خاتمة
وانتهى العام ورغم كل شيء كُلِّلتْ جهود فكري أفندي بالنجاح وهُزِمَت الدودة رغم فَقْسها، وسَلِم المحصول، وعاد الغرابوة إلى بلادهم.
وحين جاء العام التالي على التفتيش، وجاء الغرابوة كان الفلاحون لا يزالون يَذكرون بعضًا مما حدث لعزيزة وحكايتها، ولكن الحاجز الذي كان قائمًا بينهم وبين الترحيلة كان قد زال نهائيًّا وإلى الأبد، وأصبح من المعتاد أن يسهر رجال الترحيلة مع أهل العزبة في بيوتهم، وأن تختلط النساء بالنساء، بل حدث ما هو أكثر من هذا؛ إذ تزوج سالم أبو زيد أحد «كَلَّافة» التفتيش ببنت غرباوية راقت في عينه فخطبها، ثم ذهب إلى بلدها حين عادت في جَمعٍ من فلَّاحي التفتيش ليَخطِبها من أهلها وعادت عروسة.
ولم يشهد العام التالي فكري أفندي مأمورًا للتفتيش، فالخواجة زغيب كان قد باعه حقيقة للشركة البلجيكية التي عَيَّنَت له مأمورًا كالخواجات من عندها، وإن كان قد عُرف — بعد هذا — أنه تركي ومسلم، ولكن له شكل الخواجات وهيئتهم، ولكن الشركة والمأمور الجديد لم يدوما طويلًا أيضًا؛ إذ ما لبثت الشركة أن باعت الأرض للأحمدي باشا حين عرض عليها ثمنًا مناسبًا بلغ ربحها فيه آلاف الجنيهات، وقلب الباشا نظام المزارعة — الذي كان سائدًا في التفتيش — إلى نظام الإيجار على بياضٍ ووضع هو فيها ما شاء من شروط.
ولم يُفاجأ الناس حين أصبحوا — ذات يوم — فوجدوا أحمد أفندي سلطان قد قَدَّم استقالته من عمله وغادر التفتيش، وقيل إنه وجد وظيفة كاتب في مكتب أحد محامي المُختلط في طنطا، لم يُفاجأ الناس لعلمهم أن أحمد سلطان كان على الدوام ضيقًا بالعمل في التفتيش معتبرًا أنه يُضيِّع عمره وشبابه فيه برخص التراب. الناس فوجئوا — حقيقة — حين اختفت الست لنده ذات يوم، وجُنَّ مسيحة أفندي وهو يطوف البلاد طولًا وعرضًا ويبحث عنها، وزالت المفاجأة وانكشف السر حين عرف أنها ذهبت لتتزوج من أحمد سلطان، وأن الزواج تم في مركز البوليس، وأن استقالته واختفاءها وكل شيء تم باتفاق بينه وبينها. وأضاف ما حدث إلى عمر مسيحة أفندي عشرات الأعوام، فشاب معظم شعره وأصبح لا يهتم بنظافة ثيابه أو وضع المناديل لتحمي ياقته من عرقه، وقاطع لنده وزوجها وآلى على نفسه وأولاده وزوجته ألا يعرفوها أو يروها أو تأتي سيرتها على ألسنتهم. ولكن الأيام — آه من الأيام — ما لبثت أن جعلته يغفر وينسى، ويرد على الخطابات الكثيرة التي ظلت لنده تُرسلها إليه كل أسبوع بخطاب مُتزمِّت مُقتضَب ولكنه يبدأ بتلك العبارة: ابنتنا العزيزة لنده.
ومضت الأعوام تشهد خلافات من نوع جديد تَنشِب بين الفلاحِين الذين أصبحوا مُستأجِرين وبين الأحمدي باشا، محاكم ومُحضَرين وحجوزات، وحُرَّاس على البهائم والمنقولات، وبُيوعات بالمزاد العَلني، وحرائق كيديَّة في سواقي التفتيش ومَكَنه ومحاصيله.
وقامت الثورة، وصدر قانون الإصلاح الزراعي، وباع الأحمدي باشا الأرض للفلاحِين، وباع — كذلك — كل مُعَدات التفتيش من بهائم وركائب وماكينات حرث وري ودِراس، حتى السراية والمخازن الضخمة هدمها وباعها أنقاضًا. وكذلك استغنى عن جميع الموظفِين والخَوَلة والأُسطوات والأنفار، وغادر بعضهم التفتيش، وانقلب بعضهم إلى فلاحِين واشتروا أرضًا، والوحيد الذي بقي مُوظفًا هو مسيحة أفندي الذي عَهِدتْ إليه دائرة الأحمدي باشا بإمساك حسابات المائتَي فَدَّانٍ التي بَقِيَت على ذمة الباشا.
وتَغيَّرَت معالم التفتيش تمامًا، فلا سَراية، ولا إصطبلات، ولا إدارة ولا مأمور، ولا مفتش، ولا شَغِّيلة أو خُفراء أو تَملِّية، ولكن مجتمع جديد أصبح هو الموجود، مئات المُلاك الصغار يقطنون نفس البيوت التي كانوا يقطنونها وهم أجراء وفلاحون، مئات الصغار الذين بدأ بعضهم يكبر ويغتني ويؤجر، وبدأ بعضهم يصغر ويحتاج ويستأجر.
مضت الأعوام وتَعاقَبَت التغيُّرات، وانقطع بطبيعة الحال مجيء الترحيلة، ونسيهم الناس تمامًا ونَسُوا كل ما كان من أمرهم وأمر عزيزة.
كل ما تَبقَّى منهم ومنها شجرة صَفصافٍ قائمة — إلى الآن — على جانب الخليج الذي لم يُغيِّره الزمن، يقال إنها نَمتْ من العود الذي استخلصوه من بين أسنان عزيزة بعد موتها فطُمس في الطين ونَبت، وكان أن أصبح تلك الشجرة. وأغرب شيء أن الناس لا يزالون يعتبرونها — إلى الآن — شجرة مبروكة، وأوراقها لا تزال مشهورة، بين نساء تلك المنطقة، كدواء أكيد مُجرَّب لعلاج عدم الحمل.