الفصل الرابع

مستندات الضمير في قضائه

قد يلوح للقارئ أن الضمير يعتمد في اشتراعه وقضائه وأحكامه على الإحساس الأدبي العام، كأنَّ في الهيئة الاجتماعية روحًا أدبية عامة توحي لكل فردٍ سليم العقل، وأدبي النفس، قاعدة الحق والصواب. وربما حسب القارئ هذا الإحساس العام الضمير بعينه؛ لذلك يجدر بنا أن نتبسط بهذا الموضوع لكي نتوصل إلى مصدر قوة الحُكم.

(١) الإحساس الأدبي الخاص

(١-١) نقد الإحساس الأدبي

الشرائع المدنية والدينية، التي هي خلاصة روح الاجتماع، حتى الشرائع الطبيعية توحي إلينا مبادئ أدبية؛ إما لأنها توافق وجداننا، أو لأن وجداننا يرتاح إليها، أو لأننا نشعر أن طاعتنا أو مراعاتنا لها تُقدِّرنا على نيل مثل أعلى في ذاتيتنا، فإذن بين عقولنا وبين تلك المبادئ أو السنن الخارجية علاقة أو صلة طبيعية. ولإدراك هذه الصلة، نجد فينا شعورًا أو إحساسًا يحملنا على استحسان بعض الأمور، واستقباح أو استهجان بعض الأمور الأخرى. وهذا ما نسميه الإحساس الأدبي.

هذا الإحساس الأدبي يقرب ما بين الجميل والجيد، كما أنه يقرب بين الجيد والصواب والحق، حتى نكاد نرى هذه المبادئ الأولية مبدأ واحدًا. والحقيقة أنها متفرعة من مبدأ واحدٍ حتى نكاد نحكم أن الجميل مثلًا هو الجيد الوحيد، أو أن كل جيد جميل وبالعكس.

والحقيقة أنه مهما قرَّب الإحساس الأدبي بين الجيد والجميل يبقى بينهما فرق يميز أحدهما عن الآخر؛ فاستحسان الجميل يرجع للذوق، واستحسان الجيد يرجع للحكم الأدبي، فنقول: إن هذه الصورة جميلة لأنها توافق ذوقنا، ونقول: إن صنع هذه الصورة للذكرى أمر جيد؛ لأن وجداننا حكم بجودته؛ ففي الحالة الأولى لا ينتقد ذوقنا إلا أهل الفن، وأما في الحالة الثانية فينتقد حكمنا الرأي العام. استحسان الجميل ذوق عقلي لا يحتاج إلى تعليل ولا يناقش فيه، وأما استحسان الجيد، أو بالأحرى استصوابه، فيستلزم تعليلًا وتفسيرًا. وكل ما يستلزم التفسير يستلزم الحكم بكونه جيدًا أو غير جيد؛ وبالتالي يحتمل النقد.

هذا هو الفرق بين الجيد والجميل؛ ولذلك يوجد فرق بين الإحساس الأدبي والإحساس الفني. وقد تطرف بعض الباحثين — ومنهم شفتسبري وهتشنصون — فتصوروا الإحساس الأدبي ذوقًا أدبيًّا مماثلًا للذوق الفني؛ مثلًا لو سألك سائل: لماذا تشمئز من كونك عاري الجسد وأنت وحدك في منزلك؟ فقد تستهجن سؤاله، وإن أصرَّ على طلبه الجواب قلت له: لأن لي عينين تريانني نفسي في المرآة فأستقبح نفسي، وإذا قال لك: هب أنك كنت في الظلام، فتقول: مع ذلك أستهجن عريي؛ لأن أدبي يستنكر عري الجسد، وإلا فأنا حيوان لا أحترم نفسي.

ومعنى ذلك أن الذوق الراقي يرشد إلى الجيد، كما أنه يشمئز من المنكر، وأن السنة الذوقية الأدبية غريزة، أو غريزة ثانوية على الأقل تستنكر المنكر حتى ولو كان خفيًّا كاستنكار العُرْي في الظلام.

(١-٢) الذوق الأدبي غير كافٍ للحكم

فبهذا الاعتبار يمكن أن يقال: إن الإحساس الأدبي نوع من الذوق، وإنما لكونه هكذا لا يعتمد عليه كل الاعتماد في إدراك الحق والصواب؛ لأنه كذوق لا يقبل التعليل، وبالتالي لا يقبل النقد ولا يصلح قاعدة للحكم الأدبي؛ لأن الحكم الأدبي محصورٌ في دائرة التعليل والنقد. كذلك الذوق الفني، متى كان يقبل التعليل، وبالتالي يقبل النقد والحكم، خرج من دائرة الإحساس الفني إلى دائرة الإحساس الأدبي.

ومع ذلك، لا يكفي الإحساس الأدبي أساسًا للحكم في موضوعه، فإذا قلت للشعراء: هذا الشعر جميل أو غير جميل، فقد يخالفونك ويبرهنون لك الخلاف، وحينئذٍ تخرج المسألة من دائرة الذوق الفني إلى دائرة الذوق الأدبي؛ ولذلك إذا كان الذوق الأدبي عُرضة للتعليل والتفسير كان بطبيعة الحال خاضعًا للحكم التعقلي. ومع ذلك، هذا الاعتبار لا يكون قاعدة أدبية كافية، وإنما هو درجة راقية في الشخصية الأدبية تساعد كثيرًا في الحكم. هو ظاهرة اجتماعية ترقى بالترويض والتهذيب. ذو الإحساس الأدبي لا يضطر إلى إنعام النظر في المبادئ الأدبية؛ لأن هذه المبادئ مندمجة في ذوقه الراقي المهذب.

