الفصل الثالث

الغاية

(١) تنوع الغايات

(١-١) الرغبة والغاية

الرغبة ترمي إلى غاية، فلكل فعل تفعله غاية تتجه إليها الرغبة؛ لذلك لا يمكننا أن نبحث في الغاية إلا ونحن نصطحب الغاية في بحثنا؛ لأنها ترافق الفعل إلى أن يبلغ الغاية، إذن الرغبة تتضمن أمرين: الغرض الذي ترمي إليه الرغبة، والقصد الذي يرافق الفعل إلى الغاية.

يتضح لك الفرق بين الأمرين إذا كان اثنان يرميان إلى غرض واحد ولكنهما يختلفان قصدًا، كلاهما يبتغيان أن ينقذا غريقًا: الواحد يقصد أن يخلصه لأنه ابنه، فهو يبتغي إنقاذه بالذات، والآخر يخلصه وهو غريب عنه؛ لأنه يفعل لأجل الإنسانية. ولهذا تختلف المقاصد والغرض واحد، تختلف باختلاف الظروف، كما علمت، فكأنَّ الظرف يُعينُ المقصد.

(١-٢) الظروف الرئيسية

إليك أهم الظروف كما ذكرها مكنزي في كتابه «متن علم الآداب»:

  • أوَّلًا: «يختلف القصدان من حيث البعد والقرب» فيكون أحدهما بعيد المرمى والآخر قريبه؛ مثال ذلك أن اثنين يخلصان غريقًا: الواحد يخلصه لأجل الإنسانية، والآخر لأن له عنده دَيْنًا، فينبغي أن يستوفيَه. ففي الحالة الأولى ينتهي قصد الأول في إنقاذ الغريق، وفي الحالة الثانية لا ينتهي إلا بعد أن يستوفي دينه.
  • ثانيًا: «أن يكون أحد القصدين داخليًّا، والآخر خارجيًّا» كما لو صنع الواحد جميلًا لإرضاء ضميره، والآخر صنعه لأجل الشهرة أو الثواب أو المكافأة.
  • ثالثًا: «أن يكون أحد القصدين مباشرًا، والآخر بالواسطة» كما لو رام فَوْضَوِيَّانِ أن يقتلا حاكمًا: فالواحد يتحين فرصة لقتله وحده، والآخر ينسف قطارًا حديديًّا بالديناميت؛ لأن الحاكم في القطار. فهو يقتل كل مَنْ في القطار لأجل غايته مع أنهم ليسوا مقصودين بها.
  • رابعًا: «أن يكون القصد وجدانيًّا» أي عقليًّا باطنيًّا، كما لو خدم المرء وطنه خدمة جليلة وهو يقصد خير أمته، وفي الوقت نفسه ينال فخرًا. فقصده للفخر باطني الوجدان، وإن لم يكن مرماه الأول أو لم يشعر به. وفي كثير من الأحوال يتعذر الفرق بين هذين القصدين.
  • خامسًا: «يكون أحد القصدين رسميًّا، والآخر ماديًّا» كما لو رام حزبان أو شخصان أن يُغيِّرا الحكومة، فالحزب الواحد يصوت ضدها؛ لأنها تخالفه بالمبدأ، والآخر لأنها تُضرُّ بمصالحه.

على أن هذه الأحوال الخمس غير شاملة لجميع ضروب المقاصد وظروفها، ولكنها تساعد على تحليل معقدات المقاصد.

(١-٣) تسلسل الغايات

وهنا يقف أمامنا سؤال؛ وهو: هل الغاية هي نهاية الفعل أم أن الفعل يستمر؟ وبعبارة أخرى: هل الغاية واحدة أو متعددة؟ والجواب أن الغاية قد تكون تارة واحدة؛ كما لو أكلت لتسد الجوع، فالغاية هنا واحدة والفعل مباشر، ولكن إذا طبخت، فنضوج الطبخ هو الغاية المباشرة، والأكل من الطبخ هو الغاية الثانية، فالغاية الأولى صارت واسطة للثانية.

