حمل الهموم
قُلت لنفسي بمناسبة ما يحيط بي هذه الأيام من هَم وغَم، وما يكتنف نفسي من هواجس ووساوس: يومك هذا هو غدك بالنسبة لأمسك. ألم تكن بالأمس محزونَ النفس مكروب الفؤاد، تفكر فيما عسى أن يتَكشَّف عنه الغد؟ ها هو ذا غدُك المَخُوف قد جاء وكاد ينقضي. وكانت الشمس على إشراقها والسماء على صفائها، وكان الناس هم الناس والأشياء هي الأشياء. وهكذا سيأتي غدٌ وينقضي، كما سينقضي بعد الغد وما بعده إلى آخر أيامك المعدودة في هذه الحياة.
الحق أن أمر الإنسان عجَب في حمله لهمومه؛ فتكاد لا تجد إنسانًا بغير عبء من الهموم ينقض ظهره، ثم تكاد لا تجد من بين هؤلاء واحدًا لا ينسى همومه هذه بعد حين، لكنه ينساها ليضع مكانها أخرى! ماذا لو نظرنا إلى همومنا الحاضرة بنفس العين التي سننظر بها إليها بعد حين؟ إنك بعد حين يقصر أو يطول، ستذكر هذا الذي كان يُهمك ويَشغل بالك، فإذا به في عينك تافه حقير، فهلَّا وزنته بهذا المثقال نفسه الآن؟
لعل قارئي قد أتاه نبأ الصداقة التاريخية الشهيرة بين الدكتور جونسن، الأديب الإنجليزي الكبير، وزميله المعجب به «بوزول» الذي كتب كتابًا في سيرة صديقه وأستاذه «جونسن» فأصبح كتابه هذا مثلًا يُضرب لأدب السيرة في أرجاء العالم كله، بل اشتقت اللغة الإنجليزية من اسم «بوزول» فعلًا يدل على علاقة الإعجاب التي تقوم بين متبوع في الرأي وتابعه. فيقال: فلان «يبزول» لفلان؛ أي: يبدي له من الإعجاب ما يكاد يفنيه في شخصه. جاء «بوزول» هذا ذات صباح عابس الوجه إثر معركة كلامية نشِبت بينه وبين صاحبة المنزل الذي كان يسكن في غرفة منه — والمعارك بين ربَّات المنازل والساكنين في بيوتهن معروف شهير متصل لا تنقطع أسبابه — فقال له «جونسن» حين سمع النبأ: اقضِ بخيالك يا سيدي اثني عشر شهرًا، ثم انظر كم يبدو هذا الأمر في عينيك من تفاهة الشأن بعدئذٍ. ويذكر لنا «بوزول» هذه العبارة في السيرة التي كتبها عن زميله وأستاذه، ثم يعقب عليها بقوله: «لو أننا طبقنا هذه النظرة على معظم حوادث الحياة الصغيرة التي تثير الغضب في صدورنا، والتي تُقلق طمأنينة نفوسنا قلقًا شديدًا؛ لكفينا أنفسنا كثيرًا من الإحساسات المؤلمة. ولقد حاولت ذلك مرات عدة، فنعمت بأطيب النتائج.»
ولست أذكر اسم الأديب الإنجليزي الذي قرأتُ له مقالًا ممتعًا رائعًا عنوانه «جبل الهموم» الذي يقول فيه: إن جماعة من الناس لاحظ بعضها على بعض أن كل فرد من أفرادها يحمل في صدره همًّا ثقيلًا، فظنوا أن ما هو همٌّ بالنسبة لهذا قد لا يكون همًّا بالنسبة إلى ذاك، على أساس الفكرة القائلة بأن مصائب قوم عند قوم فوائد. فاتفقوا على أن يخرجوا جميعًا إلى قطعة أرض خلاء، حيث يلقي كلٌّ منهم بهمِّه، ثم يختار له بعدئذٍ ما شاء من هموم الآخرين، وتم ذلك. فأُلقيت الهموم من الصدور بحيث تكدَّس بعضها فوق بعض جبلًا عاليًا، وانطلق الأفراد بعد ذلك يختار كل منهم ما يحلو له من كومة الهموم، فإذا بكل واحد منهم يُؤْثِر همه السابق على هموم سائر الناس، فيحمل همه القديم ويقفل إلى داره راضيًا قانعًا، يحمد الله الذي لا يُحمد على مكروه سواه … وإنما يُخيل إلينا أننا المنكوبون وحدنا، المهمومون وحدنا، وأن سائر الناس في راحة بال وطمأنينة نفس؛ لأننا لم ندخل صدور هؤلاء الناس، ولو تغَلْغلنا في ثنايا قلوبهم، إذن لعلمنا أن الناس في الهموم سواء، كلٌّ يحمل منها قسطًا موفورًا.
