الفصل الرابع

السرور

رأيت فيما تقدم أن السرور مصاحب للغاية وملازم لها، أو هو الغاية بعينها في نظر السروريين، فلا بد من الإسهاب في أحواله وأحكامه؛ لأنه يكاد يكون بيت القصيد في مجرى الفعل.

(١) ماهية السرور

السرور:١ هو شعور جسدي أو عقلي بما أحدثه الفعل من إرضاء للشهوة جسدية أو عقلية؛ فالشبع سرور لأنه سد الجوع، والصدق سرور لأنه أرضى الضمير، والفوز سرور لأنه أرضى الطمع بالشهرة، والربح سرور لأنه أرضى شهوة النفس للمال إلخ.

(١-١) اللذة والألم

وللسرور فعل سلبي، وهو الألم أو الكآبة على الأقل. وفي كل ظرف من ظروف الأفعال لا بد من أحد الوجهين: إما اللذة، أو الألم. وحيث لا لذة ولا ألم فلا ظرف، فإنما أنت مسرور أو متألم في الظرف الذي أنت فيه. ولا محل للكلام في الظرف الذي لم تنتقل إليه أو لم توجد فيه.

فإذا كنت جائعًا كنت شاعرًا بألم الجوع، ومتى أكلت وشبعت حلَّ السرور محلَّ الألم، فالفعل ينتقل بك من حالة الألم إلى حالة اللذة؛ هو فرار من الألم إلى اللذة. والغريزة التي هي مجموعة الأخلاق أو مصدرها إنما هي المحرك الأساسي لهذا الانتقال من الألم إلى اللذة.

وهنا عدنا إلى النقطة الجوهرية التي ألمعنا إليها آنفًا؛ وهي: هل اللذة هي نفس الغاية التي يتجه إليها الفعل برفقة القصد؟

(١-٢) حالات السرور الظرفية

لنبحث في طبيعة السرور نفسه.

للسرور ثلاث حالات — كما ذكرها روجرس في كتابه «نظرية الآداب»: أولًا: السرور الذي منحنا إياه الفعل في الماضي، ثانيًا: السرور الذي ننتظر أن يمنحنا إياه الفعل في المستقبل، ثالثًا: السرور الذي نتصور في الحاضر توقعه في المستقبل.

فالسرور الأول حدث مع حدوث الغاية، والثاني لم يحدث بعدُ وإنما نحن ننتظر حدوثه، فهل نشعر به؟ نعم، نشعر به في الحالة الثالثة؛ أي نشعر به في تصورنا لحدوثه.

فهل الشعور نفسه حين حدوثه يختلف عن الشعور به حين تصوره واقعًا أو حين توقعه؟ أجل يختلفان من حيث الحدة، وفي كثير من الظروف يكون السرور بتوقع حدوثه أشد منه حين حدوثه، وفي كثير من الأحوال ينتهي السرور حين تُبلَغ الغاية.

(١-٣) السرور غير الغاية طبعًا

فمما تقدم يتضح لك أن الغاية ليست السرور بعينه؛ لحدوث السرور قبل حدوثها كما رأيت، وإنما هذه الحقيقة تخفى علينا لأننا ألفنا السرور متفقًا مع الغاية، ولو فطنَّا إلى أن كثيرًا من الأفعال نفعلها قبل أن نختبر غايتها لنعلم إن كانت سارة أو لا؛ لاقتنعنا بأن الغاية شيء، والسرور شيء آخر.

الغاية دفعت إليها الغريزة لحاجة الجسد أو النفس إليها؛ فالطفل لم يرضع ثدي أمه لأول مرة بغية لذة الشبع، وإنما الغريزة دفعته إلى رضاعة الثدي؛ لأن وظيفتها دفعه للفعل في سبيل حياته وبقائه، والطفل يبكي لا لأنه جائع ويتألم من الجوع — فقد يكون شبعان — وإنما يبكي لأن الغريزة تدفعه للبكاء لكي يُحرِّض حنو أمه لإرضاعه، والحيوانات لا تتزاوج لأول مرة لأنها تتوقع لذة في المزاوجة، بل الغريزة تدفعها إليها لأجل بقاء النوع.

