حياتي
إن قرية برنبال الجديدة هي مسقط رأسي وبها نشأت، وكانت ولادتي في سنة ١٢٣٩ هجرية كما أخبرني بذلك أبي وأخي الأكبر المرحوم الحاج محمد، المتوفى في شهر رمضان سنة ١٢٩٣، ووالدي هو مبارك بن مبارك بن سليمان بن إبراهيم الروجي، ذكر لي أخي المذكور أن جدنا الأعلى من ناحية الكوم والخليج قرية على بحر طناح، وبسبب فشل كبير حصل في البلد تشتتت عائلتنا في البلاد؛ فمنهم من أقام بناحية دموه وهم عائلة البحالصة، ومنهم من أقام بناحية الموامنة، ولم يبقَ منهم بالبلدة الأصلية إلا أولاد غيطاس، وأقام جدنا الأكبر إبراهيم الروجي بناحية برنبال الجديدة مكرمًا معظمًا، فكان هو إمامها وخطيبها وقاضيها، وبعد موته عَقِبَه ولده سليمان على وظيفته، وعقِب سليمان ابنه مبارك، ولما رُزق مبارك، الذي هو الجد الأدنى، بأبي سماه باسمه، ونشأ على وظيفة آبائه وأجداده، وهكذا أكثر العائلة، فلذا كانت تُعرف في البلد إلى الآن بعائلة المشايخ، وهي عائلة كثيرة الفروع بحيث إن في البلد حارة كاملة تحتوي على نحو مائتي نفس، ولهم بها وظيفة القضاء والخطبة والإمامة وعقود الأنكحة والكيل والميزان، وكانت لهم رَزقة بلا مال ولم يكن عليهم شيء مما على الفلاحين، ولا لهم علائق عند حكام الجهات، وبقوا على ذلك إلى أن حصل ضعف أكثر أهل الناحية عن فلاحة الأرض، وانكسرت عليهم أموال الديوان، فرمى الحكام على هذه العائلة مقدارًا من الأطيان، وطلبوا منهم أموالها المنكسرة عليها، وضربوا عليهم بعض ضرائب، وشدَّدوا في خلاصها بالسجن والضرب كأسوة الفلاحين، فضاق خناقهم من ذلك لعدم اعتيادهم الإهانة، وبعد بذلهم ما بأيديهم، وبيعهم المواشي وأثاث البيوت، رأوا أن لا ملجأ لهم من ذلك إلا الفرار، ففارقوا البلد وتفرقوا في البلاد، فنزل والدي بقرية الحماديين (من بلاد الشرقية) وعمري إذا ذاك نحو ست سنين، وقبل رحلتنا كنت ابتدأت في تعلم القراءة والكتابة على رجل من برنبال أعمى يسمى أبا عسر قد توفي بعد ذلك. ولعدم إكرامنا بناحية الحماديين لم يطب لنا المقام بها، فلم نلبث فيها إلا قليلًا، وارتحلنا منها إلى عرب السماعنة بالشرقية أيضًا، وهم من عرب الخيش، ولم يكن عندهم فقهاء، فأنزلوا والدي منزل الإكرام والإجلال، وانتفعوا منه وانتفع منهم انتفاعًا كبيرًا، وصار مرجعهم إليه في الأحكام الدينية، وكان رجلًا صالحًا دَيِّنًا متفقهًا حسن الأخلاق، فأحبوه حبًّا شديدًا وبنوا جامعًا جعلوه إمامه.
ولما ارتاح خاطره وانزاحت عنه الشدائد، التفت إلى تربيتي، فعلمني أولًا بنفسه، ثم أسلمني لمعلم اسمه الشيخ أحمد أبو خضر من ناحية الكردي قرية بقرب برنبال، وكان مقيمًا في قرية صغيرة قريبة من مساكن هؤلاء العرب، وجعل الوالد يرسل لي كفايتي عنده، وكنت لا أذهب إلى بيتنا إلا كل جمعة، ومن خوفي منه كنت لا أعود إليه فارغ اليد، فأقمت عنده نحو سنتين، فختمت القرآن بداءة، ثم لكثرة ضربه لي تركته وأَبَيْتُ أن أذهب إليه بعد ذلك، وجعلت أقرأ عند والدي، إلا أني لكثرة أشغاله واشتغاله عني تعلقت باللعب والتفريط فنسيت ما حفظته، فخشي والدي عاقبة ذلك، فهمَّ بجبري على الذهاب إلى هذا المعلم، فاستعصيت ونويت الهرب إن لم يرجع عني، وكان لي من الأخوات سبع بنات شقيقات، ولم يكن لوالدتي من الذكور غيري، ولي إخوة ذكور من غير أمي، فلما أدركوا مني نية الهرب أشفقوا من ذلك وحنوا إليَّ، وسألوني عن مرغوبي في التربية؛ إذ لا يصح بقاء الشخص بلا تربية، فاخترت أن لا أكون فقيهًا بهذه المثابة، وإنما أكون كاتبًا لما كنت أرى للكُتَّاب من حسن الهيئة والهيبة والقرب من الحكام، وكان لوالدي صاحب من الكُتَّاب كان كاتب قسم، وإقامته بناحية الأخيوة، فأسلمني إليه، فرأيته رجلًا حسن الهيئة نظيف الثياب جميل الخط، فأقمت عنده مدة، ولي من والدي مرتب يكفيني، فدخلت بيته وخالطت عياله، فإذا هو مجمل الظاهر فقير في بيته، وله ثلاث زوجات وعيال، على قلة من الزاد، فكنت في غالب أيامي أبيت طاويًا من الجوع، وكان أغلب تعليمه إيايَّ على قلته في البيت أمام نسائه، وكان خروجه إلى السرحة قليلًا، وإذا خرج يستصحبني معه فلا أستفيد إلا خدمتي له، ومع ذلك فكان يؤذيني دائمًا، إلى أن كنا يومًا في قرية المناجاة، فسألني أمام الناظر وجماعة حضور عن: الواحد في الواحد، فقلت له باثنين فضربني بمقلاة بُنٍّ فشجني في رأسي، فلامه الحاضرون، وذهبت إلى والدي أشكو إليه، فلم أنل منه إلا الأذية. وكان يومئذ مولد سيدي أحمد البدوي، فهربت مع الناس قاصدًا المطرية (جهة المنزلة) لألحق بخالة لي هناك، فمرضت بالريح الأصفر في طريقي بقرية صان الحجر، فأخذني رجل من أهلها لا أعرفه، فمكثت على ذلك عنده أربعين يومًا، وقد سألوني عن أهلي، فقلت: أنا يتيم مقطوع، وكان والدي في تلك المدة وأحد إخوتي يفتشان عليَّ في البلاد، فاستدل عليَّ في صان، فلما رأيته من بُعد هربت، ونزلت بمنية طريف، فأخذني رجل عربي، ولم أقم عنده إلا قليلًا حتى هربت منه، ولحقت بأخ لي في بلدتنا برنبال، وكان قد رجع إليها، وبعد أيام قدم إلينا أخي الذي كان يفتش عليَّ، فأخذني بالحيلة إلى والدي، وقد أشكل عليهم أمري، وذهبوا كل مذهب في كيفية تربيتي، وما يصنعون بي، وجعلوا يعرضون علىَّ القُراء والكُتَّاب فلم أقبل، وقلت: إن المعلم لا أستفيد منه إلا الضرب، والكاتب لا يفيدني إلا الضياع والأذية ويستفيد مني الخدمة.
ثم عَرض عليَّ والدي أن يُلحقني بصاحب له من كتبة المساحين، فرضيت بذلك، فلما عَاشرتَه رغبت في عِشرته لما كُنت أكتسب من صحبته من النقود التي تنالني مما يأخذه من الأهالي، فأقمت عنده ثلاثة أشهر، ولكني لصغر سني وعدم معرفتي بما ينفع وما يضر، كنت أفشي سره وأخبر عما يأخذه من الناس، فطردني، فبقيت في بيتنا أقرأ على أبي، ويستصحبني في قبض الأموال الأميرية التي على العرب (وكان منوطًا بذلك) فكنت أباشر الكتابة وبعض المحاسبات، ثم بعد نحو سنة جعلني مساعدًا عند كاتب في مأمورية أبي كبير بماهية خمسين قرشًا أُبَيِّضُ له الدفاتر، فأقمت عنده نحو ثلاثة أشهر، وقد خلقت ثيابي وساءت حالي ولم أقبض شيئًا من الماهية إلا الأكل في بيته، ثم عينني يومًا لقبض حاصل أبي كبير، فقبضته وأمسكت عندي منه قدر ماهيتي، وكتبت له علمًا بالواصل، ووضعته في كيس النقدية، فلما وقف على ذلك اغتاظ مني وأسَرَّها في نفسه.
وكان مأمور أبي كبير يومئذ عبد العال أبا سالم من منية النمروط فأخبره بذلك، واتفق أن المأمورية مطلوب منها شخص في العسكرية، فأغراه بي واتفقا على إلحاقي بالجهادية لسداد هذه الطلبة، فنادوني على حين غفلة، وأمرني المأمور بالذهاب إلى السجن لكتب المسجونين، وأصحبني رجلًا من أغوات المأمورية، فلما دخلت السجن أحضروا غُلًّا من الحديد ووضعوه في رقبتي وتُركت مسجونًا، فداخلني ما لا مزيد عليه من الخوف، فلبثت في السجن بضعًا وعشرين يومًا في أوساخ المسجونين وقاذوراتهم، وصرت أنتحب، فرقَّ لي السجان لصغر سني، فقربني إلى الباب، وواسيته بشيء من النقود التي كانت سبب سجني، وكنت أرسلت إلى والدي بحبسي، فذهب إلى العزيز وكان بناحية منية القمح وقدم له قصتي في عريضة، فكتب بإخلاء سبيلي، وأخذ والدي الأمر بيده، وقبل حضوره إليَّ أتى إلى السجان صاحب له من خَدَمَة مأمور زراعة القطن بنواحي أبي كبير، وأخبره أن المأمور محتاج إلى كاتب يكون معه بماهية، وكان السجان يميل إليَّ فدله عليَّ، ووصفني له بالنجابة وحسن الخط، وعرفه مسكنتي وما أنا فيه، فمال الخادم إليَّ، وطلب مني أن أكتب خطي في ورقة ليراها المأمور، فكتبت عريضة وأعتنيت فيها، وناولتها للخادم مع غازي ذهب قيمته عشرون قرشًا ليمهد لي الطريق عند مخدومه، ووعدته بأكثر من ذلك أيضًا، فأخذها، وبعد قليل حضر بأمر الإفراج عني، وأخذني معه حتى قربت من المأمور، وكان يسمى عنبر أفندي، فنظرت إليه فإذا هو أسود حبشي كأنه عبد مملوك، لكنه سمح جليل مهيب، ورأيت مشايخ البلاد والحكام وقوفًا بين يديه وهو يلقي عليهم التنبيهات، فتأخرت حتى انصرفوا فدخلت عليه وقَبَّلْتُ يده، فكلمني بكلام رقيق عربي فصيح، وقال لي: تريد أن تكون معي كاتبًا ولك عندي جراية كل يوم وخمسة وسبعون قرشًا ماهية كل شهر؟، فقلت: نعم، ثم انصرفت من أمامه وجلست مع الخدامين، وكنت أعرف من المشايخ الذين كانوا بين يديه جماعة من مشاهير البلاد أصحاب الثروة والخدم والحشم والعبيد، فاستغربت ما رأيته من وقوفهم بين يديه وامتثالهم أوامره، وكنت لم أرَ مثل ذلك قبل ولم أسمع به؛ بل أعتقد أن الحكام لا يكونون إلا من الأتراك على حسب ما جرت به العادة في تلك الأزمان، وبقيت متعجبًا متحيرًا في السبب الذي جعل السادة يقفون أمام العبيد ويُقبِّلون أيديهم، وحرصتُ كل الحرص على الوقوف على هذا السبب، فكان ذلك من دواعي ملازمتي له، وفي ثاني يوم حضر والدي بأمر العزيز فسلمتُ عليه، وأدخلته على المأمور وعرَّفته إياه، فبَشَّ في وجهه وأجلسه وأكرمه، وكان والدي جميل الهيئة أبيض اللون فصيحًا متأدبًا، آثار الصلاح والتقوى ظاهرة عليه، فكلمه في شأني، فقال له: «إني قد اخترته ليكون معي وجعلتُ له مرتبًا فإن أحببت فذاك» فشكر له والدي ورضي أن أكون معه، وذكر له أصولنا وأرومتنا، وانصرف من مجلسه مسرورًا.
