طوائف تتنافس
في مصر — كما في غيرها — طوائف من الموظفين، فيها مدرسون ومهندسون، وفيها ضباط للأمن وضباط للقتال، وفيها أطباء وقضاة، وفيها غير هؤلاء وأولئك من سائر عباد الله.
لكن الذي في مصر — وليس في غيرها — هو هذا التنافس العجيب القائم بين هذه الطوائف. ولست بحمد الله من «فقراء» الهنود بحيث أصيح بالناس أن كُفُّوا عما أنتم فيه من قتال وتنافس، وسالموا واستسلموا؛ لأني أعلم أن الحياة في صميمها ليست إلا هذا التنافس وذاك القتال، لكن الذي يستوقف نظري ويستثير عجبي هو أن هذا التنافس القائم بين طوائف الموظفين في مصر، قد أقام نفسه على أساس من علم الفلك القديم كما عرفه بطليموس، وكان حقه أن يتماشى مع العلم في تطوره، فيقيم دعائمه على أساس من علم الفلك في صورته الراهنة التي رسمها له كوبرنيق، خشية أن يظن الناس بهؤلاء الموظفين جهالة وإنهم لعالمون، ولو غيروا من وجهة نظرهم وبدلوا من أساسهم؛ لرضيت عنهم أنفسهم، ورضي العلم، ورضي الوطن جميعًا.
وقد تقول: وما شأن هذه الدرجات يطلبها المهندسون، فيطلبها في أثرهم المدرسون؟ وما شأن هذه «الأقدار» المالية يظفر بها القضاة، فيلاحقهم بها المدرسون والمهندسون معًا؟ وما شأن ضباط القتال يسبقون ضباط الأمن فيما تزدان به أ كتافهم من أنجم وتيجان، فيثور ضباط الأمن لما ظفر به من دونهم ضباط القتال؟ ما شأن هذا كله بعلم الفلك كما تصوره بطليموس أو كوبرنيق؟ هذه الطوائف المتنافسة جميعًا تمشي ها هنا على الأرض «في غير مرح». وأما هذان العالمان فكانا يسبحان في السماء صَلَفًا بين الكواكب والأفلاك، فأين الشبَه بينهما وبين هؤلاء؟
قد تقول ذلك؛ فهاك البيان: كان ما كان في قديم العصر والأوان، عالم فلكي يُدعى بطليموس، يقيم في مدينة الإسكندرية. ولست والله أدري لماذا اختار له الله مدينة مصرية؛ ليهبط فيها عليه الوحي بفكرته الفلكية؟! فكان من رأي هذا العالم أن أرضنا هذه القليلة الضئيلة النحيلة هي من دنيا الله الواسعة الفضاء بمنزلة القطب من الرَّحى، تدور حولها سائر الشموس والنجوم! فالشمس والقمر ومريخ وعطارد والزهرة والمشتري وما شاء الله من أجرام وأجسام تدور حولها وهي في مكانها لا تتحول؛ لأنها أعظم عند الله قدرًا من أن تدور مع الدائرين. ولو قد نطقت هذه الأرض بلسان حالها كما تصورها بطليموس؛ لقالت إني رأيت ملايين الكواكب والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين … وكان لا بأس على بطليموس من هذا النظر؛ لأن الدنيا كما رأتها عيناه كانت أضيق من الدنيا كما يعرفها الواقع.
ثم اتسع في أعين الناس الأفق؛ فرأوا عالمًا فسيح الأرجاء واسع الجنبات، وأدركوا أن الأرض يستحيل أن تكون قطبًا لهذا كله، وإلا لاقتضى الأمر لبعض الأجرام السماوية البعيدة عنا أن تقطع الفضاء بسرعة مستحيلة؛ حتى يتسنى لها أن تدور حول الأرض المكرمة في كل يوم مرة. وها هنا تدخَّل في الأمر فلكي آخر هو كوبرنيق، وكان في مدينة إيطالية، لم يشأِ له الله أن يكون مقامه على أرض مصرية، فرأى الدنيا بمنظار آخر، جعل يدير منظاره في أرجاء السماء ليرقب النجوم في مسالكها ويساير الكواكب في مساربها، ثم قال في بساطة صاحب القلب الطيب والنية السليمة: كلا! بل إن هذه الأرض كوكب كسائر الكواكب، وهي تدور حول الشمس كما أن غيرها يدور، وبهذا القول البسيط تغير وجه العلم كله!
ولعلك تدرك الآن ما أردته حين زعمت لك أن التنافس القائم بين طوائف الموظفين في مصر قد أقام نفسه على أساس من علم الفلك كما رآه بطليموس. وكان حقه أن يتابع كوبرنيق لتستقيم الأمور؛ فالمدرسون والمهندسون وضباط الأمن وضباط القتال والأطباء والقضاة وغير هؤلاء وأولئك من سائر عباد الله؛ تريد كل طائفة منها أن تكون مركزًا فيدور حوله العالم بأسره؛ لأنها لا تفكر إلا في نفسها، ولا ترى الدنيا إلا بمنظارها! هذه هي الدنيا تجري أنهارها ذهبًا نُضَارًا؛ فلماذا لا يصيبني منها إلا جنيهات قليلة؟!