(١-٣) تكوُّن المبادئ العمومية

على أننا في الأدبيات نحتاج إلى مبادئ عمومية غير خاصة بذوي الذوق الراقي فقط، بل بجميع طبقات الناس على السواء، كما أننا نحتاج إلى معرفة ما يُكوِّن الذوق الأدبي الراقي في سائر الجنس البشري. وبهذا الاعتبار يختلف الإحساس الأدبي عن الإحساس «أو الذوق» الفني. وإذا كان المرء ضعيف الذوق الفني فلا ينتفي أنه عضو أدبي سليم في جسم المجتمع، ولكن إذا كان ضعيف الإحساس الأدبي كان عضوًا مريضًا في جسم المجتمع.

وإذا تعمقنا في تحليل الإحساس الأدبي، المشار إليه آنفًا، بلغنا إلى الضمير، وهناك نجد جذوره، وقد نجده متصلًا بالبديهة أو قسمًا منها، إذا لم يكن هو إياها بعينها؛ فالبديهة تعلم أن الأفعال صواب أو خطأ بحسب طبيعتها الداخلية، لا بحسب الغايات الخارجة عنها التي تتجه إلى تحقيقها؛ فالصدق مثلًا يعد واجبًا لا لأنه أمر جوهري للشخصية الاجتماعية، ولا لأي سبب خارجي، بل لأنه صواب وحق بحد ذاته. فهو صوت في الضمير جازم بالحكم بلا اعتراض ولا تأويل، هو إدراك المرء المطابقة التامة بين أفعاله وقاعدة الحق والصواب القائمة في يقينه، فإن ظهر في هذه القاعدة عيب؛ فلأن العيب في الضمير نفسه أيضًا؛ أي إن الضمير عليلٌ.

والمرء الذي لا يفعل بضمير سليم يرتكب الخطأ طبعًا، ولكن إن كان المرء حسن الضمير وفعله خطأ؛ فلأن في قاعدته الأدبية عيبًا: فتاجر الخمور لا يعد عليل الضمير، وإنما العلة في قاعدته الأدبية؛ وهي «أن التجارة حرفة محللة»، فهو لا يرغم السكِّير على شراء خمره، وإن لم يبعه هو الخمر باعه إيَّاه سواه.

كذلك الجلاد لا يعد عليل الضمير، وإنما العلة في قاعدته الأدبية؛ وهي أنه ليس إلا آلة لتنفيذ الحكم بالموت على المجرم. ففظاعة تنفيذ هذا الحكم تنسب لقانون الحكومة لا له، فإذا اقتنع يومًا ما أن الحكم بالموت أمر فظيع على كل حال، ويجب أن يبطل من العالم؛ أصبح قبوله لوظيفة الجلاد خطأ أو إثمًا، كذلك تاجر الخمور إذا اقتنع بأن هذه التجارة حرام وبقي متاجرًا بها عُدَّ أثيمًا.

(٢) الإحساس الأدبي العام

(٢-١) انبثاث المبادئ في المجموع

يستفاد مما تقدم أن القواعد الأدبية تختلف باختلاف الضمائر السليمة في درجة تروضها وتهذبها، فقد تكون قاعدتك الأدبية غير قاعدتي؛ ولهذا نختلف في الحكم بالرغم من أننا كلينا سليما الضمير، وإنما هناك إحساس عام تلجأ إليه الضمائر السليمة، وتستمد منه القواعد الأدبية.

فإدراك الصواب والخطأ في الأفعال قوة كامنة في كل الناس، وإنما هذه القوة متفاوتة فيهم، وهي في بعضهم مروضة أكثر من بعض. وأما المبادئ التي تحوم حولها مدارك الناس فإنما هي قائمة في الإحساس العام الذي يكوِّن المبادئ الأدبية العليا، وإليها تلجأ الضمائر في اتخاذ قواعدها للحكم؛ لأن هذه المبادئ منبثة في المجموع.

(٢-٢) الإحساس العام غير كافٍ للحكم

ولكن الإحساس العام يختلف أيضًا باختلاف الأقوام والأزمان، حتى باختلاف طبقات الناس وأعمارهم؛ لأن مرجعه إلى العقلية، والحقيقة العقلية غير مقررة في العقل الاجتماعي؛ وبالتالي يكون الحق الأدبي المسند إلى العقل الاجتماعي غير مقرر أيضًا. فإذا عرض للعقل الإنساني مبدأ أدبي أعمق من مبادئ الإحساس العام حدث ارتباك عند الضمير؛ ولذلك لا يستطيع الضمير أن يستند على الإحساس العام وحده، كما رأينا أنه لا يستطيع أن يستند على الإحساس الأدبي الفردي، الذي رأينا أنه يكاد يتحد بالبديهة كشيء واحد.