وهكذا تسعى لجمع المال، ثم تنفق المال في قنية الحاجايات لإرضاء شهوتك. فهنا تعددت الغايات، وقد تسلسلت فكانت الواحدة واسطة للأخرى، وكذلك تتشعب الغايات بعضها من بعض، فأنت تتاجر وتربح ثم تنفق بعض ربحك في قضاء حاجاتك، وبعضه تضعه إلى رأس مالك لكي توسع متجرك. فاتساع متجرك غاية قائمة بنفسها، ثم ترمي باتساع متجرك إلى جمع الثروة لكي تتزوج زواجًا سعيدًا، فالزواج غاية أخرى، ثم تجتهد في إسعاد عائلتك، وإسعادها غاية أخرى، وهكذا دواليك الغاية الواحدة واسطة للأخرى.

(١-٤) الغرض السروري

هنا يقف لدينا سؤال آخر: ما هي الغاية أو ما هو الغرض؟ وهنا اختلف الباحثون فكانوا فريقين؛ فريق يقول: إن الغاية ما سر النفس، وأشبع شهوتها، وأرضى شعورها،١ وفريق آخر يقول: بل هي ما أفضى إلى نفع، وأما السرور فما هو إلا ما اصطحبه القصد معه. ويمثلون على ذلك بلعب النرد مثلًا أو بأي مسابقة؛ فإن اللاعب حين يدخل في اللعب لا يضمن الفوز، ولكنه يلتذ باللعب حين تحتدم المسابقة، ومتى انتهى اللعب فلا يكون سرور الفوز عظيمًا كسرور اللعب نفسه، وما هو إلا استمرار سرور اللعب.

من أمثلة ذلك أيضًا: أن كثيرين يجمعون المال ويدَّخرونه ولكنهم لا يتمتعون به، فهم يسعون إلى المال نفسه وليس المال المدخر موضوع تمتع ولذة، وإنما هم يسرون ويلتذون بجمعه قبل أن يجمع، أو في أثناء كدحهم لجمعه؛ فالسرور هنا سبق الغاية، والغاية جاءت متأخرة. إذن السرور ليس غاية، بل هو يرافق القصد إلى الغاية، ومتى بلغ المرء غايته انتهى سروره، وشرع يقصد إلى غاية أخرى؛ لذلك بكى إسكندر الكبير حين انتهى من الفتح؛ لأنه لم تبقَ بلاد لم يفتحها، فكان سروره في الحرب نفسها لأجل الفتح، فلما تم له الفتح انتهت لذته.

ولأقل إنعامِ نظَرٍ في نظرية كل من الفريقين، يرى القارئ أنهما مختلفان في تحديد الغاية:
  • فالأول: يعد الغاية كل ما أفضى إلى لذة، سواء كانت اللذة في أثناء الفعل أو في نهايته؛ لأن الغايات مسلسلة، كما تقدم القول، فإذا كنت تبني بيتًا فتشعر بلذة حين تنتهي من وضع أساسه؛ لأنك بلغت إلى درجة من الغايات التي تتوسل بها إلى الغاية القصوى، وهي سكنى البيت أو التمتع بأجرته. فمقاصد الإنسان سلسلة لا تنقطع، والسلسلة تشتمل على حلقات، وكل حلقة غاية قائمة بنفسها، وفيها لذة. فإذن كل ما أفضى إلى لذة كان غاية. فاللذة إذن هي الغاية، سواء كانت هذه نهائية أو واسطة.
  • والفريق الثاني: يعد الغاية الغرض الذي يتجه إليه الفعل؛ فمتى بلغ الفعل إلى القصد كان بلوغه غاية. وأما السرور أو اللذة فيحدث في أثناء الفعل؛ أي إن السرور يرافق القصد إلى الغاية. وعند بحثنا في السرور نعود إلى هذا الموضوع بأكثر إيضاح.

يعد الغاية الغرض الذي يتجه إليه الفعل؛ فمتى بلغ الفعل إلى القصد كان بلوغه غاية. وأما السرور أو اللذة فيحدث في أثناء الفعل؛ أي إن السرور يرافق القصد إلى الغاية. وعند بحثنا في السرور نعود إلى هذا الموضوع بأكثر إيضاح.

