شبكة الصياد
صبَّت صديقتي الشاي في قدحي، فتناولته ساهمًا ساكنًا، وأخذت أَتَحَسَّاه على مهل، وكأنما بدا على وجهي ساعتئذٍ شرود الفكر، فسألتني، قالت: ماذا دهاك؟
قلت: إنه اليوم الأول من شهر فبراير. إنه يوم مولدي.
قالت: إذن؛ فهو يوم تفرح فيه، فما لي أراك قد بترتَ حبلَ الحديث وأخذَك الوُجوم؟
قلت: لا، ليس ما بي مِن وُجوم، إنما هي خلقة طبعها الله على وجهي، فأبدو واجمًا ولست بواجمٍ.
قالت: لكنك شطحتَ بفكرك في السحاب.
قلت: بل سرحت به دبيبًا على هذه الأرض، كررت به راجعًا عشرين عامًا، إلى العام الذي أتممت فيه دراستي العالية، واستعرضت في مثل اللمح بالبصر كل ما كان، وكنت قد بدأت أحاسب نفسي.
قالت: أعد لي ما دار في رأسك، لأبدأ معك حسابك لنفسك.
قلت: كان البحر مُضطربًا، وكانت السماء مكفهرَّة دَكناء، حين خرجت بشبكتي أقصد الصيد، وكان معي فريق من الزملاء، حملوا شباكهم على أكتافهم؛ إذ كانوا كذلك إلى الصيد يقصدون.
خرج الصيادون جماعة واحدة، يحملون شباكهم، كلٌّ قد حبك الشبكة حبكًا يتفق مع وجهة نظره فيما يراه أنفع في الحياة وأجدى، وكلٌّ لا يكاد يدري شيئًا عن شبكة زميله. فكان الصيادون في جملتهم يعتقدون أن الشباك قد تقاربت نسجًا وحبكًا. فإن اختلفت عيونها سعة وضيقًا، وإن تباينت خيوطها شدة وضعفًا؛ فاختلافها في رأيهم يسير على كل حال، لن يؤدي إلى تفاوت كبير فيما يصيدون؛ لذلك لم يكن بينهم يومئذ حسد ولا حقد، ولم تدب في نفوسهم يومئذٍ شحناء أو بغضاء، حتى لقد ذهب بهم الوهم الجميل إلى الإيمان بأنهم سيظلون أحبابًا أصحابًا؛ فقد أخرجتهم إلى الصيد قرية واحدة، وأسكنتهم تلك القرية منازل متجاورة متقاربة.
أقلعت الزوارق بجماعة الصيادين من مكان واحد عند الشاطئ، ثم أخذ الموج المضطَرب الهائج يباعد بينها. فهذا زورق يمضي قدمًا في خط مستقيم، وذلك زورق ينحرف ذات اليسار، وثالث يتجه إلى اليمين، ورابع لم يكَدْ يسبح قليلًا حتى ارتطم بالصخر ووقف حيث كان.
وها أنا ذا، يا صديقتي، أصور لنفسي جماعتنا، وقد عادت إلى الشاطئ بعد رحلة الصيد.
قالت: فماذا رأيت؟
قلت: هالتني الفوارق بين صيد وصيد.
هذا صياد قد أخرج من شبكته سمكة واحدة ضخمة جبَّارة، لم يكد يراها الزملاء حتى خجلوا من صيدهم الهزيل.
وسألناه جميعًا بصوت المشْدُوه المبهوت: كيف كان ذلك؟ فقال: حبكت شبكتي منذ البداية على هذا الأساس، فجعلت عيونها قليلة لكنها وسيعة، وكنت أعلم منذ البداية أني مغامر مخاطر مقامر. فإما عدت بغير صيد على الإطلاق، أو عدت بمثل هذا الصيد السمين؛ ذلك أن معظم السمك في البحر — كما تعلمون — متوسط الأحجام أو صغيرها، وشبكتي هذه عيونها أوسع من أن تمسك بمتوسط أو صغير.
فقال له زميل، وهو يبلع ريقه الذي جفَّ في حلقه غيرة وحيرة: لقد ركنت إلى الحظ فواتاك! فأجابه الصياد الناجح ضاحكًا مزهوًّا بنجاحه: ليس الأمر كله حظًّا مواتيًا. يا صاحبي لا يحملنَّك الفشل على غمط الناس حقوقهم، أني حين حبَكت شبكتي على نحو ما حبكتها، كنت أصدر عن روية وتفكير وإرادة وتدبير. ثم جاء أوان الصيد فتخيرت الموضع الذي أُلقي فيه شبكتي. وليس التخيُّر الصحيح من قبيل الحظ المواتي والمصادفة العمياء … نعم قد كان من الجائز أن أحبك عيون الشبكة على نحو ما فعلت، وأن ألقي بها حيث ألقيت، فلا تصادفني السمكة الكبيرة التي رجوت. لكن الحياة السليمة الصحيحة القوية هي في التعرض لمثل هذا الخطر، فهو تعرض للخطر قائم على حسن الروية لا على الطيش والجنون، ثم هو تعرُّض للخطر يحدوه الأمل.