فبعدما اختبر الإنسان — والحيوان أيضًا — أن الاندفاع في العمل بمقتضى تحريك الغريزة يمنحه لذة، صار يندفع هذا الاندفاع توخيًا للذة، ولكن الغريزة لم ترم إلى اللذة، بل إلى النفع الحيوي، ترمي إلى نمو الفرد، وبقاء حياته، وبقاء نوعه. وإنما الطبيعة قرنت هذه الغاية بلذة لكي تغريه على الاندفاع في الفعل، فالغاية القصوى من الفعل ليست السرور، وإنما جاء السرور معها ومع الفعل توقعًا له، كدليل على أن ما يندفع في فعله إنما هو حسن له، وصالح لبقائه وحياته ونجاحه إلخ، فالسرور حركة نفسانية سيكولوجية، والغاية أو الغرض حركة حيوية بيولوجية.

(١-٤) هل اللذة هي الغاية القصوى؟

بعد هذا البيان ترى أن نظرية الفريق الثاني القائل بأن الغاية تختلف عن السرور إنما هي نظرية وجيهة، ولكن الفريق الأول؛ أي السروريين، مع ذلك يصرون على أن الغاية القصوى هي السرور بعينه؛ لأنه متى لم يتوقع الإنسان سرورًا من فعلٍ فلا يندفع فيه. وإذا كانت الطبيعة قد جعلت اللذة مغريًا للإنسان لكي يندفع في الفعل لأن غرضها حفظ الحياة وبقاء النوع؛ فالإنسان لا يكترث بتنفيذ غرض الطبيعة، بل يترك الطبيعة تفعل فعلها وهو يتوخى لذته؛ لذلك هو يرمي في كل أفعاله إلى الحصول على لذة، فهي غايته القصوى.

وهذه النظرية وجيهة أيضًا لأدلة عديدة، فالإنسان يسعى إلى ادخار المال لا لأنه في حاجة إليه، بل لأنه يستلذ التنعم به، وقد يكون ترفه مفضيًا إلى عكس الغرض الذي ترمي إليه الطبيعة؛ قد يمرض ويموت عاجلًا، فكأن الثروة التي أفضت إلى رفاهيته وترفه كانت سيئة العاقبة له. وقد يعلم ذلك جيِّدًا، ويفهم من اختباره بغيره أن الانغماس في شهوته يقصر عمره، فهو يريد الحياة عريضة قصيرة؛ لأنه يبتغي اللذة لنفسها، لا البقاء والحرص على الحياة.

كذلك فاعل الخير وخادم الإنسانية لا يتوخى من وراء فعله خيرًا لنفسه، بل تمتعًا بسرور الضمير بلذة الشهرة والمجد، كذلك الفنان يستسلم للعمل في الفن الجميل؛ كالشعر أو الموسيقى، وهو يعلم أنه فقير قليل التمتع بأطايب الحياة، وأن الفنَّ لا يغنيه، ولكنَّه يجد لذة في فنه.

فاللذة هي الغاية القصوى من الفعل الذي يرمي به الإنسان إليها، ولا غاية له سواها، فهي مصاحبة الخلق المحرك للفعل منذ بدء النبضة الغريزية؛ أي استفزاز التعقل للتدبر والتدبير، إلى الاندفاع في الفعل إلى النهاية. وإذا كانت اللذة تنتهي عند الوصول إلى الغرض؛ فلأن الفعل انتهى، وانتهت بنهايته اللذة؛ لأنها كانت مصاحبة له، وإنما هي المقصودة من الفعل؛ ولهذا يعد تصور وقوعها محركًا للفعل، أو على الأقل مصاحبًا للخلق الغريزي الذي نبض لتحريك الفعل.

مع ذلك يعلل الفريق الثاني هذه الأمثلة المتقدمة وأمثالها بأن غرض الحرص على الحياة، أو تلبية الحاجة التي قضت بها الطبيعية كامن في الفعل؛ فالإنسان مهما كان يتوخى اللذة فلا يغفل عن الحرص على حياته وبقائه كغاية قصوى، بدليل أن المنغمس في شهواته لأجل التمتع باللذات متى ساءت عاقبة انغماسه، وشعر أنه أخطأ ولم يختر الحسن الصالح لنفسه، علم أن اللذة ليست الغرض الأول، بل الحياة والبقاء هما الغرض، وما اللذة إلا أمر مصاحب للفعل. واختيار الفعل الأصوب، ولو كان أقل لذة، إنما هو من وظيفة التعقل، فالتعقل خانه.

