عُريان يحلم
لو قيل لي: ما الكتاب الواحد الذي تتمنى أن يذيع في الناس ويشيع، وأن يستوعبه الناس درسًا وتمحيصًا؛ لعله يصور لهم أنفسهم تصويرًا يثير فيهم الضحك والسخرية، فيستقيم لهم بذلك من أنفسهم عوج، ويرتدوا إلى نهج قويم وطريق مستقيم؟ لأجبت في غير تردُّد: هو قصة دون كيشوت!
ولا بُدَّ أن يكون القارئ قد ألمَّ بطرَف من قصة هذا الحالم الواهم، الذي قرأ كثيرًا عن الفروسية والفرسان في سالف الأزمان فأعجبه ما قرأ، فتوهَّم نفسه فارسًا من هؤلاء، وامتطى صهوة جواد له نحيل هزيل، وأمسك بسيف صدئ متآكل مَثْلوم، وراح ينسج على غِرار الفرسان الأقدمين … ولكنه نَسْج لم يجاوز به دائرة أوهامه وأحلامه، فيطعن الهواء بسيفه، وهو يتوهم أنه يطعن السيف في أحشاء الأعداء، ثم يغمد السيف في قِرابه، وهو يتوهم أنه قد انتصر!
ولا بُدَّ كذلك أن يكون القارئ قد لحظ أن كثيرا جدًّا من الناس يشبهون «دون كيشوت» إلى حدٍّ بعيد أو إلى حدٍّ محدود؛ فتراهم ينسجون حول أنفسهم نسيجًا من أوهامهم، يعيشون فيه ثم يخيلون لأنفسهم أنهم إنما يحيون ويتحركون في عالم الواقع … ويزداد هذا الانحراف في الإنسان كلما كان أميل إلى الطفولة في نفسه وعقله؛ إذ يتميز الطفل بشدة هذا النوع من الخيال الذي يختلط عنده بالواقع، فيركب عصاه موقنًا أنه على فرس، أو يجلس على وِسادة حاسبًا أنه في مركب أو قطار … فانظر — مثلًا — إلى هذا الرجل الذي أوهم نفسه بأنه عينٌ من أعيان القوم وذاتٌ من ذواتهم، ثم أبى على نفسه بعد ذلك إلا أن يكون في معاملته للناس شاذًّا نابيًا؛ لأنه يخشى لو اعتدلت أساليبه واستقامت، ألا يعده الناس ذاتًا ولا عينًا، فتصطدم أحلامه بالحقائق ويهوي إلى الأرض حُطامًا.
لكن الحديث يطول بنا لو جعلنا نتعقَّب الناس مرأةً مرأةً ورجلًا رجلًا، لنحلل ما أحاطوا أنفسهم به من أوهام استراحوا إليها وعاشوا في أكنافها سُعداء، فما ضرَّنا أن يسعد الناس بالأوهام والأحلام؟!
إنما الخطر كل الخطر، والضرر أبلغ الضرَر، أن تُصاب الأمة بهذه النزعة «الكيشوتية» فتعيش في أوهامها وتستغرق في أحلامها، والدنيا من حولها ساهرة واعية، لا تحرك قدمًا إلا بحساب ولا تفعل فعلًا إلا مهتدية بالأرقام … إن أخشى ما أخشاه أن تفكر معي، فينتهي بنا التفكير إلى أننا أمة من هذا الطراز الحالم!
نعم، إن هذه الشطحات «الكيشوتية» مَلهاة مُسَلية حين تُحكى عن الأفراد، لكنها مأساة أي مأساة حين تُروى عن الأمم؛ فقد يُحكى لك — فتضحك — أن رجلًا فقيرًا يلبس الهلاهيل، قد أراد له الله يومًا أن يصنع صنيعًا حسنًا، فجزاه السلطان بلقب عظيم من ألقاب الإمارة، لكن الرجل ظل جائعًا عُريانًا رغم لقبه الذي خُلع عليه، غير أن صاحبنا كان موفور النصيب من أوهام «دون كيشوت»؛ فاستمد من أوهامه تلك غذاءً وكساءً، حتى كان شتاء قارس البرد، فشكت إليه زوجته من لذعة البرد وعضَّة الجوع، فانتهرها قائلًا: إذا كنا ونحن الأمراء نشكو بردًا وجوعًا؛ فماذا يقول الفقراء؟!