(١-٥) الغاية القصوى

فنرى مما تقدم أن لكل من الفريقين نظريات وجيهة، والفرق بينهما قليل. وللتوصل إلى الحقيقة الراهنة نبحث في جذور الغاية التي يتجه إليها الفعل، ويرمي إليها القصد. وهذا البحث يستلزم أن نعود إلى المحرك للفعل؛ لأنه سبب وجود الغاية. وهنا نسأل: هل للغاية شركة في تحريك الفعل؟ أي هل تُعَدُّ الغاية النهائية محركًا أيضًا للفعل؟

نعود إلى المحرك فنحلله تحليلًا أعمق مما فعلنا فيما سبق. مرَّ بك أن الأخلاق والسجايا التي تحرك الفعل منها غرائز بحتة؛ كالشهوات والانفعالات، ومنها نشأت كعادات وصارتْ غرائز، أو هي مشتقة من غرائز. والغريزة: نبضة حيوية أو عقلية وظيفتها الحرص على الحياة والبقاء — بقاء الفرد وبقاء النوع.

فكل خلق لفعل إنما هو يرمي بحركته إلى هذا الغرض: الحرص على الحياة والبقاء؛ فحين تأكل لإشباع الجوع تفعل ذلك بغريزة الشهوة البطنية لأجل الحياة والبقاء، وحين تهرب تفعل ذلك بغريزة الخوف حرصًا على الحياة والبقاء، وحين تغضب تقاتل حرصًا على الحياة وهلم جرًّا، فكأنَّ للغاية شركة في تحريك الفعل؛ لأنها غرض الغريزة، كما سيتضح لك ذلك فيما يلي.

(٢) الداعي أو الباعث

رأيت فيما تقدم أن الغاية المرغوبة هي التي تصطحب معها سرورًا، أو تكون هي نفسها سارة، أو على الأقل يكون السرور مرافقًا للفعل المتجه إليها. وستتضح لك هذه الحقيقة أكثر في الفصل التالي؛ ولذلك لا بد أن يكون قد قام في ذهنك أن الغاية المرغوبة هي نفسها محركة للفعل، أو من جملة محركاته، فهل هي كذلك؟ أليست الشهرة غاية ومحركًا للفعل المتجه إلى هذه الغاية؟

ولكي نسهل أمر التمييز بين المحرك الخُلُقي والغاية التي تتراءى لنا محركًا أيضًا للفعل المتجه إليها، نقيم في ذهن القارئ مبدأ أعم من المحرك؛ وهو الداعي أو الباعث للفعل، فالداعي قد يكون محركًا خلقيًّا، أو غاية مرغوبة، أو تعقلًا أيضًا، أو قد يكون هذه جميعًا، أو اثنين منها.

(٢-١) الغاية كمحرك للفعل

المحرك الخلقي الذي يستقل وحده في انتداب المرء للفعل هو الخلق الغريزي البحت، ولا سيما إذا كان رئيسيًّا؛ كالشهوات الغريزية والانفعالات، فهذه يمكن أن تحرك المرء لأول وهلة للفعل من غير أن ينظر إلى الغاية. فهو يغضب ويقاتل ويخاف ويفر ويجوع ويتلهف للطعام قبل أن يفتكر بالغاية إن كانت سارة أو مؤلمة. فالغاية كافية لتحريك الفعل.

وأما الأخلاق المتفرعة المشتقة من الرئيسية، فلأنها أقل سرعة في عملها، تقيم في الذهن صورة الغاية المرغوبة. وهذه الصورة تشترك معها في تحريك الفعل، وكلما بعد الخلق عن محضية الغريزة اتضحت فيه الغاية، وكانت أكثر شركة في تحريك الفعل. فحب المال والشهرة والشفقة والميل إلى الإحسان إلخ، كل هذه تقيم في الذهن تصور السرور من الحصول على الأمر المرغوب فيه، فتكون الغاية المرغوبة عاملًا قويًّا في تحريك الفعل.

