النجاح والفشل
أصبت فشلًا في أمر من أمري، فقلت لنفسي وأنا متَّزن الأعصاب هادئ التفكير: «لعله خير.»
وهذه العبارة التي قلتها لنفسي، كثيرًا ما تدور على ألسنة الناس كلما أصابوا في أمرهم فشلًا، وهم يعنون بها: «لعل هذا الفشل أن يكون نجاحًا.»
وتوقُّع النجاح من الفشل فيه تناقض ظاهر؛ لأنه إن كان فشلًا فيستحيل أن يكون في الوقت نفسه عاملًا من عوامل النجاح؛ وإلا لكان الاسم هنا مطلقًا على غير مسماه.
لكنه تناقض ظاهر. وأما المتعقب للأمور في بواطنها فقد لا يجد تناقضًا بين فشل الساعة الراهنة ونجاح المستقبل القريب أو البعيد. وإني إذ أستعرض حياتي الماضية وحياة مَن أعرف من الناس لأستخرج عشرات من الأمثلة لحادثات كانت فشلًا محققًا في حينها، وإذا بالأيام تدور دورة سريعة وتخلف الظنون؛ لأن ذلك «الفشل المحقق»، في ظاهره قد كان في حقيقته نجاحًا لا شك فيه. فحوادث الأيام سلسلة متصلة حلقاتها، كل حلقة فيها نتيجة لما مضى وسبب لما هو آتٍ. ونتائج الحادثة الواحدة لا عدَد لها، ولا تقف عند حَدٍّ. وربما خُيل إليك أنها حادثة عابرة قصيرة العمر جاءت لتوِّها ومضت لتوِّها. والحقيقة هي أن الحادثة مهما تكن تافهة؛ فقد تتسلسل نتائجها إلى أمَد بعيد، فكأنما الحادثة الواحدة حجر أُلقي به على صفحة ماء بغير شطآن، فتظل حلقات الماء تتسع وتتسع لغير نهاية معلومة. وما أصدق الكاتب الإنجليزي الذي قال: إنه يستحيل الحكم على إنسان بنجاح أو بفشَل حتى يموت ويصبح جزءًا من الماضي؛ لأنه مادام حيًّا فهناك احتمال أن يظهر بعض النتائج في مجرى حياته مما يغير الحكم عليه بهذا أو بذاك.
فهذه فتاة أعرفها، خطبها طبيب شاب، ولم تكن تتوقع أن يخطبها كل هذا الشباب المزدهر وكل هذا المستقبل المديد العريض؛ لأنها من أسرة متوسطة الحال، وليست على كثير من الجمال بحيث تفتن العقول وتسحر الألباب. لكن شاءت المصادفات أن يتصل ذلك الطبيب بأخٍ لها، وأن تكثر الزيارة بينهما وأن تكثر رؤيته لها في تلك الزيارات، ثم شاءت المصادفات لهذا الطبيب أن يفكر في الزواج في هذا الحين، وكلما فكر لم يَثِبْ إلى خاطره إلا تلك الفتاة … فخطبها إلى أخيها. وقل ما شئت عن نشوة الفرح التي أخذت الفتاة وأهلها جميعًا؛ لأن ما هو أبعد من الأحلام قد تحقق في مثل اللمح بالبصر! وراح أبناء الأسرة يتهامسون في عجَب: فلانة خطبها فلان؟! وهنا كنت تسمع من تعليقات السامعين ما يبعثك على التأمل حينًا، والضحك أحيانًا.
واتُّفق على يوم تُعلن فيه الخِطبة وتُلبس الخواتم في الأصابع، ويجيء اليوم المضروب، ويُدعى أفراد الأسرة جميعًا، ويصطفون صفوفًا على الكنبات والمقاعد، وتُدار أقداح «الشربات» وقطع الحلوى أشكالًا وألوانًا. ولم تكن أسرة الفتاة بقادرة على تلك النفَقات كلها، لكن «العريس» صفقة رابحة جدًّا، ويستحق هذا كله وأكثر من هذا كله.