قد يُحكى لك ذلك عن الفرد الواحد فتضحك، أما أن يُروى لك أمثال ذلك عن الدولة؛ فمأساة تُشيع في النفس أسفًا وحسرة … ولأضرب لك مثلًا واحدًا من أمثلة كثيرة اختزنتها في رأسي:
لإنجلترا في مصر معهد أو معاهد، أنشأتها لتكون مراكز لنشر الثقافة الإنجليزية، واللغة الإنجليزية، فاهتزت نفوسنا هزة «كيشوتية» وقلنا: ولماذا لا نقف من إنجلترا في هذا موقف النِّد للند، لماذا لا ننشئ معهدًا في لندن ينشر لنا الثقافة المصرية في بلاد الإنجليز، كهذا المعهد الذي أنشأته إنجلترا في القاهرة لينشر لها الثقافة الإنجليزية؟ … وما هو إلا أن أرسل الموظفون كبارهم وصغارهم إلى لندن، وفُرشت هناك الحجرات الفاخرة بأفخم الأثاث، وبدأ المعهد ينشر الثقافة المصرية.
وشاء لي حسن الحظ — أو سوءُه — أن أدخل ذات يوم غرفة الدرس في المعهد المصري بلندن، وهي الغرفة التي أُعدت لتشعَّ منها أضواء الثقافة المصرية في بلاد الإنجليز، فرأيت هنالك صفًّا من مقاعد أمامه سبورة، كُتب عليها بالحروف المتقطعة: ض ر ب، ق ت ل … إلخ، واستفسرت كم يكلف الدولة نشر الثقافة المصرية على هذا النحو في بلاد الإنجليز؟ فقيل: كذا ألفًا من الجنيهات لست أذكر عشرة أو عشرين.
يا سبحان الله العلى العظيم! أنا الذي أجد حولي من أبناء بلدي ملايين تبيت على الطوى، بالمعنى الحرفي لهذه الكلمات، وتلبس الهلاهيل بالمعنى الحرفي لهذه الكلمات، وتجهل القراءة والكتابة، تُسوِّل لي نفسي الواهمة الحالمة أن أبعثر مالي يمينًا ويسارًا؛ لأزيل الأمية في بلاد الإنجليز! … ثم يمضي بعد ذلك عامان، فماذا تظنُّنا قد فعلنا في ضوء خبرة العامين؟ أتظننا قد قضينا على هذا الهذَر، وحولنا شآبيب المال إلى أبناء هذا البلد نكسوهم ونَغْذُوهم ونعلمهم؟ لا والله؛ فنحن أمة تدين بمبدأ هو أن «الجرن الكبير خير من شماتة الأعداء» ماذا يقول عنا العاذلون لو أنا أقفلنا معهدًا أنشأناه لنشر الثقافة المصرية؟ ألا يقولون عندئذٍ إننا أمة بغير ثقافة تنشرها؟ فلننشئ — إذن — معهدًا مصريًّا آخر في واشنطن ينشر الثقافة المصرية بين الأمريكان!
ثم ماذا؟ ثم هذه الثقافة المصرية التي زخرت بها رءوسنا حتى فاضت، وامتلأت بها صدورنا حتى طفحت، لا بُدَّ من نشرها كذلك في بلاد الشرق كلها، فابعثوا بالمدرسين أفواجًا أفواجًا، وادفعوا لهم من أموال الدولة ما يزيد على خمسين ألفًا من الجنيهات كل عام — فيما أعلم — لكي يُقال إن مصر منارة ترسل الضوء هنا وهناك … وأنت كافر بنعمة الله لو اضطربت نفسك بالقلَق إزاء هذا كله؛ فقلت لأولي الأمر إن أبناءنا في مدارسنا قد يظلون في فصولهم بغير مدرس أشهرًا ثلاثة أو أربعة في أول العام، فحرام أن تضيعوا أبناءنا لتنشئوا أبناء الآخرين.
لكن هل كان يمكن إنسان أن يقنع «دون كيشوت» وهو سابح في أوهامه وأحلامه، أنه لا يطعن السيف في أحشاء الأعداء، بل طعنه في الهواء؟!
اللهم زدنا وهمًا على وهم، لنستمد من عُرينا كساءً، ومن جوعنا غذاءً، ومن جهلنا علمًا.