وحينئذٍ يصبح الضمير نفسه عُرضة للوقوع تحت الحكم فيما إذا كان صائبًا أو مخطئًا، وحينئذٍ ترانا كأننا في حاجة إلى ضمير أعلى يحكم على الضمير المعتاد، فإن كان ثمة لنا ضمير آخر يحكم على الضمير فلا نجده إلا في التعقل. إذن الضمير يحتاج إلى التعقل مع الإحساس العام والإحساس الأدبي الفردي أو البديهة؛ فإذن لا غنى لنا في الارتشاد إلى المبادئ أو القواعد الأدبية عن التعقل. وكما أن لنا تعقلًا فكريًّا يعيننا على استنتاج الحقائق من الظواهر العلمية، كذلك لنا تعقل أدبي يعيننا على استنتاج سنن الحق أو المبادئ الأدبية.

(٣) الحكم بحسب الشرائع

(٣-١) هل يمكن أن تكون الشريعة قاعدة للحكم الأدبي؟

الشريعة قرار أجنبي عن الضمير، قرار بصواب الأمر أو بخطئه. ويعني بها أية شريعة؛ دينية أو سياسية أو أدبية، نافذة بحكم التقليد. فحكم الشريعة قد يسكت له الضمير؛ لأنه صادر من سلطة فوق سلطانه، وبهذا الرضى لا يكون السلوك أدبيًّا؛ لأنه غير مسند إلى حكم الضمير، لخلوه من الإرادة الحرة، ولاحتمال أن يكون بين حكم الشريعة وحكم الضمير تضارب أو تباين؛ فهو إذن طاعة لوصية أو أمر خارجي، لا سلوك أدبي.

وإذا تضاربت الشرائع أو ناقضت بعضها بعضًا، كما لو ناقضت الشريعة السياسية الشريعة الدينية، أو الشريعة الأدبية التقليدية؛ كأن تجيز الشريعة السياسية الطلاق، والدين والعرف يحرمانه، أو كأن تحرِّم الشريعة الدينية الرِّبَا، والسياسية تُحلِّله باعتبار أنه مرابحة لا رِبا، التجأ الضمير إلى التعقل لتفسير الشريعتين والتوفيق بينهما؛ إذن لا تعد الشريعة حكمًا أدبيًّا مقررًا للصواب أو الحق.

حتى الشرائع الدينية تتصادم؛ فشريعة المسيح الذي قال: إنه لم يأتِ لينقض بل ليكمل، مناقضة لشريعة موسى؛ موسى قال: «عين بعين.» والمسيح قال: «من لطمك على خدك الأيمن فحوِّل له الأيسر.» والشريعة المدنية لا تقول هذا ولا ذاك، بل تقول: «قاضِه؛ فيعاقب بحبس وغرامة.»

إذن يتعذر عليك أن تجد في الشرائع قواعد عامة تعدُّ قواعد أدبية يستند إليها العقل في الحكم؛ ولهذا كان المشترعون يحاولون أن يضعوا لكل حالة من الأحوال قانونًا خاصًّا بها. ومع تعدد الشرائع وتفرعها وتوسعها، لم يستطيعوا أن يحصروا جميع الأحوال ويحددوا لها شرائع معينة، ولا أمكنهم أن يجعلوا الشرائع جامعة مانعة غير متضاربة ولا متناقضة، بل يستحيل أن تكون الشرائع كذلك، كما أنه يستحيل حفظها في الذاكرة لتكون مستندًا في الحكم. وهب أن هذا المستحيل صار ممكنًا، فالاستناد على الشريعة ينفي أدبية السلوك نفيًا باتًّا، ويلغي وظيفة الضمير؛ لأنه لا يبقى محل للاختيار حين يُقال: هذا حق وهذا باطل، أو هذا صواب وهذا خطأ.

(٣-٢) لا

وإذا شئنا أن نستخرج من الشرائع عمومًا قاعدة أدبية عامة لنجعلها مستندًا للحكم، فلربما انتهينا عند الآية الذهبية: «حب قريبك كنفسك.» فهي قاعدة أدبية لا قانون شرعي. ومع ذلك، هل تعصم من الخطأ وتغني عن حكم الضمير؟ هب أن لي هذه الفضيلة، أي إني أحب خير غيري كخير نفسي، فإذا كان خير غيري يناقض خيري فماذا أفعل؟ هنا يجب أن أزن بين الخيرين وأرى أيهما أرجح فأفعله؛ إذن أراني محتاجًا إلى قاعدة أخرى لا تستند إليها، هي الموازنة بين الخيرين للعلم أيهما أرجح؟ وإذن أراني مضطرًا للالتجاء إلى «التعقل» وانتداب الضمير ليقوم بوظيفته في إصدار الحكم الأدبي.

فترى مما تقدم أن الشرائع مهما عدلت وكانت مُحكمة فلا تعد قاعدة للحكم الأدبي، وإنما هي وصايا وأوامر تطاع رضوخًا لسلطة نافذة. نعم، إنها زبدة أحكام أدبية، ولكنَّها أصبحت خارجة عن دائرة التعقل الأدبي، وبالتالي هي خارجة عن دائرة بحثنا. لا تعد الشريعة حكمًا أدبيًّا إلا متى قبلها الضمير وأمر بإجراء الفعل بموجبها؛ لأن الحكم الأدبي هو ما يصدر من داخل النفس لا ما يُوجَب عليها من خارجها، ولا يقبلها الضمير إلا إذا كانت موافقة لحكمه ومزكية له.