المحرك الغائي إذن هو الذي تكون فيه الغاية المرغوبة من طبيعة الخلق المحرك، أي إن هذا الخلق نفسه يبتغى إرضاءً لنفسه لا لقوام الأقنوم الإنساني.

فالشهرة مثلًا من جهة واحدة تختلف عن خلق حب الاشتهار في نفس المرء، ومن جهة أخرى تجعل حصول المرء عليها غاية مرغوبة؛ فهي إذن محرك للفعل وغاية له، هي مصدر جاذبيتين: جاذبية النفس لهذا الخلق «خلق حب الشهرة»، وجاذبية الغاية المرغوبة؛ أي الحصول عليها.

إذن كثير من الغايات المرغوبة موجودة في طبيعة الأخلاق الفرعية، وأحيانًا في الأخلاق الرئيسية أيضًا متى كان التعقل مسيطرًا، وبالتالي تكون محركًا للفعل؛ فالفخر خلق محرك، والحصول عليه غاية محركة أيضًا، والشجاعة خلق محرك، وفوزها غاية محركة أيضًا، وهلمَّ جرًّا، فترى أن الغاية متى كانت محركًا للفعل أيضًا كان مجرى الفعل في دائرة.

(٢-٢) التعقل كمحرك

المحرك التعقلي هو الذي يدل على الوسيلة المحمودة التي يجب أن تجري فيها حركة المحرك «الفعل» إلى الغاية المرغوبة التي تقيم الشعور برضى ذلك الخلق المحرك. ولما كانت أدبية الفعل منحصرة في وظيفة التعقل كان هذا المحرك التعقلي يتصرف في الفعل كما يشاء إذا لم يسبقه المحرك لإجراء الفعل؛ فقد يوافق المحرك أو قد يعدِّل حركته أو يخالفها، قد تثور شفقة المرء عند رؤيته شخصًا فقيرًا وتدفعه للإحسان عليه، ولكن المتعقل قد يقمع الشفقة ويقول لها: دعيه بلا إحسان لئلا يتعود الشحاذة. فهنا كان التعقل محركًا للفعل، وهو قبض اليد عن الإحسان، وتوبيخ الشحاذ.

وقد يستقل التعقل وحده بتحريك الفعل، فيحرك الخلق، ويقيم له غاية مرغوبة عن نفسه؛ وحينئذٍ يكون عملُه عقليًّا بحتًا.

(٢-٣) الظرف كمحرك

قد يعرض للمرء مثلًا ظرف يستطيع فيه أن يخدم وطنه خدمة جليلة، فيفكر في أسلوب هذه الخدمة، ويثير في نفسه خلق فعل الخير والشهرة، ويقيم فيها تصور لذة هذا الفعل من الناحيتين: ناحية الضمير، وناحية حب الشهرة، فيكون في هذا الأمر مستقلًّا في تحريك الفعل وتدبر وسيلة إجرائه، كذلك قد يعرض للمرء ظرف يكون فيه زعيمًا مثلًا، فيثير هذا الظرف في نفسه حب الزعامة وقد كانت نفسه قبلًا غير طامعة فيها، ويقيم لها رغبة جديدة للحصول على الزعامة، أو قد يعرض له ظرف يكون فيه غنيًّا أو فنانًا أو محسنًا أو وجيهًا، فيثير في نفسه هذا الخلق، ويمرن الأمل على الحصول على هذه الغاية المرغوبة، فيكون هو في الأصل علة تحريك الفعل مستقلًّا فيها.

فَمِمَّا تقدم ترى أننا لا نستطيع في معظم الأحوال أن نفصل بين الأخلاق والسجايا المحركة، وبين المرغوب والمتعقل، ولا أن نقصر قوة تحريك الأفعال على الأخلاق والسجايا وحدها.

١  وقد عُرفت هذه النظرية عند الإفرنج بلفظ هيدونزم Hedonism؛ أي السرورية، وذووها يُسمُّون هيدونستس Hedonists؛ أي سروريون؛ لأنهم يحسبون الغاية سرورًا، أو أن السرور هو غاية كل إنسان من فعله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