي يحس ويفكر وينعم ويتألم … لولا أني أراه — أي أرى نفسي — معكوسًا في إنسان يجاوبني حين أوجه إليه الحديث! يا إلهي، كيف تكون الحياة بغير سمر وحديث؟! أبعد هذا ألوم من يمتنع عليه المسامر فيحدث نفسه؟! يا ليت شعري هل خُلقت حواء إلى جنب آدم ليتم بوجود اثنين كلام، فتتم الحياة؟
يتحدث الصديق إلى صديقه ليسمع بأذنيه برهان وجوده، وينظر المرء إلى صورته في المرآة ليرى بعينيه أنه هناك كائن بين الكائنات.
نحن إلى هذا الحد البعيد نحب أنفسنا، نحب أن نراها مصوَّرة بالكلام المنطوق والرسم المرقوم … ثم نُخفي ونستحي!
والأمر في الأمة كلها كالأمر في الفرد الواحد. تريد الأمة إن كانت تجري في عروقها دماء الحياة، تريد أن ترى صورتها مرقومة وأن تسمع صوتها منطوقًا، له في نفوس الآخرين رجع وترديد. وعرف الناس ذلك الطبع في جِبلَّتهم، فراحوا لأنفسهم بالريشة يصورون وبالقلم يكتبون، حتى إذا ما تقاطر الناس إلى جدران المتاحف، وجدوا الصور، صور نفوسهم، أخرجتها لهم ريشة المصور، أو قلبوا صفحات الكتب، وجدوا الصور، صور نفوسهم، دبَّجَتْها لهم يراعة الكاتب. والأمة التي ترى صورتها معكوسة على جدران المتاحف، مبسوطة على صفحات الكتب، لا يساورها القلق على وجودها؛ فها هي ذي نفسها مرسومة مرقومة على مرأًى منها ومسمع.
ونحن كسائر الأمم، إلى هذا الحد البعيد نحب أنفسنا، ونحب أن نراها بالعين ونسمعها بالأذن، لكننا نُخفي ونستحيي!
وإذا لم يكن بنا من إخفاء أو استحياء؛ فقل لي بربك: أين مرآتنا التي نرى فيها أنفسنا معكوسة مصورة، صامتة أو ناطقة، وإن بيننا لأدباء ومصورين، وإنهم على فنهم لقادرون؟
رفعت القلم الآن، وأمسكت عن الكتابة لحظة، ونظرت خلال نافذة ضيقة على يميني إلى الأفق البعيد، فصورت لنفسي أدباءنا في قصر منيف، يقلبون كتبًا ويفحصون أوراقًا لعلهم واجدون ما يصلح غدًا أن يكون مقالة! … وأمام القصر ميدان واسع فسيح، زاخر بجموع الشعب الحاشدة. وقد تحلق أفراده في الزحمة جماعات جماعات؛ فلاح القرية والشيخ والعمدة، مأمور المركز والحارس وضابط البوليس، طالب المدرسة والأستاذ والناظر، كاتب الديوان والحاسب والرئيس، الكوَّاء والحذَّاء والساعي، والكنَّاس والبوَّاب وبائعة اللبن، الحبيبان اللذان الْتَقيا بين أعواد الذرة في الريف، والحبيبان اللذان الْتَقيا في ظُلمة السينما في المدن؛ لأن الشعب لا يعترف بالحب ولا يعرفه. وإلى جانب هؤلاء وأولئك جماعات من طير وقطط وكلاب، وبعوض وذباب، وثِيَرة وأبقار.
ازدحم الميدان الواسع الفسيح بهذه الجموع الحاشدة الزاخرة، محتجة صاخبة، وليس احتجاجها هذه المرة على صعوبة المناهج في المدارس، ولا على كثرة ساعات العمل في مراكز البوليس، ولا على درجاتهم المالية التي اضْطَرَبت وأصبحت في حاجة إلى التنسيق والتنميق. لكنها احتجت تريد هذه المرة ما هو أخطر من ذلك، تريد أن تطمئن على وجودها، تريد لأنفسها الرسم والتصوير.
إننا لنحس في أنفسنا حبنا لأنفسنا، وإن أدباءنا على فنِّهم لقادرون، لكننا نخفي ونستحيي!