ولما سهرت مع والدي ليلًا جعلت كلامي معه في هذا المأمور، فقلت له: هذا المأمور ليس من الأتراك لأنه أسود؟ فأجابني بأنه يمكن أن يكون عبدًا عتيقًا، فقلت: هل يكون العبد حاكمًا مع أن أكابر البلاد لا يكونون حكَّامًا فضلًا عن العبيد؟! فجعل هو يجيبني بأجوبة لا تقنعني، فكان يقول: لعل سبب ذلك مكارم أخلاقه ومعرفته؟ فأقول: وما معرفته؟ فيقول: لعله جاور بالأزهر وتعلم فيه، فأقول: هل التعلم في الأزهر يؤدي إلى أن يكون الإنسان حاكمًا؟! ومن خرج من الأزهر حاكمًا؟ فقال: يا ولدي كلنا عبيد الله، والله تعالى يرفع من يشاء! فأقول: «مُسَلِّمٌ، لكن الأسباب لا بد منها …» وجعل يعظني ويذكر لي حكايات وأشعارًا لم أقنع بها، ثم أوصاني بملازمته وامتثال أوامره، وبعد يومين سافر عني وتركني عنده.
ثم حدثت لي فكرة أخرى مع الفكرة الأولى، فكنت أقول في نفسي إن الكتابة والوظيفة (الماهية) كانت هي السبب في سجني ووضع الحديد في رقبتي، وقد وجدت هذا المأمور خلصني من ذلك، فلو فعل المأمور معي مثل ما فعل الكاتب فمن يخلصني؟ واستمرت الفكرتان في بالي وصار همِّي للتخلص من كل ذلك وأمثاله، ووددت أن أكون بحالة لا ذل فيها ولا تخشى غوائلها، وفي أثناء ذلك اصطحبت بفراش له، فجعلت أفحص منه عن أخبار سيده وأسباب ترقيه، وكنت أسترق منه ذلك استراقًا بحيث أخلل هذا الكلام بغيره، فأخبرني أن سيده مشترى ست من الستات الكبار مرعيات الخواطر، أدخلته سيدته مدرسة قصر العيني لما فتح العزيز المدارس وأدخل فيها الولدان، وأخبرني أنهم يتعلمون فيها الخط والحساب واللغة التركية وغير ذلك، وأن الحكام إنما يؤخذون من المدارس، فحينئذٍ حاك في صدري أن أدخل المدارس، وسألته هل يدخلها أحد من الفلاحين؟ فأفادني أنه يدخلها صاحب الواسطة، فشغل ذلك بالي زيادة، ومع ذلك فلم تفتُر همتي، وسألته عن قصر العيني وعن طريقه وكيف الإقامة فيه، فأخبرني عن ذلك كله، وأثنى على حُسن إقامتهم بها، ومأكولهم وملبوسهم وإكرامهم، فازددت شوقًا، وكنت أكتب عندي كل ما يخبرني به من بيان الطريق وقدر المسافة، وأسماء البلاد التي في الطريق.
وقامت بنفسي فكرة التخلص والتوصل إلى المدارس، فطلبت الإذن في زيارة أهلي، فأذن لي بخمسة عشر يومًا، فسافرت إلى أن وصلت في يوم السبت إلى بني عياض قرية في طريقي، فتقابلت مع جملة أطفال تحت قيادة رجل خياط، مع كل واحد دواة وأقلام، فجلست معهم تحت شجرة، وتحادثنا، فظهر لي أنهم تلامذة من مكتب منية العز، وكان ذلك فألًا حسنًا، ورأوا خطي فوجدوه أحسن من خطوطهم، فقال بعضهم لبعض: لو لحق هذا بالمكتب لكان جاويشًا، فقال الخياط: ذلك قليل عليه؛ فإن خط الباشجاويش الذي عندنا لا يساوي هذا الخط، فسألتهم: ما الجاويش؟ وما الباشجاويش؟ فأفادوني أنهم المقدمون في المكتب، فجعلت أستفهم عن المكتب وصفته، وجعل الخياط يحسن لي أوصافه، ويغريني على دخوله، وأفهمني أن نجباء المكاتب ينتقلون إلى المدارس بلا واسطة، فرأيت ذلك غاية مرغوبي، فلم أتأخر عن الذهاب معهم، ودخلت المكتب فإذا ناظِرَه من معارف والدي، فأراد أن يمنعني من الانتظام في عقد التلامذة، واجتهد في ذلك لمراضاة والدي، فلم أسمع كلامه، وبقيت في المكتب خمسة عشر يومًا، وكان الناظر قد أرسل إلى والدي، فلما جاءه قص عليه خبري وأراه أني راغب جدًّا وأني قلت له: إن لم يكتبني في المكتب اشتكيته، ثم دبَّر معه حيلة على أخذي على حين غفلة مني ومن التلامذة، فانتظر خروجنا للفسحة والأكل في وقت الظهر، فاختطفني والدي إلى بلدتنا، وحبسني في البيت نحو عشرة أيام، كل ذلك ووالدتي تبكي مني وعليَّ وتستعطفني للرجوع عما يوجب فراقهم وتحلفني أن أرجع عن تلك النية، فوعدتها بالرجوع عن ذلك إرضاءً لخاطرها، فأطلقوني، وكانت لنا غنيمات صرت أرعاها، وأبعدوني عن حرفة الكتابة التي ربما تكون سببًا لفراقهم، فبقيتُ كذلك مدة حتى اطمأن خاطرهم، وظنوا أن فكرتي ذهبت عني مع أنها لا تفارقني، وإنما كنت أخفيها، إلى أن انتهزت فرصة في ليلة من الليالي، فصبرت إلى أن ناموا جميعًا، وأخذت دواتي وأدواتي وخرجت من عندهم خائفًا أترقب، وتوجهت تلقاء منية العز، وكان ذلك آخر عهدي بسكناي بين أبوي، وكانت ليلة مقمرة، فمشيت حتى أصبحت فدخلت منية العز ضحى، ولم يرَني الناظر إلا وأنا مع الأطفال في داخل المكتب، والتزمت أن لا أخرج منه ليلًا ولا نهارًا مخافة اختطافي، ثم حضر والدي وعمل طرق التحيل عليَّ هو والناظر فلم ينجع ذلك في، ورجع بلا حاجته، وجعل يتردد عليَّ طمعًا في أخذي من المكتب، حتى جاء ناظر مكتب الخانقاه عصمت أفندي لفرز نجباء التلامذة إلى قصر العيني، فكنت ممن اختير لذلك، فحضر والدي واشتكى لعصمت أفندي، فقال له: هذا ابنك أمامك وهو مُخير، فخيروني فاخترت المدارس، فعند ذلك بكى والدي كثيرًا وأغرى عليَّ جماعة من المعلمين وغيرهم ليستميلوني فلم أصغَ لهم، وكان ما قدَّر الله ولا رادَّ لما قدَّره.
فدخلت مدرسة قصر العيني في سنة إحدى وخمسين ومائتين وألف وأنا يومئذ في سن المراهقة، وصرت في فرقة برعي أفندي، فوجدت المدارس على خلاف ما كنت أظن، بل بسبب تجدد أمرها كانت واجبات الوظائف مجهولة فيها، والتربية والتعليمات غير معتنى بها؛ إذ كان جل اعتنائهم بتعليم المشي العسكري، فكان ذلك في وقت الصبح والظهر وبعد الأكل وفي أماكن النوم، وكان جميع المشرفين على التلامذة يؤذونهم بالضرب وأنواع السب والإهانة من غير حساب ولا حرج، مع كثرة الأغراض والإعراض عن الاعتناء بشؤونهم مما يختص بالمأكولات وخلافها، وكانت مفروشاتهم حصر الحلفاء وأحرمة الصوف الغليظ من شغل بولاق، ومن كراهتي للطبيخ المرتب لنا جعلتُ إدامي الجبن والزيتون، وكان برعي أفندي يراعيني بالنسبة لغيري، وكان معي قليل من النقود جعلته أمانة تحت يده.