(١-٥) أدبية الفعل فصل الخطاب

على أن هذه الحقيقة تخرجنا من دائرة البحث فيما إذا كانت اللذة غاية أو واسطة للغاية، إلى دائرة الحكم في أدبية الفعل؛ هل هو صواب أو خطأ؟ وهو ما لا محل له في هذا الفصل. وفيما تقدم بيان كافٍ على ما نظن لتدبر القارئ في المراد باللذة والغاية، وهل هما شيء واحد أو مختلفتان. فإن نظرنا في المسألة من وجهة الفعل بحد ذاته، ومن وجهة المحركات له؛ كانت اللذة غاية الغايات التي يرمي إليها الإنسان في أفعاله على الإطلاق.

إنما إذا نُظر إليها من وجهة أدبية الفعل، وهل هو حسن أو صالح، صواب أو خطأ، كانت الغاية شيئًا، واللذة شيئًا آخر، وكانت الغاية الحرص على الحياة والنجاح في هذا الحرص، وكانت اللذة مغرية على الفعل ودليلًا على أنه حسن. وإنما قد تكون دلالتها مضلِّلة؛ ولهذا تُلقَى المسئولية على التعقل الذي له وظيفة الحكم.

ومما تقدم تفهم سبب الفرق بين الفريقين، وهو أن الأول يغفل أدبية الفعل في حكمه على اللذة والغاية، وفي قوله بأنهما شيءٌ واحد، والآخر لا يرى بدًّا من اعتبار أدبية الفعل في الحكم على اللذة والغاية؛ لأن الإنسان ليس حيوانًا مسيَّرًا بحكم الغريزة وحدها، بل له تعقل ذو سلطان على غريزته، فلا يعمل عملًا إلا إذا كان للتعقل يد فيه حتمًا؛ ولذلك يفكر ليختار بين لذتين، وأيهما أضمن لنجاحه في الحياة. فالحرص على حياته وبقائه ضربة لازب في أفعاله، فلا يمكن أن تكون اللذة غايته القصوى ما دام إنسانًا أدبيًّا لا حيوانًا غريزيًّا فقط.

(٢) قيمة السرور

إن قيمة السلوك تقاس بالسرور الذي ينتجه؛ ولذلك يعد السلوك حسنًا بالنسبة لما ينتجه من السرور، فإذا أنتج سرورًا أكثر مما كان ممكنًا أن ينتجَ عُدَّ حسنًا، وإن أنتج أقل مما كان ممكنًا أن ينتجَ عُدَّ سيئًا؛ مثال ذلك: أن تصطحب عائلتك إلى متنزَّهٍ، فإذا أخذتها في سيارة دفعت أجرة أكثر جدًّا مما لو أخذتها في الترام، وكان ممكنًا أن تنفق الفرق بين أجرة السيارة وأجرة الترام في أمر آخر يزيد سرورها؛ فإذن أخْذها في الترام أوفر سرورًا من أخذها في سيارة، ولذلك يعدُّ السلوك الأول سيئًا، والثاني حسنًا.

(٢-١) تعاقب اللذة والألم

لا عبرة في الداعي للسلوك، وهو طلب السرور، بل العبرة في قيمة السرور الذي ينتجه السلوك. ولكل ضرب من السلوك وجهان: سارٌّ ومؤلم، فيقال: هذا أحسن من ذاك؛ لأن سروره يزيد على ألمه، والعكس بالعكس.

فالحكم في أي الوجهين أكثر مسرة يستلزم التبصرة في ظروف السلوك وعواقبه من قبيل المبادئ الأدبية، فالشخص الذي ينغمس في الملاهي الجسدية يجد لذة فيها، ثم يجد ألمًا في عواقب انغماسه، من أمراض وخسارة مال وسوء سمعة، فإذا استبصر في سلوكه ووازن بين ماضيه من لذة وألم، فربما وجد الألم يتفوق على اللذة، وحينئذٍ يدرك أن سلوكه سيئ فيعدل عنه.