وما هو إلا أن جاء الخاطب الشاب وأبوه، ولم يكن في صحبته أم ولا أخوات؛ ما جعل العيون تتلفَّت والشفاه تهمس. لكن ما قيمة الأم والأخوات، بل ما قيمة الدنيا كلها، مادام «العريس» بنفسه وشخصه قد جاء؟ جاء في سيارته الخاصة، ولم يكن يخطر على رأس إنسان من محيط الفتاة أن تقف على بابها سيارة خاصة … وما أسرع ما تشعر القلوب بالخطر حين يقبل! ما أسرع ما تخفق القلوب وتنبض خفقًا غريبًا ونبضًا عجيبًا حين يحس الإنسان بأنه قادم على كارثة قريبة الوقوع! لكن الإنسان في مثل هذه الحالات لا يزيد على قوله لنفسه ولأصدقائه الخُلصاء: «إن قلبي يحس خطرًا.» ثم يمضي فيها هو ماضٍ فيه إلى آخر الشوط! أين أين هذا الإنسان الذي يزعم لنفسه ولنا أنه يسير في حياته وَفق العقل والمنطق؟ أين هو لأضرب له ألف مثل ومثل على سير الإنسان في حياته مدفوعًا كأنه الحجَر الأصم ينزلق على سفح الجبل، لاحول له في ذلك ولا قوة، يدرك الخطأ في سيره، ويرى الخطر في طريقه، ثم يمضي فيما هو ماضٍ فيه إلى آخر الشوط!
إذن، فقد أقبل «العريس» ولم يكن في صحبته إلا أبوه، وتلفتت الأعين وهمست الشفاه ورجفت القلوب إحساسًا بالخطر. وما هو إلا أن أَعلن الخطر عن نفسه وتبدَّى؛ ذلك أن الطبيب الشاب قد جلس مُطْرِقًا من همٍّ ظاهر، وما هكذا يكون «العريس». وأما الوالد فما لبث أن نقَر الأرض بعصاه، وأعلن أنه جاء ليعتذر عن إتمام الخطبة؛ لأن الظروف غير مواتية من بعض وجوهها.
وانفضَّ كل شيء، وبكت الفتاة ما شاء لها البكاء، ورثت لحظِّها المنكود ما وسعها الرثاء، وكانت تشاركها أمها بكاءها ورثاءها حينًا، ثم تعزيها عن مصابها حينًا … ومضى شهران، وخُطبت الفتاة وتزوجت. وأما صاحبنا الطبيب الذي كانت الدنيا قد فتحت له آفاقًا؛ فقد اندكَّ صرح حياته في لمحة واحدة؛ إذ قرأنا في الصحف نبأ اشتراكه في جريمةٍ؛ مما انتهى به إلى السجن حيث لا يزال في غياهبه. وقال قائل: إنه لم يُجْرِم عن رذيلة مطبوعة في نفسه، لكنها الحوادث لفَّته لفًّا في أحابيلها وهو لا يدري.
وليس من شأننا الآن أن نعلم أكان الطبيب في حقيقة الأمر مذنبًا أم بريئًا. لكن الذي نكتب من أجله، هو أن الفتاة وأهلها جميعًا راحوا يَغبطون أنفسهم على هذا الحظ الجميل الذي أفلتت به الفتاة من زوجٍ كان على قيد أشهر قليلة من السجن … وهكذا كان «الشر» «خيرًا»، بل هكذا يكون الشر الظاهر خيرًا في حقيقته في كثير جدًّا من الحالات.
وليس يمكن أن نجد تعبيرًا عن هذا المعنى خيرًا مما ورد في القرآن الكريم عما دار بين موسى والخضر عليها السلام: قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا * فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا * فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا * فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا * أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا * وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (الكهف).
كم وجهًا عابسًا من حقه أن يبتسم إذا عرف صاحبه أن ما ظنه فشلًا قد أصابه إنما هو في حقيقة الأمر نجاح إذا قِيس إلى نتائجه البعيدة؟! إن الإنسان قد يدرك عاملًا واحدًا من عوامل الحياة الجارية ويفوته ألف عامل. ثم تراه يحكم بما علم، وما خفي عليه واستَتر كان أعظم. يقول الناس عن فلان إنه نجح في حياته وعن فلان إنه فشل، والنجاح والفشل لا يكونان إلا بالنتائج. والنتائج لا تقف عند حد؛ فكيف يمكن الحكم؟ لقد قِيل عن هتلر في غضون الحرب: إنه نجح لأنه انتصر، ثم قيل: بل فشل لأنه انكسر. ثم قرأت مقالًا منذ عام للسير بيفردج يقول عنه: إنه المنتصر حقًّا؛ لأن ألمانيا زاد سكانها في آخر الحرب عنهم في أولها، وستكون العبرة آخر الأمر بالسكان. وهكذا ستظل النتائج الجديدة التي تتكشف عنها الأيام تحملنا على تغيير حكمنا بالنجاح أو بالفشل كل يوم مرة.
وإن كان ذلك كذلك؛ أفليس جديرًا بالإنسان العاقل أن يبتسم متفائلًا لكل ما تجيئه به الأيام؟