فلما رأيت هذه الحالة ضقت ذرعًا وظننت أني جنيت على نفسي في دخول المدارس التي بهذه المثابة، ثم لتغير الهواء المعتاد وكثرة ما قام بي من الأفكار اعترتني الأمراض وطفح الجرب على جسمي، فأدخلوني المستشفى، فتراكمت عليَّ الأمراض حتى أيسوا من حياتي، ولكن الله سلم، وفي أثناء ذلك حضر والدي وطلب أن يراني فلم يُمَكِّنُوه من الدخول، فجعل لبعض الممرضين خمسين محبوبًا من الذهب جعلًا على أن يخرجني من الاسبتالية سرًّا ليخلصني مما أنا فيه، فلم أشعر إلا والممرض قد كسر شباك الحديد من المحل الذي أنا فيه، وأخبرني بمرغوب والدي وأنه واقف ينتظرني خارج المدرسة، وأراد أن ينزلني من الشباك ويوصلني إليه ليأخذ جعله، فمالت نفسي لإجابته والذهاب مع والدي وترك المدارس وأهلها لما رأيته من الشدائد وعدم التعليم، وما لحقني من الجوع في المستشفى حتى كنت أمص العظم الذي يلقيه الآكلون، لكن فكرت في عاقبة الهرب، فإنهم كانوا يطلبون من يهرب من التلامذة ويقبضون على أهله ويقيدونهم ويهينونهم، فامتنعت من الخروج معه، فاجتهد في التحيل عليَّ وتسهيل الأمر لدي، فأبيت، وقلت: أصبر على قضاء الله وأنا الجاني على نفسي، وقلت له: بلِّغ والدي السلام وسله أن يدعو لي وأن يبلغ والدتي عني السلام، ثم إن والدي احتال حتى دخل عندي ورآني ورأيته، وقبَّلني وقَبَّلتُه، وبكى وبكيت، ثم ودعني ومضى لسبيله، وله زفرات ولي عبرات، ولسان الحال يقول:
ثم شُفيت وخرجت إلى المدرسة، واشتغلت بدروسي ولم أمرض بعد ذلك.
وفي أواخر سنة اثنتين وخمسين نقلونا إلى مدرسة أبي زعبل عندما جعل قصر العيني لمدرسة الطب خاصة (كما هو الآن)، فكانت إدارة المدارس في أبي زعبل كما كانت في قصر العيني، إلا أنه اعتني بالتعليم شيئًا بسبب جعل نظرها للمرحوم إبراهيم بك رأفت، وكان أثقل الفنون عليَّ وأصعبها فن الهندسة والحساب والنحو، فكنت أراها كالطلاسم، وأرى كلام المعلمين فيها ككلام السحرة، وبقيت كذلك مدة إلى أن جمع المرحوم إبراهيم بك رأفت متأخري التلامذة في آخر السنة الثالثة من انتقالنا إلى مدرسة أبي زعبل وجعلهم فرقة مستقلة، فكنت أنا منهم، بل آخرهم، وجعل نفسه هو المعلم لهذه الفرقة، ففي أول درس ألقاه علينا أفصح عن الغرض المقصود من الهندسة بمعنى واضح وألفاظ وجيزة، وبيَّن أهمية الحدود والتعريفات الموضوعة في أوائل الفنون، وأن هذه الحروف التي اصطلحوا عليها إنما تستعمل في أسماء الأشكال وأجزائها كاستعمال الأسماء للأشخاص، فكما أن للإنسان أن يختار لابنه ما شاء من الأسماء؛ كذلك المعبر عن الأشكال له أن يختار لها ما شاء من الحروف، فانفتح من حُسن بيانه قفل قلبي ووعيت ما يقول، وكانت طريقته هي باب الفتوح عليَّ، ولم أقم من أول درس إلا على فائدة، وهكذا جميع دروسه بخلاف غيره من المعلمين، فلم تكن لهم هذه الطريقة وكان التزامهم لحالة واحدة هو المانع لي من الفهم، فختمت عليه في أول سنة جميع الهندسة والحساب، وصرت أول فرقتي، وبقيت في النحو على الحالة الأولى لعدم تغير المعلم ولا طريقة التعليم السيئة، وكان رأفت بك يضرب بي المثل ويجعل نجابتي على يديه برهانًا على سوء تعليم المعلمين، وأن سوء التعليم هو السبب في تأخر التلامذة.
وفي تلك السنة وهي سنة ٥٥ فرزوا منا تلامذة لمدرسة المهندسخانة ببولاق، فاختاروني فيمن اختاروه، فأقمت بها خمس سنين وأخذت جميع دروسها وكنت فيها دائمًا أول فرقتي وقلفتها، فتلقيت بها الجزء الأول من الجبر على المرحوم طائل أفندي، وكذا تلقيت عنه علم الميكانيكا وعلم الديناميكا وتركيب الآلات، وتلقيت الجبر العالي عليه وعلى المرحوم محمد بك أبي سن، وحساب التفاضل وعلم الفلك على المرحوم محمود باشا الفلكي، وعلم الأدروليك على المرحوم دقلة أفندي، وعلم الطوبوغرافيا والثرورزية على المرحوم إبراهيم أفندي رمضان، وعلم الكيمياء والطبيعة والمعادن والجيولولجيا وحساب الآلات على المرحوم أحمد بك فايد، والهندسة الوصفية وقطع الأحجار وقطع الأخشاب والظل والنظر بعضه على إبراهيم أفندي رمضان، وبعضه على المرحوم سلامة باشا، وتلقيت عليه أيضًا خاصة القسموغرافيا، ولعدم وجود كتب مطبوعة في هذه الفنون وغيرها إذ ذاك، كان التلامذة يكتبون الدروس عن المعلمين في كراريس كلٌّ على قدر اجتهاده في استيفاء ما يلقيه المعلمون، وكان المعلمون يومئذ يبذلون غاية مجهودهم في التعليم، فكان يندر أن يستوفي تلميذ في كراسته جميع ما يلقى إليه خصوصًا الأشكال والرسوم، ولذلك كان الأمر إذا تقادم أو خرجت التلامذة من المدارس يعسر عليهم استحضار ما تعلموه فكان يضيع منهم كثير مما تعلموه، وفي آخر مدة المهندسخانة كان يُطبع بمطبعة الحجر بعض كتب فاستعانت بها التلامذة وحصل منها النفع، ثم تكاثر طبع الكتب شيئًا فشيئًا إلى الآن فصارت تُطبع الفنون بأشكالها ورسومها، فسهل بذلك تناولها واستحضار ما فيها.
ثم في سنة ٦٠ عزم العزيز على إرسال أنجاله الكرام إلى مملكة فرنسا ليتعلموا بها، وصدر أمره بانتخاب جماعة من نجباء المدارس المتقدمين ليكونوا معهم وحضر المرحوم سليمان باشا الفرنسي إلى المهندسخانة، فانتخب عدة من تلامذتها، فكنت فيهم، وكان ناظرها يومئذ لامبير بك، فأراد أن يبقيني بالمهندسخانة لأكون معلمًا بها، فعرضت على سليمان باشا أني أريد السفر مع المسافرين، وجعل الناظر يحتال عليَّ وأحال على الأساتذة ليثبطوني عن السفر، وقالوا لي: «إن بقيت ههنا تأخذ الرتبة حالًا وتترتب لك الماهية، وإن سافرت تبقى تلميذًا وتفوتك تلك المزية» ورأيت أن سفري مع الأنجال مما يزيدني شرفًا ورفعة واكتسابًا للمعارف، فصممت على السفر مع أني أعلم أن أهلي فقراء يتشوفون ما عسى أن يعود عليهم بالنفع من الوظيفة (الماهية)، لكن رأيت الكثير الآجل خيرًا من هذا القليل العاجل، فحصل ما أملته والحمد لله.
فسافرنا إلى تلك البلاد، وجعل مرتبي كل شهر مائتين وخمسين قرشًا كرفقتي، فجعلت نصفها لأهلي يُصرف لهم من مصر كل شهر، وكانت هذه سنتي معهم منذ دخلت المدارس، فأقمنا جميعًا بباريس سنتين في بيت واحد مختص بنا، ورتب لنا المعلمون لجميع الدروس، والضباط والناظر من جهادية الفرنسية؛ لأن رسالتنا كانت عسكرية، وكنا نتعلم التعليمات العسكرية كل يوم، وهنا نكتة نذكرها: وهي أن معلومات رسالتنا كانت مختلفة: فبعضنا له إلمام بالتعليمات العسكرية فقط مثل الذين أخذوا من الطوبجية والسواري والبيادة، والبعض له إلمام بالعلوم الرياضية ولا يعرفون اللغة الفرنسية كالمأخوذين من المهندسخانة الذين أنا منهم، والبعض له معرفة باللغة الفرنسية، وكان بعض هؤلاء معلمين فيها بمدارس مصر، فاقتضى رأي الناظر أن يجعل المتقدمين في الرياضة واللغة الفرنسية فرقة واحدة وكنت أنا منهم، وأمر المعلمين أن يلقوا الدروس للجميع باللغة الفرنسية لا فرق بين من يفهم تلك اللغة ومن لا يفهمها، ففعلوا، وأحالوا غير العارفين بها على العارفين ليتعلموا منهم إعطاء الدروس، فكان العارفون باللغة يبخلون علينا بالتعليم لينفردوا بالتقدم، فمكثنا مدة لا نفهم شيئًا من الدروس حتى خفنا التأخير، وتكررت منا الشكوى لتغيير هذه الطريقة وتعليمنا بكلام نفهمه، فلم يصغُ لشكوانا، فتوقفنا عن حضور الدرس أيامًا، فحبسونا وكتبوا في حقنا للعزيز محمد علي، فصدر أمره للتنبيه علينا بالامتثال ومن يخالف يُرسَل إلى مصر محددًا، فخفنا عاقبة ذلك، وبذلتُ جهدي وأعملت فكري في طريقة يحصل لي منها النتيجة ومعرفة اللغة الفرنسية، فسألت عن كتب الأطفال، فنبئوني عن كتاب فاشتريته، واشتغلت بحفظه، وشمرت عن ساعد جدي في الحفظ والمطالعة، ولزمت السهاد وحُرمت الرقاد، فكنت لا أنام من الليل إلا قليلًا حتى كان ذلك ديدنًا لي إلى الآن، فحفظت الكتاب بمعناه عن ظهر قلب، ثم حفظت جزءًا عظيمًا من كتاب التاريخ بمعناه أيضًا، وحفظت أسماء الأشكال الهندسية والاصطلاحات، كل ذلك في ثلاثة الأشهر الأُوَل، وكانت العادة أن الامتحان في رأس كل ثلاثة شهور، وكنت مع ذلك ألتفت للدروس التي تعطيها الأساتذة، فأثمر الحفظ معي ثمرة كبيرة، وصرت أول الرسالة كلها بالتداول مع حماد بك وعلي باشا إبراهيم.