وكذلك الغشاش يجد سرورًا في غشه؛ إذ يتمتع بمال لم يتعب فيه، ولكنه يجد أيضًا ألمًا في فقد الثقة به، فضلًا عما يشعر به من توبيخ الضمير لاختلاسه حق غيره، فإذا وازن بين سروره وألمه شعر أن سلوكه كان سيئًا، فالسلوك الرديء هو الذي ينتج أقل سرورًا لا الذي لا ينتج سرورًا بتاتًا؛ لأن الإنسان لا يسلك سلوكًا خلوًّا من ملذة البتة. ومهما كان السلوك حسنًا وأعظم مسرة فلا يخلو من ألم.

ربما كان تحصيل المعرفة أعظم مسرة عندك، فالجهاد في تحصيلها ألم، وإن كنت لا تشعر بألمه في حال شعورك بسروره؛ فقد يضعف صحتك أو يشغلك عن المكسب، فتضطر أن تعيش مقترًا، كذلك إذا كنت ولوعًا بالكسب فجهادك في الحصول عليه ألم، وإذا كنت ولوعًا بادخار المال فبخلك به على نفسك ينتج ألمًا.

(٢-٢) تفاوت المسرات

وقد اختلف الباحثون في كيفية المسرات وكميتها؛ فقال بعضهم: إنها تختلف كمية فقط، وقال آخرون: تختلف كمية وكيفية أيضًا.

المسرات تختلف كيفية باختلاف مواضيعها؛ فلذة العالِم تختلف عن لذة الغني، ولذة الفنان تختلف عن لذة الاقتصادي، ولكن القائلين بكمية اللذة فقط يقولون: إن اختلاف المسرات باختلاف مواضيعها يردُّ كيفياتها إلى كميات ويحملنا على القول: إن مسرة الشاعر بشِعره أعظم من مسرة الكاسب المال بكسبه، وإذا شئنا أن نجعل قاعدة لنوعية المسرات كمًّا أو كيفًا، فقد لا نجد هذه القاعدة إلا في قيمة المسرات وما يستحقه السلوك منها، وهي تعود بنا إلى الكمية فنقول: إن هذه المسرات أعظم قيمة من تلك، ولا فرق في اختلاف كيفيتها؛ إذ لا عبرة بالكيفية في الشعور بالسرور، فالمسرات تختلف باختلاف الشعور بها، والشعور يكون كثيرًا أو قليلًا.

(٢-٣) مقايسة المسرات

إذا كان الأمر كذلك، فكيف تقاس المسرات ليعلم أعظمها من أصغرها؟٢

وإذا كانت قيمة المسرة تتوقف على الشعور بها، فكيف تمكن مقايسة المسرات بعضها ببعض ليعلم أعظمها أو أصغرها؟ والشعور خاص بالذاتية الشخصية، ولا يمكن أن تدرك شعور غيرك لتقيس شعورك به. جل ما في الأمر أنك تقيس شعورك بهذا السرور بشعورك بسرور آخر سابق. ومع ذلك، فإن ذاتيتك تتغير كل حين بعد آخر، فما تشعر الآن به سرورًا عظيمًا لا تشعر به في حين آخر كذلك، فالمسألة تتوقف على الذاكرة، وهي خزانة المدركات والمحسوسات لا خزانة الشعور؛ لأن هذه يحتمل أن تضل. إذن تبقى المسألة منحصرة في وزنك العقلي الأدبي للمسرات المنتظرة أيها أعظم، والوزن العقلي حكم على أدبية التصرف لا على مقدار السرور؛ فقد لا تجد سرورًا أعظم أو أقل مما كنت تنتظر.

فالحكم لا يتناول الشعور، بل أدبية هذا الشعور؛ فأنت تبتغي السعادة العامة لا السرور بعينه. وهذه تستلزم أن السرور الذي تبتغيه يجب أن تراعي به سرور غيرك، فالسرور الذي يثلم سرور غيرك لا يعد عظيمًا؛ لأن السرور الذي لا يمس سرور غيرك أعظم منه، وأعظمُ مِن هذا السرورُ الذي يأتي معه سرورُ غيرك.