(٤) البديهة

إذا كان الإحساس الخاص والإحساس العام والذوق الأدبي والشرائع لا تصلح مستندات كافية لقضاء الضمير وسداد حكمه، فإذن أين نجد مستنداته القوية المتينة؟ يقال: في البداهة شيء منها؛ فلنبحث في البداهة أو البديهة.

(٤-١) استقلال قوة الضمير

وتمهيدًا للبحث نستخلص هنا بيان الأستاذ مويرهد عن الضمير: «(١) الضمير شيء بسيط غير مشتق «أي أنه قوة مستقلة». (٢) إن أحكامه بديهية في حالة حدوث الأفعال أو في حالة تصورها بالشكل الذي تتهيأ به، فيشجب الكذب والجبن مثلًا، ويوافق على الصدق والشجاعة من غير أن يعلل حكمه. (٣) لذلك له سلطة خاصة فيأمر من غير نظر إلى الاعتبارات الأخرى كاللذة والنفع. (٤) لذلك هو عام؛ أي موجود عند جميع الأشخاص الأصحاء العقل. ولا نعني بعموميته أنه موجود في كل شخص وسلالة راقيًا بالتساوي، كما أن قوة تمييز الألوان والأشياء وقوة التعقل غير موجودة بالتساوي عند كل الأشخاص والسلالات، بل نعني أن هذه القوة موجودة في داخل كل شخص كما أن قوة التمييز موجودة أيضًا.»١

(٤-٢) غريزية البداهة

وبداهة الضمير في أحكامه غريزية كسائر الغرائز، وكونها غريزية جعلها قابلة للتطور كسائر الغرائز، تبعًا لتطور عقلية الإنسان واجتماعيته؛ ولهذا تختلف قوة البداهة عند الأفراد والأمم والقبائل؛ فبالبديهة يسارع الهمجي إلى حمل حربته للدفاع مع إخوانه عن قبيلته، وبالبديهة يسارع السياسي المتمدن إلى حل المشكلة السياسية بالمساومة تداركًا لنشوب الحرب.

فالضمير في حكمه البديهي لا يعتمد على سبب أو تعليل، بل هو صوت داخلي يصدر على الفور قائلًا: إن الكذب إثم والصدق فضيلة مثلًا، ولا يستمد رأي التعقل إلا متى اختلط عليه الأمر بين خيرين أو شرين.

(٤-٣) نشوء البديهة

وهنا تسأل: كيف نشأت البديهة وكيف تتطور؟ من أين جاء هذا الصوت على الفور؟ نقول:
  • أولًا: إن البديهة في الأصل قضاء اجتماعي غرس في الذهن على تمادي الزمان مبادئ الحق والصواب والجودة إلخ؛ فصارت وراثة طبيعية، فهي كسائر القوى العقلية التي اقتضاها الاجتماع الإنساني فأصبحت راسخة، وكسائر النزعات التي اقتضتها الطبيعة فصارت غرائز.
  • ثانيًا: إن التربية الاجتماعية لا تزال تغرس في الذهن هذه المبادئ، فالإنسان منذ يولد إلى أن يشب لا يرى حوله إلا قدوة السلوك والتمييز بين الجيد والرديء، والحق والباطل، والصواب والخطأ، فلا بدع أن تزداد هذه المبادئ فيه انغراسًا. وانغراسها على هذا النحو يقرر بداهتها. هذا برهان آخر على أن البداهة وراثية.
  • ثالثًا: إن الاختبار الشخصي يزيد هذه المبادئ انغراسًا ورسوخًا في الذهن؛ فيتعلم المرء بنفسه من مبادئ الحق ما لم يعلمه.
  • رابعًا: التاريخ يمنح الأمم والأفراد فطنة للحق والصواب.

فجميع هذه العوامل تجعل الحق والصواب والجودة إلخ أمورًا بديهية في الذهن؛ بحيث إن الضمير يُصدر حكمه من غير تفكير في السبب.

(٤-٤) مزكيات البديهة الضميرية

مع كل ذلك لا يندر أن تصطدم البديهة بالمتناقضات والمتضاربات، فماذا يفعل الضمير حينئذٍ؟ يلتمس تزكية الشريعة والإحساس العام لترجيح أحد المتناقضات على الآخر أو الأُخر. والشريعة تزكي حكم الضمير لما توجبه من العقاب عند مخالفتها، والمزكيات خمس كما ذكرها مويرهد: (١) التزكية الطبيعية: وهي توقع الآلام الجسدية التي تنتج عند مخالفة الشرائع الطبيعية، كما لو أسرف الإنسان في إشباع شهواته. (٢) التزكية السياسية: وهي توقع الآلام عند مخالفة القوانين كالسرقة والتزوير إلخ. (٣) التزكية الاجتماعية: أي تزكية الرأي العام الذي يقتضي شجب مخالفه، أو الثناء على موافقه. (٤) التزكية الدينية: وهي الخوف من عقاب الآخرة أو الرجاء بالثواب. (٥) وقد أضاف مويرهد التزكية الأدبية الداخلية: وهي ارتياح النفس أو قلقها في طاعة الضمير أو عصيانه. ونحن نرى أن ارتياح النفس أو قلقها ليسا تزكية للحكم، بل هما تنفيذ للحكم.