ولما حضر إلى مدينة باريس المرحوم إبراهيم باشا سر عسكر الديار المصرية، حضر امتحاننا هو وسر عسكر الديار الفرنسية مع ابن ملكهم، وأعيان فرنسا، وجملة من مشاهير النساء الكبار، فأثنى الجميع علينا الثناء الجميل، وفُرقت علينا المكافآت نحن الثلاثة، فناولني المرحوم إبراهيم باشا مكافأتي بيده وهي المكافأة الثانية، وكانت نسخة من كتاب جغرافيا مالطبرون الفرنسي بأطلسها منه هبة. ودعينا للأكل مع سر عسكرنا إبراهيم باشا، ولما رجع إلى مصر صار يثني علينا عند العزيز وغيره، وبعد تمام سنتين تَعَيَّنَ الثلاثة الأُول من فرقتنا، وهم: أنا وحماد بك وعلي باشا إبراهيم إلى مدرسة الطوبجية والهندسة الحربية بناحية ميتس من مملكة فرنسا أيضًا وأعطينا رتبة الملازم الثاني، فأقمنا بها سنتين أيضًا، وتعلمنا فيها فن الاستحكامات الخفيفة، والاستحكامات الثقيلة، والعمارات المائية والهوائية عسكرية ومدنية، والألغام وفن الحرب وما يلحق به، مع إعادة جميع ما سبق تعلمنا إياه بتلخيص من المعلمين في عبارات وجيزة جامعة، ولم يحصل امتحاننا في هذه المدرسة إلا في آخر السنتين، فكنا في النمرة الخامسة عشرة من نحو خمسة وسبعين تلميذًا، ثم تفرقنا في الآلايات، فكنت في الآلاي الثالث من المهندسين الحربيين، فأقمت فيه أقل من سنة، وكان المرحوم إبراهيم باشا يود إقامتنا في العسكرية حتى نستوفى فوائدها، ثم نسيح في الديار الأوربية لنشاهد الأعمال، ونطبق العلم على العمل مع كشف حقائق أحوال تلك البلاد وأوضاعها وعاداتها، وكان ذلك نعم المقصد، ولكن أراد الله غير ما أراد هو، وتوفي إلى رحمة الله تعالى.
وفي سنة ٦٩ من الهجرة تولى حكومة مصر المرحوم عباس باشا، فطلبنا للحضور إلى مصر نحن الثلاثة؛ وكان عليَّ دين لبعض الإفرنج نحو الستمائة فرنك، وكانت الأوامر المقررة أن لا يسافر أحد إلا بعد وفاء دينه، وأن من يأتي منا إلى مصر مَدينًا يوضع في الليمان، فوقعت في أمر خطير، وبقيت متحيرًا، وطلبت من رفقتي أن يسلفوني فقالوا: ما عندنا ما نسلفك إياه، وأنا أعلم تيسر بعضهم واقتدارهم، فقعدت في محل إقامتي أفكر فيما أصنع، وإذا بصاحب لي من الإفرنج دخل عليَّ يدعوني للأكل عنده حيث إني مسافر، فوجد حالي غير ما يعهد، فسألني فأخبرته، فقال: «لا تحزن، قل يا سيد يا بدوي يا من تجيب الأسير خلصني مما أنا فيه»، فقلت له: ليس الوقت وقت هزل، فقال: هذا أمر هين لا يهمك، ثم ذهب فغاب قليلًا ورجع إليَّ بكيس رماه أمامي، فإذا فيه قدر الدَّين مرتين، وقال لي: بعد استقرارك بمصر وتيسر أمرك ترسل إليَّ وفاءه، ولم يأخذ مني سندًا بوصول المبلغ، وقال: أنا أكتفي بالقول منك، وقد كان، وحضرنا إلى مصر في تلك السنة، وأرسلت إليه المال على يد قنصل فرنسا بعد مدة، ومن حينئذ بطل المكتب الذي خصصه العزيز للتلامذة في بلاد أوربا، وبطلت الرسالة المصرية ومن بقي هناك كان في المدارس الفرنسية تحت نظارتهم بمصروف على الحكومة.
ولما جئنا إلى مصر مكثنا جملة أيام لا ندري ما يُفعل بنا، ثم طُلبنا إلى طرف حسن باشا المناسترلي وهو الكتخدا يومئذ، وأحسن إلينا نحن الثلاثة دون غيرنا برتبة يوزباشي أول، وتعينت أستاذًا بمدرسة طُره، وتعين علي باشا إبراهيم وحماد بك في آلاي الطوبجية بطره أيضًا، وتعين الذين كانوا بمدرسة أركان حرب الفرنسية في معية رئيس رجال أركان حرب سليمان باشا الفرنسي برتبتهم الأولى وهي رتبة الملازم، ورفت الباقون، ثم فُرزت تلامذة المدارس، وتشكلت مدرسة المفروزة من متقدمي تلامذة جميع المدارس، ولم يبقَ بمدرسة طره إلا جماعة قليلون متقدمون في السن قد أزمنوا في المدرسة، وكان ناظرهم يومئذ برنستو بك من ضباط طوبجية فرنسا المعروفين، وكان رجلًا رقيق الطبع حسن الأخلاق حسن التدبير حسن القيام بوظائفه، فأحضرني مع باقي المعلمين، وقال لنا: إن التلامذة الباقين صاروا إلى ما ترون من قلة العدد وكبر السن وطول المدة، وأخاف أن ذلك يدعوكم إلى التكاسل، لكني أرجوكم كما هو الواجب عليكم أن تبذلوا الجهد معهم زيادة حتى تستميلوهم إلى الاستفادة على قدر الإمكان، وأملى أن هذه الحالة لا تدوم، وعما قليل تستقيم الأحوال، وعليَّ وعليكم أن نقوم بواجب الامتثال وأداء ما علينا، ثم قال لي: «خصوصًا إنك قد اشتغلت بفن الهندسة الحربية، وقد بلغني أن جاليس بك يرغب أن تكون معه، وألح كثيرًا في طلبك، ولم يجب إلى مرغوبه، وأظن أن الأمر يئول إلى إلحاقك به، فلا تضجر واصبر، فعاقبة الصبر خير، والآن ما عندك إلا تلميذ واحد، وعن قريب ألحق لك به غيره» فشكرناه على نصيحته، وانصرفنا واشتغل كل منا بما نيط به.
وفي تلك المدة تأهلت بكريمة معلمي في الرسم بمدرسة أبي زعبل، وكان أبوها قد مات، وصارت إلى حالة الفقر، فتزوجت بها لما كان لوالدها عليَّ من حق التربية والمعروف، ثم حدثتني نفسي أن أستأذن لزيارة أهلي بعد هذه الغيبة الطويلة، فكلمت الناظر في ذلك، فقال لي: إن من يسافر يقطع نصف ماهيته، وأنت الآن محتاج إليها، فالأحسن أن تصبر حتى أكلم سليمان باشا الفرنسي ليأخذك معه في مأمورية اكتشاف البحيرة والسواحل، فإذا حصل ذلك يتم مرغوبك بسهولة، وقد حصل، وأخذت المأمورية وسافرت معه، ولما كنا بدمياط انفصلت عنه في جهة من المأمورية، وبعد أن مسحت البحيرة وحررت جريدتها ورسمها، ذهبت إلى بلدتنا برنبال، وكان أهلي قد رجعوا إليها قبل ذلك بمدة، فوجدت أن أبي قد سافر إلى مصر لزيارتي ولم أجد في المنزل إلا والدتي وبعض إخوتي، وكان دخولي عليهم ليلًا، فطرقت الباب، فقيل: مَن أنت؟ فقلت: ابنكم علي مبارك. وكانت مدة مفارقتي لأمي أربع عشرة سنة لم ترني فيها ولا سمعت صوتي، فقامت مدهوشة إلى ما وراء الباب، وجعلت تنظر وتحد النظر، وكنت بلباس العسكرية الفرنسي لابسًا سيفًا وكسوة تشريف، وكررت السؤال حتى علمت صدقي، ففتحت الباب، وعانقتني ووقعت مغشيًّا عليها ثم أفاقت وجعلت تبكي وتضحك وتزغرد، وجاء أهل البيت والأقارب والجيران، وامتلأ المنزل ناسًا، وبقينا كذلك إلى الصباح، والناس بين ذاهب وآيب، ثم رأيت والدتي في حيرة فيما تصنعه لي من الإكرام، وتريد عمل وليمة وهي فارغة اليد، ورأيتها تبكي ففهمت حقيقة الحال، فناولتها عشرة بنتوات كانت بجيبي، ففرحت وأولمت، فأقمت عندهم يومين، ثم استأذنتهم ووعدتهم بالعود، ورجعت إلى دمياط، وأوردت نتيجة الاستكشاف على رئيس الرجال، فوقعت عنده موقع الاستحسان وأثنى عليَّ، وأخبرني أنه حصل على أمر من عباس باشا بإلحاقي بمعية جاليس بك فقبَّلت يده وشكرت له، ولما رجعنا إلى المحروسة استأذنته وسافرت إلى إسكندرية بعيالي وأخ وأخت لي صغيرين كنت أربيهما، فلما وصلت هناك تركتهم في المركب، وذهبت إلى جاليس بك، فوجدت عنده سليمان باشا الفرنسي قد سبقني وكذا غيره من الأمراء والضباط، فجلست بعد أداء الواجب، وبينما فنجان القهوة بيدي إذا بمكتوب وارد بالإشارة من المرحوم عباس باشا بطلبي حالًا في الوابور المتهيئ للقيام، فاغتمَّ لذلك جاليس بك، وداخلني ما لا مزيد عليه من الخوف لما كنت أعلم مما كان يقع لمن يلوذ بالعائلة الخديوية من الإيذاء، وكان لي اجتماعات بالخديوي إسماعيل وغيره منهم، فهون عليَّ سليمان باشا الفرنسي، وقال: لعله يريد أن يجعلك معلمًا لابنه لأنه تكلم في ذلك مرارًا فلا تخف، فقلت: إن أهلي في المركب وكيف أصنع بهم؟ فقال: أنا أنوب عنك فيهم وأرسلهم وراءك إلى مصر فخلِّ عنك هذا الأمر وامضِ بسلامة الله، فمن غير أن أرى عيالي ولا أن يعلموا بي سافرت في الوابور وأنا بين راغب وراهب، ولما مَثَلْتُ بين يدي المرحوم عباس باشا أنا وحماد بك وعلي باشا إبراهيم، قال لي: أنت علي أفندي مبارك؟ قلت: نعم، فقال: «إن أحمد باشا (يعني أخا الخديوي السابق) قد أثنى عليك، فقد جعلتكم في معيتي، وقد أمرت بامتحان مهندسي الأرياف ومعلمي المدارس لأن الكثير منهم ليسوا على شيء، وجعلتكم من أرباب الامتحان»، وشرط علينا أن لا نتكلم إلا بالصدق ولو على أنفسنا، وإذا عثر على أن أحدًا منا كذب في شيء فجزاؤه سلب نعمته وإلباسه لبس الفلاحين وسلكه في سلكهم، ثم حلَّفنا على ذلك واحدًا وأحدًا فحلفنا، وحينئذ أنعم علينا برتبة الصاغقول أغاسي، وأعطانا نيشانات الرتبة؛ وهي عبارة عن نصف هلال من الفضة ونجمة من الذهب فيها ثلاثة أحجار من الماس، وخرجنا فرحين، واشتغلنا بما نيط بنا على الوجه الأتم، وسافرنا معه إلى الجهات القبلية، وصار امتحان المهندسين وتعويض كثير بآخرين من أرباب المعارف الذين تربُّوا في المهندسخانة.