إذن السرورُ الأعظم هو السرورُ الذي يأتي معه سرورٌ للعدد الأوفر من الآخرين؛ لهذا يعدُّ سرور منشئ المدرسة أو المستشفى مثلًا أعظم من سرور الذي يحسن على فقير، لأن سرور ذاك جاء بسرور لعديد من المحتاجين للعلم والشفاء. لا يعد كذلك في نظر منشئ المدرسة ولا في نظر المحسن على الفقير؛ لأن لكل منهما شعوره الخاص، فربما كان شعورهما متساويًا، وإنما هو كذلك في نظر الرأي العام؛ ولهذا تتفوَّق سعادة الأول على سعادة الثاني، ولكن لا مقايسة بينهما.

وهنا لا بد لنا من العودة إلى نظرية السروريين لتبيان قيمة السرور واللذة.

(٣) نظريات السرور

أخذت «السرورية» شأنًا عظيمًا في مباحث علماء أدب النفس حتى إنها تشعبت وتطورت تطورات مختلفة، فبعض السروريين يقولون: إن الإنسان يبتغي السرور من طبعه، والسرور بغيته القصوى في كل حال. وتسمى هذه: النظرية السرورية السيكولوجية؛ لأن تعليلها فلسفي عقلي، وهي: «نظرية القول بالأمر الواقع».

ويقول آخرون: يجب على الإنسان أن يطلب السرور لأنه هو الغاية القصوى. وهذه النظرية تسمى: السرورية الأدبية؛ لأنها تعلل من وجهة الواجب الأدبي، وهي نظرية القول بقيمة الفعل، أو نظرية القاعدة التي بموجبها يجب أن يفضل شكل من الفعل على الأشكال الأخرى.

وهناك آخرون يقولون: إن ما يبتغيه الإنسان أو ما يجب أن يبتغيه هو سروره، وتسمى هذه النظرية: السرورية الأنانية، وهي قديمة منذ عهد الأبيقوريين، ولكنها أهملت لمناقضتها لتعليم أدبية الشخصية الاجتماعية، كما أن السرورية السيكولوجية تكاد تهمل أيضًا، وآخرون يقولون: إن ما يبتغيه الإنسان أو يجب أن يبتغيه هو سرور جميع الناس، أو جميع المخلوقات الحساسة، وتسمى: السرورية العامة أو النفعية Utilitarianism.

(٣-١) السرورية الأدبية الأنانية

علمت مما تقدم أن السرورية الأدبية الأنانية مرفوضة لمناقضتها للمبادئ العامة، ولا يستطيع أن يبررها القائلون بها إلا حين يقولون: إن على المرء أن يبتغي سروره الأعظم، اللهم إذا لم يمس سرور الآخرين، أو أنه يطلب سرور الآخرين ما دام يتفق مع سروره الأعظم.

أما ابتغاء السرور الأعظم فيستلزم تقدير قيمة السرور أو المسرات، وقيمة السرور يمكن أن تقدر بأمرين أو بأحدهما: الحدة والمدة، فبعض أنواع السرور تفضل على البعض؛ إما لأنها أشد تحريكًا للشعور، أو لأن الشعور بها أدوم. وقد أدخل بعضهم في تقدير القيمة عدد أنواع السرور، ولم يروا بدًّا أيضًا من اعتبار الألم المنافي للسرور؛ ولذلك أصبح تقدير قيمة السرور مسألة رياضية، فتعين لحدته ولمدته قيمة واحدة، وله القيمة الإيجابية، وللألم القيمة السلبية، فتطرح وحدات هذا من وحدات ذاك، والباقي هو السرور الأعظم.

ومع أن «السرورية الأنانية» مناقضة للروح الأدبية العامة، فقد حسبها بعضهم — كالدكتور سيدويك Dr Sidwick — أمرًا لا بدَّ من اعتباره في الأدبيات؛ لأن الغاية التي نقصد إليها لا بدَّ أن تكون غاية تجلب معها إرضاء مطالب طبيعتنا. ومهما قلنا: إن هناك سببًا خارجيًّا يحملنا على أي قصد أو غاية، نجد أن هناك مطلبًا أقصى في طبيعتنا يحملنا على قبول هذا السبب الخارجي. وإذ سُئِلنا: ما هو الذي يرضي مطالب طبيعتنا؟ قلنا: هو السرور. هذا هو تعليل السروريين.