لقد ارتسمتْ على وجهي ابتسامة عريضة حين وقعتُ منذ أيام في إحدى المكتبات على كتاب حديث لكاتب أمريكي، عنوانه: «كيف تتخلص من عادة حمل الهموم.» وقرأت في مقدمته أسطرًا قلائل، هي التي رسمت الابتسامة العريضة على وجهي. لكني لم أشترِ الكتاب؛ لأني قلبت صفحاته فوجدتها مُفْعَمة بالنصائح، وقد آمنت بعد خبرة حياتي الماضية أن ألف ألف نصيحة لا تساوي جناح بعوضة إذا قِيست إلى أثَر الخبرة نفسها. وإنما استثار ابتسامتي ما يقوله المؤلف من أنه حين أراد الكتابة في موضوع الهموم، ذهب إلى المكتبة العامة في نيويورك ليطالع الكتب التي كُتبت في الموضوع نفسه. فأخرج من دليل الكتب الحَرف الأول من الكلمة التي معناها «هموم» — وهو نفسه الحرف الأول الذي تبدأ به الكلمة التي معناها «دود» — فكم كانت دهشته قوية عميقة، حين وجد في المكتبة العامة ما يقرب من مائتي كتاب عن «الدود»، ولم يجد إلا عشرين كتابًا في موضوع «الهموم»! وتساءل في عجَب: أيمكن بعد ذلك أن نقول صادقين: إن الأدب تصوير للحياة، وإن الكتاب يعكسون اهتمامات الناس في مرايا كتبهم؟ إنني ما سألت إنسانًا واحدًا إلا وجدته «مهمومًا»، مع أني لو بحثت عمن يهتمون بأمر «الدود» لما وجدت إلا نفرًا قليلًا. فكيف نهمل موضوعًا هو من حياة كل إنسان في الصميم؟! اسأل مَن شئت من الناس: كيف حالك؟ فإن أخلص لك في الجواب وزالت بينك وبينه الكُلفة، أخذ يقصُّ عليك همومه، على اختلاف الناس في تلك الهموم. فهذا همه صحته وما أخذ يتعاورها من أسباب العلة. وذلك همه ضيقُ ذات يدِه عما تقتضيه الحياة من نفقات. وثالث يشكو ما يعانيه من لؤمٍ في طباع الناس. ورابع همه أبناؤه، فليسوا من النجابة أو من العافية؛ بحيث كان يتمنى ويشتهي. وخامس يحب فيضحك الناس من حبه مع أنه هو جاد فيه. وسادس وسابع وثامن …
لماذا لا نُعِدُّ أنفسنا لأسوأ حال؛ حتى إذا ما جاءت الحال خيرًا مما توقعنا، انشرحت لها صدورنا واطمأنت نفوسنا؟ كم من مرة غيَّرت بدلتي، فلما دسست يدي في جيب سروالي وجدت عشرة قروش أو عشرين، كنت قد نسيتها هناك، فيكون لها في نفسي فرحة كبيرة، كأنما عثرت على كنز دفين! لماذا؟ لأن الحال الواقعة خير من الحال المتوقَّعة. توقعت جيبًا خاليًا، فإذا به يحمل في طيه القروش! ولا عبرة بعد ذلك قلَّت تلك القروش أو كثرت … تُرى أتكون فرحتنا بالحياة موصولة لا مقطوعة ولا ممنوعة، لو أننا رسَمنا خطتها على هذا الأساس؟ أعني لو أننا توقعنا في كل موقف أسوأ حالٍ ممكنة، فمهما جاءنا بعد ذلك من نَزْر قليل؛ كان في أعيننا فيضًا غزيرًا.
لو أنني جعلت من نفسي مقياسًا لسائر الناس؛ لقلت في غير تردُّد: إن حركة الجسم أفعل أداة تزيل الهموم الجاثمة على صدر المهموم. أجلس إلى مكتبي فتتراكم في رأسي همومي، فأرتدي بدلتي وأنزل من فورى وأمشي مشية سريعة قوية، فإذا الرأس قد خلا مما كان به! ولا بُدَّ أن أرد الفضل في هذا إلى صاحبه؛ فقد كسبت هذه الحيلة البسيطة النافعة من «ثورو» منذ أعوامٍ طوالٍ، حين قرأت له موازنة جميلة بين حياة الإنسان وحياة الحيوان، وهو يفضل الثانية على الأولى. وكذلك ورد العلاج نفسه في إحدى قصائد «رديارد كبلنج»؛ إذ قال: إن الإنسان إذا ما نال منه الهم، فليس علاج حاله أن يجلس ساكنًا أو أن يقطب الجبين وهو مُكِبٌّ على كتابه بجوار المدفأة، بل علاجه أن يحمل منجلًا كبيرًا ومجرافًا، ويأخذ سَمته نحو حقل أو غابة، ويظل يقطع النبت والشجر، ويجرف تربة الأرض حتى يقطر جسمه بالعرق. فإذا لم يؤدِّ ذلك إلى زوال همومه؛ فلا أقلَّ من أنه يُنْبِتُ للناس خضرًا قد يملأ بعض البطون الجائعة!
وَرَد ذلك كله على خاطري حين أخذتني الهموم هذه الأيام، «وتفلسفت» على نفسي ما شاءت لي قدرتي، فما رأيت في كل ذلك نفعًا كبيرًا … فالظاهر أن الكلام شيء، والواقع شيء آخر!