وفي هذه السفرة أحيل علينا الكشف على شلال أسوان لبيان الطريق الأوفق لسير المراكب، فاكتشفنا ذلك، وقدمنا به جريدة ورسمًا، فأتى على الغرض المطلوب، ومذ كنا بأسيوط أمرنا بالذهاب إلى منفلوط لبيان ما يلزم عمله في تحويل البحر عنها، فتوجهنا مع الكاشف جمال الدين كبير هذه المدينة، وقررنا ما يلزم إجراؤه لمنع هذا الداء العضال، فأجري وحصلت نتيجته.
ثم لما عُدنا إلى المحروسة صدر الأمر بتوجهنا إلى القناطر الخيرية لمشورة مع موجيل بك باشمهندسها فيما يلزم عمله لتسهيل سير المراكب بها ومنع العطب عنها، فإن الخطر كان متتابعًا فيها لشدة التيار هناك لأن القناطر كانت قد قاربت التمام، ولم يبقَ إلا فتحات الوسط، فكان كثير من المراكب يتعطل إن لم يعطب، وكان موجيل بك قد أبدى رأيًا بعمل ترع تمر فيها المراكب، وقدمه للمرحوم عباس باشا فلم يوافقه عليه لما في ذلك من كثرة المصرف، وهذا هو السبب في تعيننا، فبالتداول اتفقنا على استعمال وابورات تسحب المراكب بالأرغاطات، وعرض ذلك عليه فأعجبه، وأجرى به العمل وأبطل التصميم الأول، وكان كثيرًا ما يحيل علينا أشغالًا تَرِدُ من الدواوين مما يتعلق بالهندسة فنقوم بها.
وفي أواخر سنة ٦٦ كان قد عُرض عليه من طرف لامبير بك ترتيب للمدارس الملكية، والرصدخانة، يبلغ منصرفه نحو عشرين ألف كيس، فاستعظمه وأحال علينا النظر فيه بشرط أن لا نفشيه، فتداولنا ذلك بيننا أيامًا، ولم تتفق آراؤنا، فخِفت فوات الوقت قبل تمام العمل، فشرعت وحدي في عمله من غير انتظار لرأي أحد، فعملت لجميع المدارس ترتيبًا بلغ منصرفه ألف كيس، وجعلت أساس ذلك احتياجات القطر لا غير، وأن جميع المدارس الملكية تكون في محل واحد تحت إدارة ناظر واحد، وأسقطتُ الرصدخانة بالمرة من الترتيب لعدم وجود من يقوم بها حق القيام إذ ذاك من أبناء الوطن مع احتياجها إلى كثرة المصرف، وأبديت في الترتيب أنه يلزم توجيه جماعة إلى بلاد الإفرنج ليتعلموا فنون الرصدخانة، وبعد قدومهم تفتح إدارتها، وعينت لذلك محمود باشا الفلكي، وكان إذ ذاك برتبة صاغقول أغاسي وإسماعيل باشا الفلكي، وحسين بك إبراهيم وكان من التلامذة الذين تمموا دروسهم، ثم قرأتُ ذلك الترتيب على رفيقيِّ، فلم يوافقاني عليه، فقلت هو عندنا محفوظ، فإن لم نعمل غيره نقدمه ليمتنع عنا اللوم، وقد كان ذلك عين الصواب؛ لأنه بعد قليل طُلب منا تقديم الترتيب، ولم نكن عملنا غير هذا فقدمناه، فاستغربه المرحوم عباس باشا وعجب مما فيه من الأصول المخترعة مع قلة مصرفها، وقال: مَن عمل هذا؟ فقلت: أنا عملته، ووجد آراء صاحبيِّ مختلفة ومخالفة لذلك، فأحال النظر فيه على مجلس ينعقد من جميع رؤساء الدواوين مع حضوري وحضور لامبير بك، فانعقد المجلس ثمانية أيام وبعد المناقشة الطويلة استقر رأي الجميع على هذا، وصدرت خلاصة باستحسانه واستحقاقي رتبة أميرالاي، فطلبني المرحوم عباس باشا، وسألني عما أراه من نجاح هذا الترتيب وعدمه لدى العمل به، فقلت: «هذا رأيي، فإن أحسن مديره إدارته وأجراه على فهم منه وبصيرة نجح، وإلا فلا، فإن الساعة المضبوطة الدقيقة الصنعة يفسدها من لا يحسن إدارتها من جاهل أو مفرط وتدوم على حالها إذا كانت بيد من يُحسن إدارتها»، فعجب من جراءتي واستحسن جوابي، وقال: فهل تضمن ذلك؟ فقلت: وكيف وقد ضمنه الجميع بالقرار الذي عملوه!، فأحال عليَّ نِظارتها وأعطاني الرتبة والنيشان وجعل علي باشا إبراهيم معلم نجله إلهامي باشا، وحماد بك ناظر قلم هندسة برتبة بيكباشي فأجريت إدارة المدارس المهندسخانة وما يلحق بها، وأحال عليَّ تعيين معلمي المفروزة وترتيب دروسها واختيار ما يلزم لها من الكتب؛ فأجريت ذلك، وكان لي عنده منزلة.
وفي مدة نظارتي كنت أباشر تأليف كتب المدارس بنفسي مع بعض المعلمين، وجعلت بها مطبعة حروف، ومطبعة حجر، طُبع فيها للمدارس الحربية والآلايات الجهادية نحو ستين ألف نسخة من كتب متنوعة غير ما طُبع في كل فن بمطبعة الحجر للمهندسخانة وملحقاتها من الكتب ذات الأطالس والرسومات وغيرها مما لم يسبق له طبع، واستُعملت في رسم أشكالها وأطالسها التلامذة لا غير، وقد حصل منها الفوائد الجمة العمومية، وكل ذلك كان لا يشغلني عن التفاني للتلامذة في مأكلهم ومشربهم وملبسهم وتعليمهم وغير ذلك، وكنت أباشر ذلك بنفسي حتى أُعلم التلميذ كيف يلبس وكيف يقرأ وكيف يكتب، وألاحظ المعلم كيف يُلقي الدرس وكيف يؤدب التلامذة، ولا يمضي يوم إلا وأدخل عند كل فرقة وأتفقد أحوالها مع التشديد على الضباط والخَدَمة حتى الفراشين في القيام بما عليهم كما ينبغي، فاندفع بذلك عن التلامذة مضار عمومية ومفاسد كثيرة، ولم أكتفِ بذلك، بل جعلت على نفسي دروسًا كنت ألقيها على التلامذة كالطبيعة والعمارة، وألَّفتُ في العمارة كتابًا بقي متَبعًا في التعليم بالمدارس وإن لم يُطبع.
وبحمد الله نجح مسعانا ونجح كثير من التلامذة وقاموا بمصالح كثيرة، وحصل بهم النفع العظيم، وترقى جمع منهم إلى الرتب العالية، وشاع الثناء عليهم في المعارف والآداب، وشهدت لهم بالفضل أعمالهم المهمة التي أجروها، ولكثير منهم معرفة باللغة الفرنسية بحيث يجيد التكلم بها كمن تعلموا في أوربا، وخرج منهم معلمون متقنون فيها وفي غيرها.
وكان أمر المدارس كل حين لا يزداد إلا صلاحًا، ولا التلامذة إلا نجاحًا، ولا المعلمون إلا اجتهادًا، وكانت الامتحانات السنوية تشهد بمزيد الاعتناء وحسن الأسلوب ونجاح الطريقة المتبعة، وكان ما يصل للتلامذة ومعلميهم من المكافآت والثناء والتشويق والترغيب، داعيًا حاثًّا لهم على زيادة الجد والاجتهاد، وجرت بين المعلمين المودة والألفة، وتَرَبَّتْ الأطفال على الأخوة، وغُرس فيهم حب التقدم وشرف النفس والعفة، حتى وصلت النظارة للاكتفاء في تأديب من فَرَّطَ منهم أمر بالنصيحة واللوم، وانقطع الشتم والسفه، وكاد يمتنع الضرب والسجن، وبالجملة فكانت أغراضي فيهم أبوية، أنظر للجميع من معلم ومتعلم نظر الأب لأولاده، وإلى الآن أعتقد أن ذلك واجب على كل راعٍ في رعيته حتى يحصل الغرض من التربية.
وقد تحقق لي نتيجة ما صرفته من الهمة في تربيتهم والشفقة عليهم، فإنه لما تولى المرحوم سعيد باشا ولاية مصر، ورمى عنده المدارس بعض المفسدين بلسان الحسد والفتنة، ووصفوها بما ليس له نصيب من الصحة، واختلقوا لها معايب لم تكن فيها:
حتى أوجب ذلك انفصالي عنها، وتعينت للسفر مع العساكر لمحاربة المسكوب مع الدولة العلية، وذلك في سنة سبعين ومائتين وألف، خرج جميع التلامذة كبيرهم وصغيرهم من المدرسة قهرًا عن ضباطهم، ووقفوا بساحل البحر أمام السفينة التي نزلت فيها للسفر إلى الإسكندرية، وجعلوا يبكون وينتحبون انتحاب الولد على والده حتى بكت عيني لبكائهم، ولكن انشرح صدري لمشاهدة ثمرات غرسي وآثار تربيتي، فحمدت الله.
ثم سافرت بمعية أحمد باشا المناكلي، فأقمت في هذه السفرة قريبًا من سنتين ونصف، وقد لطف الله بي وأحسن إليَّ ورد كيد الحاسدين في نحورهم، فإني وإن قاسيت فيها مشاق الأسفار وما يلحق المجاهدين من الرجف والاضطرابات والحرمان من المألوفات، لكن رأيت بلادًا وعوائد كنت أجهلها، وعرفت أناسًا كنت لا أعرفهم، واكتسبت فيها معرفة اللغة التركية، فإني أقمت أربعة أشهر بالقسطنطينية اشتغلت فيها بتعلم تلك اللغة.