ترى مما تقدم آنفًا أن البديهة وحدها لا تكفي لإصدار الحكم السديد، وأنه كلما وقع الضمير في حيرة وجب أن يعود إلى التعقل.

(٥) التعقل الأدبي

(٥-١) مستند التعقل الأدبي

التعقل الأدبي كالتعقل الفكري يقوم بالمقايسة المنطقية، ويرتكز على قوة الاستدلال مستمدًا مقدماته من الحقائق الأدبية، ولما كان يتعذر علينا أن نتعقل كل فعل أدبي أو تصرف بشري، ونجعله مبدأ قائمًا بذاته — لا يمكن ذلك لتعدد أنواع التصرفات تعددًا لا يحصى — لم يكن بدٌّ من وضع قاعدة أدبية عامة تطبق عليها جميع الأفعال والتصرفات، بحيث إن المبادئ التي تسير بموجبها تكون مبادئ عامة يمكن أن يسير عليها الآخرون؛ فالمبدأ الأدبي هو ما يمكن تعميمه على سائر الأفراد بحيث يكون لخير الفرد ولا يثلم خير الآخرين؛ وبالتالي يكون لخير المجموع.

(٥-٢) القاعدة الأدبية العامة ونظرية كَنت

فالقاعدة الأدبية العامة إذن هي أن تفعل ما يوافق المجتمع أن يفعله الآخرون أيضًا، وأن تمتنع عن الفعل الذي يوافق المجتمع أن لا يفعله الآخرون، وبعبارة أخرى: افعل «وامتنع عن فعل» ما ترى أن فعله، «أو الامتناع عن فعله» يصح أن يكون قاعدة عامة لجميع الأفراد على السواء، باعتبار أنك وإياهم شخصيات اجتماعية.

وقد حسب كَنت Kant هذه القاعدة قائمة بنفسها مضمونة بنفس الفعل؛ أي إن الفعل الذي لا يتمشى عليها يسقط من نفسه أو يقتل نفسه، وقد مثَّل على ذلك بقوله: إن الإخلاف بالوعد يعد خطأ؛ لأنه لا يمكن أن يكون قاعدة عامة، فلو جعلناه قاعدة عامة بحيث يسوغ لكل فرد أن يُخلف وعده حين يشعر بميل إلى ذلك، فلا يعود أحد يثق بوعد، وحينئذٍ لا يعود أحد يعدًا وعدًا. بالطبع متى لم يبق وعود فلا يبقى إخلاف بوعد؛ ولذلك يستحيل على الشخص الأدبي أن يُخلف وعده إذا كان ممن يحافظون على الأدبية الشخصية، ويريد أن يَصْدُقَ الناس بوعودهم له كما هو يَصْدُق لهم.

كذلك الامتناع عن مراعاة مصالح الغير لا يمكن أن يكون قاعدة عامة؛ لأنه إذا امتنع كل فرد عن مراعاة مصلحة غيره تتعرض مصالحه هو للخطر كما تتعرض مصالح سواه، ومتى كانت كل المصالح في خطر لا يبقى لأحد مصلحة شخصية، بل تصبح كل مصلحة فردية معلقة بالمجموع؛ ولذلك يضطر كل فرد أن يراعي مصلحة المجموع ومصلحة غيره حرصًا على سلامة مصلحته.

(٥-٣) نقد مكنزي

وقد انتقد مكنزي نظرية كَنت هذه القائلة بأن هذه القاعدة مضمونة بنفس الفعل، أي إن الفعل الذي لا يتمشى عليها يسقط، فقال: إن هذه القاعدة تحتمل التفسير على نحوين؛ الأول: أنه يمكن أن تؤخذ كقاعدة للسلوك العام المطلق، والثاني: أنه يمكن أن تؤخذ كقاعدة لكل فعل بحسب الظروف المحيطة به.

والظاهر أن كَنت قصد المعنى الأول، ولكن يحتمل أنه يعني بها الأمر الثاني أيضًا؛ فبحسب المعنى الأول تعد السرقة أمرًا خطأ؛ لأنه لا يصح أن تعد قاعدة عامة، ولكن بحسب المعنى الثاني يجب في كل سرقة أن ينظر فيما إذا كان السارق يريد أن كل إنسان غيره يسرق متى كان في ظروفٍ كظروفه، كجان فلجان في رواية البؤساء لفكتور هيجو، فإنه حلل لنفسه سرقة الرغيف لكي يطعم بني أخته الجياع. فبحسب التفسير الأول يعد الامتناع عن السرقة أمرًا واجبًا، وبحسب التفسير الثاني نرى هذا الواجب ضعيفًا رخوًا.

مثال آخر: تلافي المصائب العمومية أو بذل الجهود لتحسين الأحوال الاجتماعية يعد قاعدة عامة؛ لأن كل فرد أدبي يريده، فإذا كان كل فرد يبذل جهده في هذا السبيل تزول المصائب، ويتحسن حال المجتمع، وحينئذٍ لا تبقى حاجة لبذل الجهد هذا. فالامتناع عن بذل الجهد هذا حين لا يكون ثمة موجب له لا يعد — بحسب نظرية كَنت — قاتلًا لنفسه، بل بذل الجهد نفسه أفضى إلى عدم ضرورته، وإنما إهمال هذا الجهد عند لزومه يقتل نفسه؛ لأن كل فرد يشعر أن إهماله جعل حال المجتمع سيئة؛ فيعدل عن الإهمال.