ولو قد استعارت هذه الطوائف المتنافسة منظار كوبرنيق؛ إذن لرأت أن هناك شمسًا كبرى — هي مصر بأسرها — ولرأت كل طائفة منها أنها كوكب واحد من كواكب، وأن مصلحتها واحدة من مصالح؛ فليست إذن هي كل شيء، ويستحيل أن تتدفق أنهار الذهب في جيوبها وحدها!
لكن لا، كل طائفة من هؤلاء تحصر نظرها في نفسها، وتأبى إلا أن تكون أسبق من سِواها وأفضل، فإذا وجد السابق أن المسافة التي تفصله عن مسبوقه قد نقصت، غَذَّ في المسير وأسرع في الخطى يستعيد مكانته، والمسبوق يُغضبه أن يكون فوقه سابق على الإطلاق، ودعْ عنك أن يرضى بمسافة تقل أو تزيد.
وكان أولو الأمر إذا ما رأوا المسبوق غاضبًا دفعوه إلى الأمام قليلًا؛ لعله يدنو من سابقه، حتى إذا ما غضب السابق لهذه الإهانة التي لحقت به دفعوه إلى الأمام قليلًا كذلك؛ ليسترد مكانته بالقياس إلى سواه.
وإن ذلك ليذكرني بقصة من حياتي الماضية، كنت مدرسًا في بلد ريفي حيث لا فنادق ولا مطاعم، فاستخدمت طاهية من أهل البلد تطبخ لي الطعام، وكنت أجد في طهيها فكاهة أكثر مما أجد غذاءً، وطلبت منها يومًا أن تعد لغدائي شيئًا من مَحْشو الكرنب، فلما عُدت ساعة الغداء وجدت الكرنب المَحْشو الذي رجوت، لكني وجدت منه «قزانًا» كبيرًا يكفي مَدْرسة بأسرها لا مدرسًا واحدًا.
– ما هذا كله يا فاطمة؟
– كرنب مَحْشو كما أمرت يا سيدي.
– لكن لمن هذا كله؟
– وماذا أصنع يا سيدي؟ اشتريت كرنبة واحدة ورطلًا واحدًا من اللحم، وأعددت مادة الحشو وأخذت أحشو، فإذا بمادة الحشو تنتهي والكرنبة بعضها باقٍ، فاشتريت رطلًا آخر من اللحم وأعددت مادة جديدة للحشو وأخذت أحشو، فإذا بالكرنبة تنتهي ومادة الحشو بعضها باقٍ، فاشتريت كرنبة ثانية وأخذت أحشو، فإذا مادة الحشو تنتهي والكرنبة بعضها باقٍ! … وهكذا دواليك يا سيدي، ولا تسَلْ كم أنفقت من وقت، وكم أنفقت من جهد حتى فرغ الكرنب والحشو في آنٍ معًا!
– لقد ذكرت ما أنفقته من وقت ومن جهد، ولم تذكري ما أنفقته من مال.
– إي والله، يا سيدي؛ لقد كلفتك هذه الطبخة قدرًا كبيرًا.
– لكن يا فاطمة هذا غير معقول، فلو حسبتِ …
– أنا، يا سيدي، كما تعلم لا أعرف ما تعرفه أنت من العَد والحساب، فلم أتعلم في المدارس كما تعلمت؛ فهل لك أن تدلني على طريق صواب كنت أسلكه؟
– لا تعقيد في الأمر يا فاطمة، لما فرغت منك الدفعة الأولى من مادة الحشو؛ لماذا لم تقذفي ببقية الكرنبة في صفيحة القمامة؟
– صفيحة القيامة يا سيدي؟! أرمي الكرنب في القمامة؟! وماذا كنت تقول إذا ما عُدت ونظرت، فرأيت كرنبك الذي اشتريته بمالك مُلقًى في القمامة؟! كنت بالطبع تملأ لنا الدنيا صياحًا، وتحتج قائلًا: كيف تقذفين بالكرنب في القمامة؟! ولماذا لا تشترين له رطلًا من اللحم؟!
فأدركت أن الحوار لن ينتهي بنا إلى نتيجة، وهززت رأسي متعجبًا باسمًا، حتى لقد ظنت أنها أفحمتني بالحجة القوية وراحت تقول في زهوٍ: ليست العبرة بالمدارس وحدها يا سيدي … ما زلنا مثلكم ناسًا نفهم، ونحسب.
ذكرت قصة فاطمة ومَحشو الكرنب حين فكرت في هذه الطوائف التي يلاحق بعضها بعضًا كأنها في سِباق. فالحكومات المتعاقبة هي فاطمة في هذه القصة، لا تجد في نفسها شجاعة تتذرع بها فتُلقي بشيء من الكرنب في القمامة لتقف من الأمر عند حدٍّ معقول، بل لبثت تعالج الأمر بمحايلة هذه الطائفة مرة وهذه الطائفة مرة، راجيةً أن تحل العقدة نفسها، حين تصل الطوائف في حلبة السياق حدًّا يرضاه الجميع، ولن يكون ذلك إلا إذا ضخمت «الطبخة» وناءت ميزانية الدولة بتكاليفها.