كما أني أقمت عشرة شهور في بلاد القريم كان يحال عليَّ فيها أمر المحاورة بين المسكوب والدولة العثمانية بأمر مجلس العسكرية، وأقمت ثمانية شهور في بلاد الأناطول أغلبها في مدينة كموشخانه أي (بيت الفضة) لوجود معدن الفضة؛ وهي مدينة عامرة على رأس جبل، وكان منوطًا بي وأنا بها تسهيل سوق العساكر من مدينة ترابزان الواقعة على البحر الأسود إلى مدينة أرضروم، وكان ذلك في وقت الشتاء وشدة البرد والثلج الكثير هناك مع صعوبة ما فيها من العقبات ما بين جبال شاهقة وأودية منخفضة، فقاسيت من ذلك شدائد مهمة وأهوالًا مدلهمة، وكنت أباشر كل فرقة في سلوكها بنفسي لا يصحبني غير خادمي، وجمعت المصابين بالبرد وجعلت لهم مستشفى بمدينة (كموشخانه)، وهيأت مفروشاتها ولوازمها بعضها بالشراء والبعض من طرف أهالي المدينة، ولاشتغال الأطباء بالآلايات استعملت في مباشرة المرضى رجلًا مكيًّا له إلمام بالحكمة، وسلكنا في المعالجة عادات أهل تلك الجهة، فأثمر ذلك ثمرة عظيمة؛ حتى إذا تهيأنا للسفر شهد لي بحسن المسعى أعيان المدينة وأكابرها من القاضي والعلماء والأمراء، وكتبوا بذلك مضبطة وضعوا فيها شهادتهم، وهي عندي إلى الآن، وعليها أيضًا ختم خالد باشا مأمور سوق العساكر العثمانية إلى غير ذلك من فوائد الأسفار على ما بها من الآصار، وكنت وأنا في المدارس قد لحقني الدَّين بسبب ما احتجت إليه في تنظيم بيتي على حسب ما تقتضيه وظيفتي، وكذا ما أنفقته على ثلاثمائة فدان أبعادية أحسن إليَّ بها المرحوم عباس باشا بلا واسطة، فلما سافرت تركت وظيفتي (ماهيتي) للدَّين، فوفته، واقتصرت على ما كان يُصرف لي من التعيين، وقد كفاني وقام بجميع لوازمي وزاد منه ثلاثمائة جنيه حضرتُ بها إلى مصر، وأيضًا فإن رفقتي الذين نشأت معهم كحماد بك وعلي باشا إبراهيم كانوا قد رفضوا من الخدمة في مدة سفري، فلو بقيت للحقت بهم.
ومما اتفق لي أني تزوجت قبل سفري هذا بعد موت زوجتي الأولى بقريبة أحمد باشا طوبسقال؛ وكانت ذات مال وعقار، وكانت يتيمة غرَّه بمنزلة الطفل الصغير لا تُحسن التصرف ولا تُميز الدرهم من الدينار مع كثرة إيرادها وتعدد أملاكها، وكان جميع أمرها بيد غيرها، والسبب في ذلك أن أمها كانت تزوجت برجل يُعرف براغب أفندي، فماتت عنده الأم وبقيت البنت عنده يتيمة صغيرة، فتزوج بامرأة أخرى، فكانت زوجته الجديدة قَيِّمَة هذه اليتيمة والقائمة بأمرها والكافلة لها مع راغب أفندي، فاتخذتها البنت كأمها، وكانت المرأة لا تطلعها على شيء ولا تمكنها من شيء، فلا تفعل ولا تقول إلا ما تريد منها هذه المرأة، فلما دخلتُ بها خافت المرأة ومَن معها أن أطمع في أموال هذه اليتيمة أو أعرفها بحقوقها فتطالب بها وتنزعها من أيديهم، فأساءوا عشرتي وبالغوا في إساءتي إلى حالة لا تُحتمل، وغاية لا تتصور، حتى مللت ومِلْتُ بعد أشهر قليلة إلى العزلة عنهم بزوجتي، فازداد بالمرأة الخوف من انتزاع ما استحوذت عليه من مال هذه اليتيمة، فتوسلت بجلبي أفندي الكلشني إلى والدة المرحوم عباش باشا، فرمى فيَّ عند حسن باشا المناسترلي وأغرى بي أغوات السراي حتى داخلني الخوف واشتد بي الكرب، واتسعت القضية ودخلت المرأة المذكورة إلى سراي الوالدة المشار إليها بعرضحال زورته عن لسان زوجتي بالشكاية مني كذبًا، فلما وقفت المشار إليها على الحقيقة صدر أمرها بإعطائي زوجتي.
فعند ذلك استطلعت الكافلة المذكورة بمعونة جلبي أفندي وأعوانه وثيقة جردوا فيها اليتيمة عن جميع أملاكها، وأشهدوا عليها بدين جسيم لكافلها، ووضعوا عليها شهادة جماعة من الترك بخط الدري كاتب المحكمة الكبرى، وأنا لا أعلم بشيء من ذلك، ثم أخرجوها لي مجردة ما عليها إلا ثيابها مع أثاث قليل، فأقمنا أيامًا في راحة، وكانوا قد دسوا لها من قبل أني أغدر بها وأقتلها، استعانة بذلك على تجريدها من أملاكها بإيهامها أن هذا أمر ظاهري أرادوا به حفظ أموالها وأملاكها من تسلطي عليها وانتزاعي لها، فيبقى ذلك عندهم حتى تريده فيكون لها متى شاءت حين تأمن غائلتي، فلما ذهب خوفها وأمن روعها ولم تجد مني تطلعًا لشيء من ذلك ولا أثرًا مما خوفوها به، أخبرتني بالحجة التي جردوها بها، وأنها تركت حليها هناك، وطلبت مني الإذن في التوجه إليهم لتأتي به إذ لم تجد شيئًا مما كانت تخافه، فقلت لها: إن ذلك لا يجدي وهذه حيلة تمت عليك، فلم تسمع، وذهبت ورجعت خالية اليدين باكية العينين حزينة آسفة على ما تم عليها من الحيلة، فحملتني الرأفة على أن أسعى لها في استخلاص حقها، فقدمت في ذلك عرضحال بصورة الواقعة للمرحوم عباس باشا، واتسعت القضية، ونُظرت في الدواوين والمجالس، ودخل فيها القاضي والمفتي، ولما حصحص الحق دخل فيها جلبي أفندي بالوسائط حتى خوفني الكتخدا بالنفي إلى السودان إن لم أكف عن هذه القضية، وبعد طول النزاع تممتها بالصلح، فرجع لها العقارات والأوقاف، وضاع عليها المال، وبطل عنها الدَّين، ولم أصل إلى هذه الغاية إلا بعد أن قاسيت في ذلك من الشدائد والأهوال وعجائب الأحوال ما لو وصفته لطال الشرح واتسع المجال.
وقد بنيت بيتها من مالي، وصرفت عليه نحو ستمائة كيس، وكان موقوفًا عليها، فأرادت إشراكي فيه معها في نظير ما صرفتُه، وكان ذلك لها بمقتضى شرط الواقف، فقبِلْتُ ودخلتُ معها في الوقفية، وكتبت الوثيقة بمحضر من العلماء والأمراء والأعيان، فلما كنت في الأستانة دخلت عليها كافلتها المقدم ذكرها، وقالت لها: إن الرمل أخبر بأن زوجك يموت في سفره، وصدق على ذلك جماعة من حواشيها وحسَّنوا لها إبطال الحجة المتضمنة حصتي في وقفية البيت، ثم لاذوا بجماعة من أصحابنا الذين لنا عليهم المعروف ليشهدوا لهم بأن الحجة مزورة، وأن التي نطقت يوم كتب الحجة إنما هي أختي تمثلت بها، فظنوها إياها، وحملوها على أن كتبت فيَّ عرضًا يتضمن أن أخذت أموالها ومتاعها، ثم أرسلوه إلى ابن عمها في الأستانة، وكنت معه في محل واحد، فأرانيه، فقرأته، وأخذت نسخته وسلمته إليه، وقلت: «لا ثمرة الآن في المنازعة هنا فأحفظه عندك حتى نعود إلى مصر، وهناك تظهر الحقيقة، فإن متُّ قبل ذلك فلها جميع ما يورث عني».
فلما رجعنا إلى مصر عقدنا لذلك مجلسًا حضره كاتب المحكمة والشهود وجمع من أعيان العلماء، وجرى الحساب، وهي حاضرة في المجلس، فثبت لي عليها مائة وخمسة وعشرون ألف قرش عملة ديوانية، غير ستمائة الكيس التي صرفتها في عمارة البيت، فبعد ثبوت حقي وظهوره تنازلت في المجلس عن جميع ذلك، ولم آخذ إلا وثيقة من أهل هذا المجلس بجميع ما حصل، وإثبات تنازلي بعد الثبوت، ثم بعد أيام قلائل تركتها وخرجت من البيت ولم آخذ منه شيئًا، حتى تركت جواريَّ اللاتي كن في ملكي، وطهرت نفسي مما نسبه إليَّ أهل البهتان، وأرحت نفسي من تلك الوساوس والهواجس.
ثم بعد عودنا من هذا السفر الطويل خُلي سبيل العساكر ولحقوا ببلادهم، ورفض كثير من الضباط، فكنت ممن رفض، وسكنت في بيت صغير بالأجرة مع أخ لي كنت تركته في المدرسة عند السفر مع ابن أخ آخر ليتربيا فيها، فطُردا منها بعد سفري، ولم يعطف عليهما أحد ممن كنت أساعدهم في مدة نظارتي، ولم يشفق عليهما إلا سليمان باشا الفرنسي فإنه أدخلهما في مكتب كان أنشأه بمصر العتيقة على نفقته، وشملهما برأفته، ثم غرق ابن أخي في البحر، وبقي أخي إلى أن جئت فالتحق بي، فكانت حالتي بعد سبع سنين مضت من عوْدي من بلاد أوربا كحالتي عند عودي منها، وذهب ما رأيته من الأموال والمناصب وجميع ما كسبت يداي، ولم يبقَ بالخاطر غير ما فعل الناس معي من خير وشر، وما أكسبني الزمان من صدماته وغرائب تقلباته، حتى حلا لي التخلي عن الحكومة وخدمتها، وغضضت طرفي عن التطلع للمناصب وعزمت على الرجوع إلى بلدي والإقامة بالريف والاشتغال بالزرع والتعيش من جانبه، وترك الاشتغال بالقيل والقال، وقلت: عوضنا الله خيرًا في نتائج الفكر وثمرات المعارف، ولنفرض أنَّا ما فارقنا البلد ولا خرجنا منها.
وبينما أنا أتجهز للسفر إلى البلد على هذه النية، صدر أمر بأن جميع الضباط المرفوضين يحضرون بالقلعة للفرز، فحضرنا، وكان المنوط بالفرز أدهم باشا وإسماعيل باشا الفريق وجملة من الأمراء، فكان أهم ما يعتنون به معرفة عمر الإنسان، وكانوا يعرفون السن بالنظر إلى السن، فهالني هذا الأمر وثقل عليَّ، ووددت أن لا أكونُ طلبت، فلما وصلني الفرز عافاني من ذلك أدهم باشا لسابق معرفته بي، وكتبت في المختارين للخدمة، فتعطلت عن السفر.