(٥-٤) ملاحظاتنا على مكنزي

على أننا لا نرى تعليل مكنزي هذا وجيهًا جدًّا فيما تقدم؛ لأنه حيث لا مصائب ولا نقص في المجتمع فلا تتحرك إرادة الفرد الحسنة، ولكن متى كانت ثمة مصائب عمومية ونقص اجتماعي تتحرك إرادة الفرد للجهاد لأجل خير المجموع. وإهمال هذا الواجب يعرض الفرد للكارثة؛ فالإهمال إذن يقتل نفسه، وإنما أصاب مكنزي بأنه قيد القاعدة بالظروف والأحوال المحيطة بالسلوك الأدبي، وإذا كان لا بدَّ للمرء الأدبي أن ينظر في الأحوال اضطر أن يستعين بالإحساس العام؛ لأن قولك: «نفعل ما يريد أن يفعله الآخرون تحت الظروف والأحوال التي نفعل فيها نحن.» هو كقولك: «إننا نفعل ما نستحسن فعله.» إذن نحن مضطرون أن نلجأ إلى الإحساس العام في هذا الاستحسان.

ثم إن هناك أفعالًا نريد أن نفعلها ولا غبار علينا أن نفعلها، ولكن لا يصح أن تكون قاعدة عامة، مثال ذلك: أنك تريد التبتل؛ أي الامتناع عن الزواج، وتعده فضيلة. وبامتناعك عنه لا تضر المجموع، ولكن إذا جعلته قاعدة عامة يجب على كل فرد اتباعها عرَّضت السلالة للانقراض، كذلك الصوم أو الإسراف في العطاء للأعمال الخيرية ونحو ذلك. كل هذه تريدها ولكنك لا تستحسن أن تجعلها قاعدة عامة. وهناك أمور كثيرة تريدها ولا يصح أن تبتغي من غيرك أن يريدها، وهي بحد ذاتها ليست خطأ.

(٥-٥) القاعدة الصحيحة

فالقاعدة صحيحة على الإطلاق، باعتبار أن نأبى ما يصح إباؤه أن يكون قاعدة عامة، وأن نفعل ما نريد أن يفعله الغير، وأن لا نفعل ما نريد أن لا يفعله الغير، اللهمَّ إذا كان لا يضر بالغير ولا بالمجموع.

فصلاحية الفعل إذن ليست قائمة بالفعل نفسه؛ بمعنى أنه إذا لم يكن صالحًا يبطل تعميمه من نفسه، بل إن صلاحيته قائمة في موافقته للشخصية الاجتماعية أو عدم مناقضته لها على الأقل.

أما كيف نعرف ما يوافق الشخصية الاجتماعية٢ ويناقضها، وكيف نعرف ما تود أن يكون قاعدة عمومية وما لا نود، يجب أن نتعقل طبيعة مشتهياتنا، ونرى إن كانت تتفق مع طبيعة شخصيتنا الاجتماعية أو تناقضها. يجب أن نحكم على أعمالنا من قبيل الشخصية العامة لا من قبيل ذاتيتنا الخاصة، وثم نفعل أفعالنا بمقتضى طبيعة تلك الشخصية العالية.

(٥-٦) تصادم البديهة والتعقل

إذا كان كلا بداهة الضمير والشعور بنتيجة الفعل غريزيين٣ وكلاهما متلازمين، أفلا يمكن أن يختلفا؟ لنفرض أن الضمير قضى بأحد أمرين بناء على أن التعقل استصوبه دون الآخر، ولكن الشعور الذي صاحب الأمر المستصَوب كان كآبة أو قلقًا. هب أنك استصوبت أن ترد شحَّاذًا لكي لا يتعود الشحاذة، ولكنك تألمت لردِّه خائبًا، فكيف تفسر هذا التناقض بين الشعور المؤلم والحكم المعقول المستصَوَب؟ وأي الوجهين أفضل أو أصح؟

يمكننا أن نفسر هذا التناقض بأن الشعور بالشفقة مثلًا أمر صادر من أقوى غريزة في النفس؛ ولهذا يستمر ملازمًا للسلوك المعاكس له بشكل تأنيب حتى بعد تقرير التعقل أن ذاك السلوك أصح أدبيًّا. هكذا يتألم الأب إذا ردع ابنه عن أمر سارٍّ له مع شدة اقتناعه بأن منعه أسلم عاقبة له.

إذن يبقى أمامنا هذا السؤال: أي الوجهين أحق بالتغلب؟ أنتبع الشعور الغريزي أم الحكم المعقول؟ ألا يجب أن نبحث عن سبب لتفضيل قاعدة للحكم في جهة أخرى غير جهة شهادة العقل؟ سنجد الجواب في فصل قاعدة الحق والصواب.