وكان طبيعيًّا أن تلتفت أنظارنا إلى شبكة الزميل المعترض، فإذا هي مليئة بالسمك الصغير. إن صيده كثير غزير، ومع ذلك فقد أفرغ شبكته خجلًا، ونظرنا إليه في ابتسامة الساخرين! فاعجب لكثرة تبعث على السخرية وتدعو إلى الخجل! لقد رسم هذا الصياد خُطة صيده على أساس الحذر الشديد والحرص الشديد؛ فأعدَّ لنفسه شبكة ضيقة العيون لا تفلت منها سمكة شاردة أو واردة من صغار السمك، لكن كبار الأسماك وأوساطها ليست من نصيبه. إن السمك الصغير موجود في كل موضع من البحر، فأينما ألقيت بالشبكة الضيقة العيون جاءتك منه بعدد كبير، وأهم ما كان يهتم له هذا الزميل الصياد، حين بدأنا رحلة الصيد؛ ألا يعود من الرحلة صفر اليدين. إنه أراد حصادًا مؤكدًا، فكان لا بُدَّ له أن يستغني عن أوساط السمك وكبارها.
لا، فإني أذكر الآن صديقًا ثالثًا، كان أكثر من ذلك عناية وأشد حرصًا؛ فقد استوقف صيده أنظارنا بأنه خليط من متوسط وصغير. وسأله سائل كيف كان ذلك؟ فأجابه بأنه قد تحوط للأمر فحمل معه شبكتين، ووقف في زورقه ممسكًا إحداهما بيُمْناه، والأخرى بيُسْراه، وعاد بما عاد به من صيد يستوقف الأنظار. لكنه مع ذلك يدعو إلى الإشفاق على صاحبه؛ لأن المسكين قد أجهد نفسه إجهادًا أضناه وأشقاه، حتى ليكاد ينظر إلى صيده نظرة المتحسر الذي يحس أنه قد صاد الصيد لسواه.
قالت صديقتي: إنك لم تذكر شيئًا عن صيدك أنت، فما لي الآن ولصيد زملائك؟ إن اليوم يوم ميلادك، وقد حلا لك أن تشطح عني بفكرك إلى ماضيك تستعيده؛ لتنصب لنفسك ميزان الحساب.
قلت: كانت عيون شبكتي أقرب إلى الضِّيق منها إلى التوسط أو السعة؛ فأمسكت بسمكات قلائل، كلها أقرب إلى الصغر منها إلى التوسط فضلًا عن الكِبر والضخامة.
قالت: أفهم أن تجيء أحجام السمك في صيدك أقرب إلى الضآلة منها إلى التوسط أو الكِبر، لكني لا أفهم أن تكون سمكاتك قلائل، فما شأن الشبكة وعيونها بكثرة السمك أو قِلَّته؟
قلت: ها هنا يا صديقتي يقع الخطأ الأكبر في رحلة صيدي، فقد أخطأت الحساب وألقيت الشبكة في غير موضع الغزارة والدسم. فجعلت أطرحها وأجذبها، ثم أطرحها وأجذبها، مرة بعد مرة، ولا أظفر في كل مرة بأكثر من سمكة أو سمكتين.
قالت: ولماذا لم تتحول عن ذلك الموضع إلى سواه؟
قلت: إنه يا صديقتي أمر عجب، أن يدرك الإنسان مدى إخفاقه في موضعه، ثم يستحيل عليه أن يتحول عنه إلى غيره، كأنما قد أصابه الشلل فلا يقوى على الحركة! وأعجب من ذلك أني إلى اليوم لا أقصد إلا إلى ذلك المورد من البحر كلما أردت صيده، أطرح الشبكة نفسها في المكان نفسه وأعود مثل ما عدت به من الصيد في كل مرة!
لكني فيما مضى كنت ألقي التبعة على الحظ الأنكد، كأنما هذا الحظ رجل من لحم ودم يضطرب معنا في سبل الحياة، فيعين هذا ويعرقل الطريق لذاك. فلما كبرت وازددت خبرة ودقة، أدركت أن تبعة الصيد الهزيل واقعة لا محالة على الصياد. فالشبكة من نسج يديه، وموضع الصيد من اختياره، إن هذا «الحظ» المسكين الذي نلطخه بأوحالنا، ونفرغ على رأسه قمامتنا، مظلوم مغبون. إنه بريء إلا بمقدار ضئيل جدًّا مما يصيبنا. ليتني أعرف أين يسكن هذا الذي ظلمه الناس وقسَوا عليه؛ لأبعث إليه بقطعة من الحلوى اليوم، يوم ميلادي؛ تكفيرًا عما ألقيته في فمه من حنظل مر في سالف الأعوام.
ثم ابتسمت لصديقتي وسألتها: تُرى أين يكون موضعك أنت من هذه الأنواع المختلفة من الشباك والصيد؟
فقالت ضاحكة: نحن النساء لنا شِباك أخرى وصيد آخر.