وبعد قليل تعينت معاونًا بديوان الجهادية، وأحيل عليَّ النظر في القضايا المتأخرة المتعلقة بالورش والجبخانات وغيرها من ملحقات الجهادية، وألحقوا بي كاتبًا، فاشتغلت بها زمنًا وأتممنا جملة منها.
وفي ذات يوم كان إسماعيل باشا الفريق ناظر الديوان إذ ذاك مشتغلًا برسم بعض المناورات العسكرية، فلم يحسن ذلك، وتحير في إتمامها، فدعاني فرسمتها في عدة أفرخ من الورق على الوجه اللائق، فوقع عنده ذلك موقعًا حسنًا، وأثنى عليَّ ووعدني بذكري بخير عند المرحوم سعيد باشا، وطلب مني وضع اسمي على الرسم، فقلت عافني من ذلك، ولا تذكرني عنده، فأراني أن في ذلك فوائد جمة وأنه عين الصواب.
ثم لما عرض عليه الرسم وتكلم معه بما تكلم، أمر بإبطال التحقيق وحفظ القضايا بالدفترخانة وإلحاقي بمستودعي الداخلية، فبقيت كذلك زمنًا قليلًا، وكان عليّ بعض القضايا.
ثم دُعيت إلى وكالة مجلس التجار، فأقمت فيه شهرين، وكان سلفي فيه رجلًا من الأرمن له سند قوي سهَّل له به الوصول إلى المرحوم سعيد باشا، فرمى فيَّ بما رمى، فرفعت من هذه الوظيفة، وتأسف لرفعي التجار البلديون لما رأوه من البت في القضايا على وجه الحق، فأقمت في بيتي نحو ثلاثة أشهر، ثم تعينت مفتش هندسة نصف الوجه القبلي، فأقمت فيه نحو شهرين، ثم خلفني في ذلك علي باشا إبراهيم، ثم دعاني المرحوم سعيد باشا لعمل رسم لاستحكامات أبي حماد، ودعا علي باشا إبراهيم للكشف على الجانب الغربي من النيل إلى أسوان، فاشتغلنا بذلك مدة بلا مرتب، ولما تممت الرسم ذهبت إليه لعرض الرسم عليه وكان في طُره فلم أتمكن من ذلك، وصرت أتردد على طره أيامًا لهذا القصد، فلم يتيسر، ثم قام إلى قصر النيل، فترددت على ذلك الموضع أيضًا، فلم يتم المقصود، ثم قام إلى الإسكندرية فتحيرت في أمري إذ كان لا يثبت في مكان، ولم يتيسر لي عرض نتيجة المأمورية عليه، فالتزمت الإقامة بمصر حتى أتمكن من لقائه، وطالت المدة، وفرغ المصروف، ثم قدم إلى مصر فذهبت إليه، فلم أتمكن من الدخول إليه، فقال لي مأمور التشريفات: كن معنا على الدوام لعلك تجد فرصة في وقت من الأوقات تتمكن بها، وحضر علي باشا إبراهيم أيضًا فاصطحبنا، ولازمنا معيته في السفر ثلاثة أشهر بلا وظيفة (مرتب)، ولا شغل، مع كثرة التنقلات من بلد إلى بلد، ومن موضوع إلى آخر.
ثم لما كان ذات يوم في الجيزة وقع نظره عليَّ، فناداني وكلمني وسألني عما صنعت في الرسم، فقدمته له، فنظر فيه قليلًا ثم قال: أبقه حتى نجد وقتًا لإمعان النظر فيه، ثم لم يلتفت إليه بعد ذلك، ولكن رُبطت لي وظيفة.
وبقيتُ في معيته زمنًا بلا شغل إلى أن كنا مرة بمريوط وكان معنا المرحوم أدهم باشا، فأخبرني أنه صدر له الأمر بتعيين معلمين لتعليم الضباط وصف الضباط القراءة والكتابة والحساب، وسألني عمن يليق للقيام بهذا الأمر، فعرضت نفسي لذلك، فظن أني أهزل لاعتقاده ترفعي عن هذه الخدمة، وقال: أترضى أن تكون معلمًا لهؤلاء؟! فقلت: كيف لا أرغب انتهاز فرصة تعليم أبناء الوطن وبث فوائد العلوم، فقد كنا مبتدئين نتعلم الهجاء، ثم وصلنا إلى ما وصلنا إليه!.
فلما عرض ذلك على المرحوم أحال عليَّ تعليمهم، فأصبحت معي اثنين من الأفندية، ورتبت مواد التعليم والطريقة التي يلزم أتباعها، وشرعنا في التعليم، فكنت أكتب لهم حروف الهجاء بيدي، ولعدم الثبات في مكان واحد كنت أذهب إليهم في خيامهم، وتارة يكون التعليم بتخطيط الحروف على الأرض، وتارة بالفحم على بلاط المحلات، حتى صار لبعضهم إلمام بالخط، وعرفوا قواعد الحساب الأساسية، فجعلت نجباءهم عُرفاء استعنت بهم على تعليم الآخرين، فازداد التعليم واتسعت دائرته، واستعملت لهم، في تعليم مهمات القواعد الهندسية اللازمة للعساكر، الحبل والعصا لا غير، فكنت إذا أردت توقيفهم على عملية كتقدير الأبعاد وتعيين النقط واستقامة الحذاء، أجري ذلك لهم عملًا على الأرض، وأبين لهم فوائده وثمراته النظرية، فكان يثبت في أذهانهم حتى إن بعضهم كان يجريه أمامي في الحال بلا صعوبة، ووضعت في ذلك كتابًا مختصرًا جمعت فيه اللازم من الحساب والهندسة وطرق الاستكشافات العسكرية، وسميته (تقريب الهندسة)، وطُبع على مطبعة الحجر، فانتفع به كثير من الناس خصوصًا في الآلايات، وتكرر طبعه. وكنت جمعت أيضًا جزءًا فيما يلزم معرفته للضباط من فن الاستحكامات، وسوق الجيوش وترتيبها، وكيفية المحاربات ونحو ذلك، لكنه لم يتم ولم يُطبع، وقد ضاع مني.
وكنت في أوقات الفراغ أشغل الزمن بالمطالعة، وأكتب تعليقات أستحسنها في ورقات جمعتها بعد ذلك، فصارت كتابًا مفيدًا في فنون شتى، مما يحتاج إليه المهندسون، وبقي عندي إلى أن أطلع عليه بعض معلمي الرياضة في المدارس الملكية وغيرهم أيام نظارتي عليها في مدة الحكومة الخديوية الإسماعيلية، فرغبوا في طبعه فطُبع بمطبعة المدارس وسُمي (تذكرة المهندسين)، وكان المباشِر لمقابلته وطبعه أولًا السيد أحمد أفندي خليل ناظر مدرسة المحاسبة يومئذ، وبعده: علي أفندي الدرندهلي أحد أساتذة المهندسخانة، إلى أن تم طبعه، وهكذا كانت جميع أوقاتي مشغولة بأمثال ذلك، وببعض مأموريات كانت تُحال علي.
ثم لما رام المرحوم سعيد باشا التوجه إلى بلاد أوربا أمر برفض غالب مَن كان في معيته، فكنت في جملة المرفوضين، وكنت قبل رفضي تزوجت واشتريت بيتًا بدرب الجماميز، وشرعت في بنائه وتعميره، فكثر عليَّ المصرف، ولحقني الدَّيْن حتى ضاق ذرعي، وكان يومئذٍ قد صدر الأمر ببيع بعض أشياء من تعلقات الحكومة، زائدة عن الحاجة من عقارات وغيره، وكان المأمور بذلك المرحوم إسماعيل باشا الفريق، وكان لي من المحبين، وكنت جاره في السكنى، فاستصحبني معه إلى بولاق وغيرها من محلات البيع، فلما حضرتُ المزادات رأيت الأشياء تُباع بأبخس الأثمان، ورأيت ما كان لمدرسة المهندسخانة من اللوازم والأشياء الثمينة العظيمة، وفي جملتها الكتب التي كنتُ طبعتها وغيرها تباع بتراب الفلوس؛ وكذا أشياء كثيرة من نحو آلات الحديد والنحاس والرصاص والعقارات والفضيات والمرايا والساعات والمفروشات وغير ذلك، وليتها كانت تُباع بالنقد الحال بل كانت الأثمان تؤجل بالآجال البعيدة، وبعضها بأوراق المرتبات، ونحو ذلك من أنواع التسهيل على المشتري، فكان التجار يربحون فيها أرباحًا جمة، فلبطالتي واستدانتي وكثرة مصرفي مالت نفسي للشراء من هذه الأشياء والدخول في التجارة، ففعلت، وعاملت التجار وعرفتهم وعرفوني وكثر مني الشراء والبيع، فربحت واستعنت بذلك على المصروف وأداء بعض الحقوق، واستمر مني ذلك نحو الشهرين، فازدادت عندي دواعي التجارة، وصارت هي مطمح نظري، وقَصرْت عليها فكرتي خصوصًا لما تقرر عندي من اضطراب الأحوال، وتقلبات الأمور التي كادت أن تذهب مني ثمرات المعارف والأسفار، بحيث كلما تقدمت في العمر وكثرت العيال كنت أرى التقهقر ونفاد ما استحوزت عليه، فآثرت حرفة التجارة على حرفتي الأصلية، وصرفت النظر عن الخدمة الأميرية، وقام بخاطري أن أعقد شركة مع بعض المهندسين المتعاقدين مثلي، على أن نبني بيوتًا للبيع والتجارة، ونستعمل فيها أفكار الهندسة، فلم أرَ من يوافقني، فهممت بالقيام بذلك بنفسي، وشرعت في العمل.
وبينما أنا في حوالك هذه الأحوال، أروم التخلص من تلك الأوحال، إذ طرق المرحوم سعيد باشا طارق المنون فتوفي في سنة تسع وسبعين ومائتين وألف، وقام بأعباء الحكومة بعده حضرة الخديوي إسماعيل باشا، فألحقني بمعيته زمنًا.