وفيما تقدم علمت أن بداهة الضمير عامة في الأفراد والأمم، ولكن لا يخفى عليك أن أحكام الضمائر تختلف باختلاف الأفراد والأمم، وباختلاف الأزمنة أيضًا، فما هو حق وصواب عندك قد لا يكون كذلك عند غيرك، أو لم يكن كذلك في عصر ماضٍ. نعم، إن الحق والصواب يختلفان باختلاف الأشخاص والأمم والأزمنة، ولكن لا يختلف الناس في كل زمان على أنه يوجد شيء حق وشيء باطل، أو صواب وخطأ. وتقرير أحد الوجهين يرجع إلى البداهة والتعقل؛ فهما يقرران القاعدة أو المبدأ، كما سيجيء بيانهما؛ فالبداهة وحدها لا يمكن أن تكون مستندًا للحكم، ولا سيما إذا اختلط الأمر على الضمير، ولا بد من شهادة العقل كما تقدم.

(٦) نضوج التعقل بحكم أغراض الحياة الإنسانية

(٦-١) غرضية الإنسان تستوجب تعقُّليته

يتميز الحي عن الجماد بأن حركته داخلية؛ أي إنها تحت سيطرة مركزه الداخلي وما هي خاضعة الخضوع المطلق للسيطرة الخارجية، فهو يستطيع أن يقاوم الجاذبية العامة، يستطيع أن يصعد من السهل إلى الجبل، وماء النهر لا يستطيع، وإذا كانت حركته هكذا؛ أي داخلية وتحت سيطرة مركزه، فلا تصدر ولا تتخذ جهة دون أخرى إلا لأن لها غرضًا أو غاية عيَّنها ذلك المركز. فالحي على الإطلاق غرضيٌّ؛ أي ذو غرض، وجميع أغراضه أو مجهوداته في سبيل أغراضه تؤدي إلى بقائه بحسب شكله الخاص المعين.

والحيوان يختلف عن النبات من قبيل غرضيته بأنه ذو نزعات متمركزة في الجهاز العصبي، وهي التي تعين الغرض وتوجه الحركة إليه، والإنسان يمتاز على الحيوان من هذا القبيل بأنه يدرك غرضه ويفهمه ويفهم تمركز نزعاته واتجاهها إلى غرضه، وفوق ذلك يدرك أن له مركزًا أعلى يسيطر على هذه النزعات وعلى الغرض، والنبات متوقف على ما تُقدمه الطبيعة لغرضه. والحيوان ساعٍ إلى غرضه حسبما تُهيِّئه له الطبيعة، ولكن الإنسان يستخرج غرضه من الطبيعة عنوة، فهو يدبر عالمه. وأما الحيوان والنبات فعالمهما يدبرهما.

وحاصل القول أن غرض الإنسان يعيِّنه الإنسان نفسه لنفسه، لا الطبيعة تعينه له، والحيوان منقاد بغرضه، والإنسان منقاد بتصور غرضه، وقد يبتدع غرضه. والغرض ممنوح من قبل الطبيعة حسب سننها، والحيوان خاضع خضوعًا أعمى لسنن الطبيعة، والإنسان يتمشى حسب سنن الطبيعة وهو فاهمها؛ ولهذا يتدبرها مُوفِّقًا بينها وبين غرضه: تارة مجاريًا، وأخرى مداريًا أو متفاديًا، حسبما يتراءى له السبيل الأكفل لغنم غرضه. ذلك هو معنى قولنا: إن الإنسان يتعقل، وإن سلوكه معقول، وإن ضميره استند إلى تعقُّله، وإن أدبيته متوقفة على تعقليته.

(٦-٢) التعقل والأغراض العليا

مما تقدم تفهم أن التعقل طرأ على الحياة الإنسانية، ووظيفته التكييف والتهيئة للتوفيق بين الواسطة والغاية وحسبان النتيجة؛ أي إنه يدبر السلوك ويوجهه في السبيل المؤدي إلى الغرض، أو الغرض الذي يمكنه أن يجده في الطبيعة، أو يستطيع أن يستخرجه من قلبها. فالإنسان ليس حيوانًا مائيًّا، ولكنه يستطيع أن يعيش في وسط الماء في سفينة أو غواصة، ولا هو عصفور هوائي، ولكنه استطاع أن يستنبط طيارة تطير في الهواء، فالإنسان بقوة تعقُّله هذه إذن هو أحيل الأحياء.

ولا يخفى أن أغراض الحياة القصوى وجدت فيه كما وجدت في الحيوانات، وهو يتحرك بغرائزه وأهوائه وشهواته إلى تحقيق غاياتها كالحيوان، ولكن وجد فيه، دون الحيوان، تعقل لا تقف وظيفته عند تدبير الوسائل لإرضاء تلك الغرائز والشهوات التي يشترك بها مع الحيوان، بل تتمادى وظيفة هذا التعقل إلى ابتداع أغراض أخرى أجود وأسمى وأمنح لسعادة أعظم، تكبح جماح تلك الغرائز والشهوات أو تقمعها بتاتًا.

قد تتراءى هذه الأغراض السامية مناقضة لسنة البقاء التي يتمشى عليها كل حي؛ كالتضحية لأجل الإنسانية، وحب المعرفة لأجل المعرفة نفسها، والمروءة المتهورة إلى غير ذلك، ولكن أقل تأمل في هذه الأغراض السامية يريك أنها مبادئ أساسية لإسعاد المجتمع الذي يتقاسم خيره الأفراد، وللمضحي حصة منه، فضلًا عن ابتهاج نفسه بثناء المجتمع.