(٣-٢) السرورية الأدبية العامة

علمت أن السرورية الأدبية العامة هي أن تبتغي أعظم سرور ممكن لجميع الناس، ولكن إذا سألت السروريين: لماذا نقول إننا نبتغي أعظم سرور ممكن لجميع الناس، ولا نقول إننا نبتغي أعظم خير لجميع الناس؟ قالوا لك: لأننا نجد سرورنا في هذا الابتغاء، فنحن نقصد سرورنا المشتق من سرور الجمهور لا خير الناس، وما ابتغاء الخير إلا واسطة للحصول على هذا السرور الذي نقصد إليه، ولا أحد يبتغي سرور المجموع إلا تذرعًا للحصول على سروره الخاص.

(٤) السعادة

قد يتراءى لك أن السعادة والسرور لفظان مترادفان لمعنًى واحد؛ لأنك تقول: طالما أنا مسرور فأنا سعيد. والحقيقة أن السعادة أعم من السرور؛ فكل سعادة هي سرور ولا يعكس، وبينهما فرق من حيث كيفية السرور لا من حيث مقداره. وقد حددهما «مويرهد» بأن السعادة هي شعور آخر يرافق الشعور بالسرور مع ما فيه من الألم في الجهاد للحصول على السرور، أو ما فيه من فشل السلوك في الحصول عليه بتاتًا — أو ناقصًا — شعور بأن المرء سلك سلوكًا حسنًا، فالذي تستفزه المروءة لتخليص غريق إذا لم ينجح تألَّم لفشله، لكنه يكون سعيدًا بأنه لبَّى داعي المروءة.

نقول إذن: إن السرور هو ما رافق السلوك ونتيجته، والسعادة هي استمرار الشعور بالسرور بعد انتهاء السلوك وانتهاء نتيجته. السرور شعور بإرضاء الرغبة؛ كإشباع الشهوة، أو إرضاء أي خلق، والسعادة شعور النفس بكليتها من غير نظر إلى الخلق الذي أُرضي. بعد الفعل الحسن تبقى شاعرًا بسرور عام في ذاتيتك كلها. السعادة نتيجة السرور الأعظم الذي تتمتع به الذات من الوجهة الأدبية؛ فمن يعمل عملًا وطنيًّا، أو يجعل الفضائل قاعدة سلوكه؛ يشعر بسرور نفس مستمر. فهي السعادة.

فإذن الحسن يقاس بما ينتجه من السعادة، والأحسن هو الأسعد كما أنه الأَسَرُّ. وهذه القاعدة تضعف حجة السروريين الذين يقولون بأن السرور هو الغاية القصوى للسلوك؛ لأن السعادة ليست ابتغاء السرور لنفسه، بل السرور واسطة لغاية أفضل. فالذي يتبرع بمال لإنشاء مدرسة مثلًا يحرم نفسه لذة التمتع بماله لكي يتمتع بسعادة النفس من جراء تبرعه، فسروره بإنشاء المدرسة لم يكن إلا وسيلة لهذا العمل الإنساني. وهو لم يبتغ السرور لنفسه، بل العمل الإنساني، وإنما هذا العمل جلب سروره.

فهنا التمتع الذاتي يُضحِّي في سبيل الخير العام، النجاح الفردي يُضحِّي لأجل النجاح العمومي. وستعلم أن قاعدة السلوك الأفضل والأتم سعادة هو ما آل إلى الرقيِّ العام نحو المثل الأعلى.

١  السرور واللذة لفظان مترادفان، فإذا استعملنا هذه تارة وذاك أخرى عنينا معنًى واحدًا.
٢  قد عانى جرمي بنثام في تحديد أقيستها؛ فحصرها في سبعة: حدتها أو شدتها، ومدة حصولها، وقربها، والتأكد من حصولها، ونقاوتها من الآلام؛ أي إن آلامها أقل، وثمرتها؛ أي الغاية الأدبية المفضية إليها، واتساع دائرتها. وللقارئ أن يستبصر في هذه الأوصاف إن كانت تكفي لتحديد قيمة السرور أو مقداره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