ولأقل تأمل أيضًا، ترى أن هذه الأغراض العليا التي استنبطها التعقل أكثر عددًا، وأعظم قيمة، وأوفر إسعادًا من الأغراض الجسدية أو الوقتية أو الفردية، بل هي الأغراض التي تتألف منها الحياة الإنسانية على العموم، وحياة الفرد الاجتماعية على الخصوص. وهذه الحياة المتألفة من هذه الأغراض هي ما يسعى الإنسان الآن حرصًا على بقائها ويجاهد لأجلها.

على أن هذه الأغراض السامية تختلف عن الأغراض التي تحرك الفعل إليها الشهوات والغرائز الجسدية بأمرين؛ أولًا: بأننا نبتغيها دائمًا ولكننا لا نحصل عليها كاملة، بل نشعر دائمًا بنقص فيما نُحصِّله منها؛ ولذلك نطمع بأن نحصل على ما هو أتم منها؛ لأنها تشق السبيل إلى ما هو أبعد، فهي إذن بيئة المثل الأعلى. وأما الأغراض الحيوانية أو الجسدية فينتهي حدها عند الحصول عليها، ولا تدفع الحيَّ إلى ما هو أبعد منها.

إذن لأن الأغراض الإنسانية تعقلية هي قابلةً الرقي، وأما الأغراض الجسدية فليست هكذا، ثانيًا: أن هذه الأغراض العليا تشتمل السيطرة على الأغراض الجسدية وتنظيم الحياة الإنسانية على قواعد أخرى غير قواعد الحياة البهيمية؛ ولذلك هذه الأغراض التعقلية من اختصاص السنن الأدبية، أي هي موضوع هذا العلم.

(٦-٣) سلطان الأغراض التعقلية

ولا يخفى عليك أن إدارة التعقل المخالفة لإدارة الغرائز البهيمية قطعت دائرة الشهوات والأهواء ووسعتها، حتى إذا عجزت الأغراض التعقلية عن ضبطها تهورت في الفساد، أما دائرة الغرائز والشهوات الحيوانية فبقيت في دائرتها الضيقة المرسومة لها؛ إذ لم تطرأ عليها قوة أخرى كالتعقل لكي تمر فيها، ولهذا لا يعيش الحيوان عيشة فساد كما يعيش الإنسان.

ولأن للإنسان قوة الاختيار؛ أي الحرية في أن يختار أغراضه ويعينها، أصبح تحت خطر سوء الاختيار، فبدلًا من أن يدفعه التعقل والحرية في سلم الرقي قد يهبطان به إلى أسفله، وبدلًا من أن يرفعاه عن درجة الحيوان فقد يحطانه دون درجته، فلما أفقده تعقله النظام الطبيعي الجسداني أصبح إذا ضلَّ به التعقل لا يستطيع أن يرتفع إلى النظام الروحاني، وبدلًا من أن يكون سلوكه حيوانيًّا غير مسند للتعقل يصبح أحط من الحيواني، ومخالفًا للمعقول.

إذن لكي تنجو الحياة الإنسانية من خطر الفساد هذا يجب أن تكون دائمًا أسمى غرضًا، وأن تبتدع هي بنفسها نظامًا وتعضده وتُقِيمَه مقام نظام الغرائز. كيف يتسنى لها ذلك؟ لقد فهمت فيما تقدم أن الأغراض العقلية تسيطر على الغرائز والشهوات بمعنى أنها تدرِّبها إلى اللذة الفضلى؛ لأنها تقمعها قمعًا، فإذا كانت هذه الشهوات والغرائز تحصل على أغراضها من الطريق الذي ترشدها إليه الأغراض العقلية.

فعلى التمادي تتعود أن تبتغي غايتها من هذا الطريق، وعلى التمادي يصبح الغرض التعقلي مندمجًا في الغريزة والشهوة. وأخيرًا يصبح أصيلًا فيها، وهكذا تتكوَّن في أذهاننا المُثُل العليا والسجايا الحسنى، وتصبح نواة تحوم حولها شهواتنا، بعد أن كانت شهواتنا مطلقة الحبل على الغارب، وهكذا تبني الحياة الإنسانية نفسها بمبادئها وأغراضها العليا.

وبعبارة أخرى تتأصل فينا هذه الأغراض التعقلية السامية تارة بتذكر اختباراتنا لها التي تشهد على جودتها، وتارة بالقدوة بالذين ينتمون إليها، وتارة باستحسان الرأي العام لها، وتارة بممارستها ومزاولتها ولو عن غير روية، أو بحكم العادة. ومتى تأصلت تصبح عدوة لكل ما يناقضها من الشهوات البهيمية، وأليفة لكل ما يوافقها. هكذا نشأت الفضائل في الناس على تمادي الزمان، وهكذا تميزت الحياة الإنسانية على الحياة الحيوانية.

١  Muirhend. Elements of Ethics الفصل الثاني من الكتاب الثاني. وقد استندنا على جانب من نظرياته في هذا الحرف وتصرفنا بها.
٢  ستعلم المراد بالشخصية الاجتماعية بكل وضوح في حرف «ج» من الفصل الأول من الباب الثالث.
٣  راجع فصل الضمير ٣، حرف «ج».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