ثم عُينت لنظارة القناطر الخيرية، وكانت لذلك العهد لم تقفل عيونها بالأبواب، مع أن أبواب بحر الغرب كانت مرتبة من زمن المرحوم سعيد باشا، وصرف عليها مبالغ جسيمة من طرف الحكومة، وكان المانع من إقفالها ما قرره المهندسون من منع ذلك إلى أن تُرَمم وتُقوى لعدم جزمهم بمتانتها، مع اضطراب آرائهم، وكان أكثر النيل يمر من بحر الغرب، وأخذ في التحول عن بحر الشرق حتى كان في زمن الصيف لا يدخل في الترع الآخذة منه إلا القليل من الماء، وترتب على ذلك قلة زمام المنزرع الصيفي في الجهات التي تُسقى من هذا البحر، وتعطلت بسبب ذلك منافع كثيرة، وكان الخديوي كثيرًا ما يتردد إلى القناطر الخيرية، ويقيم بها في كل مرة عدة أيام ويعتني بأمرها، وفي ذات مرة خاطبني في شأنها، وفيما يلزم إجراؤه لتحويل النيل إلى بحر الشرق الذي عليه أفواه أكثر الترع، وعليه مدار ثروة أهالي تلك الجهات، فقلت: إن من ألزم الأمور وأنفعها في ذلك أن تقفل قناطر بحر الغرب، إذ بذلك تتراجع المياه إلى بحر الشرق، وتتكاثر فيه ويتحول إليه بعض بحر النيل، ولا يترتب على إقفالها كبير ضرر للقناطر؛ لأن ارتفاع الماء وراء السد لا يكون كبيرًا لانحدار النيل إلى بحر الشرق، فلا يحصل من ضغطه للقناطر تأثير بيِّن، مع أن المهندسين الذين رأوا منع إغلاقها لم يجزموا بحصول خلل، وإنما ذلك على سبيل الظن، فبإغلاقها تظهر الحقيقة ويزول الشك، فإذا حصل منه خلل وصار معلومًا، تتدبر الحكومة في تداركه، وإن لم يحصل حصل المقصود من تكاثر المياه في بحر الشرق الذي عليه مدار الزراعة الصيفية والمنافع العمومية، ولا يترك نفع محقق لضر متوهم يمكن تداركه، فاستحسَن مني ذلك ورآه صوابًا، ورخص في إقفالها فصارت تُقفل، وحصل من ذلك ما لا مزيد عليه من المنافع العمومية.
وأما الخلل الذي كان متوقعًا حصوله، فإنه ظهر في بعض العيون الغربية القريبة من البر الغربي، فجعل عليها جسرًا من الخشب أحاط بها، فتربت حولها جزيرة من الرمل حفظتها، فلم يكن خللها مانعًا من إقفالها كل سنة.
ثم لما حفر رياح المنوفية أحيل عليَّ في مدة نظارتي عمل قناطره ومبانيه، فأجريتها على ما هي عليه الآن.
وفي سنة اثنين وثمانين اختارني للنيابة عن الحكومة المصرية في المجلس الذي تشكل لتقدير الأراضي التي هي حق شركة خليج السويس، على مقتضى القرار المحكوم به من طرف إمبراطور فرنسا، وكان المعين نائبًا من طرف الدولة العلية حضرة سرور أفندي، وكذا كان لكل من الحكومة الفرنسية والشركة المذكورة نائب، فتوجهنا للمرور على الخليج، فمررنا من السويس إلى بورسعيد، وبعد المذاكرات والمداولات عملت الرسوم اللازمة، وتحرر بذلك القرار، وتمت المسألة على أحسن حال، وأحسن إليَّ بعد إتمامها برتبة المتمايز، وأعطيت النيشان المجيدي من الدرجة الثالثة، وبعث إليَّ من طرف الدولة الفرنسية بنيشان (أوفسيه ليثريون دونور).
وفي شهر جمادى الآخرة من سنة أربع وثمانين أحيلت عليَّ وكالة ديوان المدارس تحت رئاسة شريف باشا، مع بقاء نظارة القناطر الخيرية، وبعد قليل انتدبني الخديوي إسماعيل للسفر إلى باريس في مسألة تخص المالية، فكانت مدة غيابي ذهابًا وإيابًا وإقامتي بها خمسة وأربعين يومًا، وكان سفرًا مفيدًا، اغتنمت فيه فرصة الاطلاع على ما بهذه المدينة وقتئذ من المدارس والمكاتب الجمة، واستحوذت على فهارس تعليماتهم والاطلاع على كتبهم المطبوعة هناك، وتفرجت على مجاريها العمومية المعدة لقذف القاذورات والسائلات بها، وهي عبارة عن مبانٍ متسعة عظيمة الارتفاع تحت شوارع المدينة معقودة من أعلاها يتوصل إليها بسلالم في فتحات مخصوصة في الشوارع، يدخل منها النور والهواء، وفي جنبيها حوالي المجرى مسطبتان تمشي عليهما الشغالة والفعلة، وينصبُّ في المجرى قاذورات المراحيض والمطابخ وغيرها، ومياه الأمطار ونحوها بكيفية مدبرة بحيث لا يُشم لها رائحة مع كثرة ما يسيل فيها.
وقد ركبنا صندلًا يسير في ذلك المجرى معدًّا لتنظيف المجرى وقذف ما به من المواد التي تعطل جري الماء، وذلك أنه مصنوع بقدر المجرى، وبه جرافة من أمامه ودولاب، فإذا أرادوا تسييره يديرون الدولاب فينحط الصندل نحو القاع بقدر ما يريدون، فيرتفع الماء خلفه زيادة عن الأمام مع الانحدار الأصلي للمجرى، فيندفع الصندل مُسرعًا في السير، فيطرد أمامه كل ما لاقاه، وجميع هذه المواد تتدفق في نهر السين المار في المدينة في محل بعيد جدًّا عن المساكن، فيا لهذا العمل من عمل نافع؛ تخلصت به المدينة من مياه الأمطار الغزيرة في زمن الشتاء، مع التخلص من القاذورات والروائح الكريهة التي لا تخلو منها الأمصار، لا سيما المدن الكبيرة.
ثم بعد قليل من عودتي أحسن إليَّ في سنة خمس وثمانين برتبة ميرميران، وأحيلت على عهدتي إدارة (السكك الحديدية المصرية)، وإدارة (ديوان المدارس)، وإدارة (ديوان الأشغال العمومية).
وفي شهر شوال من تلك السنة انضم إلى ذلك (نظارة عموم الأوقاف) كل ذلك مع بقاء نظارة القناطر الخيرية، والتحاقي برجال المعية، فبذلت جهدي، وشمرت عن ساعد جدي في مباشرة تلك المصالح، فقمت بواجباتها، ولسبب اتساع ديوان السكة الحديدية، وكثرة أشغاله، كنت أذهب إليه من بعد الظهر إلى الغروب للنظر فيما يتعلق به، وقد أجريت في تنظيم السكة ومحطاتها ما ذكرت بعضه في الكلام على الإسكندرية فانظره، وجعلت من الصبح إلى الظهر لباقي المصالح.
وكنت قد حصلت على الإذن بنقل المدارس من العباسية إلى القاهرة رفقًا بالتلامذة وأهليهم، لما كان يلحقهم في الذهاب إلى العباسية من المشاق والنفقة الزائدة، فأحسن إلى المدارس بسراي درب الجماميز، التي كانت قد اشتريت من المرحوم مصطفى باشا فاضل، فنقلت إليها التلامذة وأجريت فيها إصلاحًا لازمًا للمصالح، وجعل السلاملك للديوان، ووضعت كل مدرسة في جهة من السراي، وجعل بها أيضًا ديوان الأوقاف، وديوان الأشغال، فسهل عليَّ القيام بها.
وكانت كثرة أشغالي لا تشغلني عن الالتفات إلى ما يتعلق بأحوال التلامذة والمعلمين، فكنت كل يوم أدخل عندهم بكرة وعشيًّا عند غدوِّي من البيت ورواحي.
وأعملت فكري فيما يحصل به نشر المعارف وحسن التربية، وكانت المكاتب الأهلية في المدن والأرياف جارية على العادة القديمة ليس فيها — على قلة أهلها — إلا تعليم القرآن الشريف، وأقل من القليل من يتممه منهم، ويجيد حفظه، ويجوِّده ويحسن قراءته، مع رداءة الخط في عامة المكاتب المذكورة، فاستحسنت إجراءها على نسق المدارس المنتظمة، فحررت لائحة بتنظيمها وترتيبها على الوجه الذي هي عليه، ودعوت إلى النظر في هذا الترتيب جماعة من أعلام العلماء والأعيان النبهاء فنظروا فيه، واستحسنوه ووضعوا خطوطهم عليه، وصدر الأمر الخديوي بالجري على مقتضاه، ورتب مفتشون لرعاية العمل بموجبه.
وأنشأت مدارس مركزية في بعض مدن القطر كأسيوط والمنيا وبني سويف وبنها، وانتُخب لكل منها المعلمون والضباط، وعُيِّن لها سائر الخَدَمَة، ورتبت بها أدوات التعليم، ورغب الناس في تعليم أولادهم بها، وكثرت فيها الأطفال، وأنشأت في القاهرة والإسكندرية بعض مكاتب على هذا الأسلوب، مثل مَكتبَيْ القربية أحدهما للبنات، والآخر للأطفال الذكور، ومكتب الجمالية، ومكتب باب الشعرية، ومكتب البنات بالسيوفية، ولأجل استفادة الأوقاف، وتكثير إيرادها مع تخفيف المصرف على الحكومة، كان بناء هذه المكاتب في عقارات الأوقاف، وعلى طرفها، وربط لها على المكاتب إيجار يدخل خزينة الأوقاف، وأُجريت الإصلاحات اللازمة في المكاتب القديمة، فغيرت بعض مبانيها وأوضاعها الأصلية إلى حالة تصلح لما صارت إليه المكاتب من النظام، وأقيمت لها النظار والمعلمون، وأدوات التعليم ونحو ذلك.
وجعلت المصاريف اللازمة للمدارس والمكاتب جارية على وجه يستوجب انتظامها، مع خفة المصرف على الديوان، فجعل على أهالي التلامذة المقتدرين شيء من النقود يؤخذ منهم برغبتهم كل شهر، على حسب اقتدارهم من غير تثقيل عليهم، استمالة لقلوبهم، واستدعاء لرغبتهم، وجعل لذلك استمارة حُفظت في المدارس، وفي كل مكتب، وباقي المصروف يُصرف من حاصلات الأوقاف الخيرية الموقوفة على المكاتب، وغيرها من وجوه الخيرات، والمبرات وأطيان الوادي بمديرية الشرقية، وكان قد أحسن على المكاتب الأهلية بهذه الأطيان، وبعض أملاك آلت إلى بيت المال من بعض التركات، فكان من هذه الموارد يُصرف كل ما يلزم لهذه المكاتب بعد النفقات الجزئية المتحصلة من ذوي الاقتدار من أهل التلامذة.
وكان القصد تعويد الناس للصرف على أولادهم بالتدريج، شيئًا فشيئًا، حتى لا يبقى مع توالي الأزمان على الحكومة إلا ما يختص بالمدارس الخصوصية، كالمهندسخانة والطب والإدارة، ونحوها.
وأما باقي المدارس، فيكون الصرف عليها من الأهالي والأوقاف والأملاك المذكورة، إذ بذلك تدوم الرغبة، وتتسع دائرة التعليم.
وقد تأسس هذا المشروع وثبت، وسَرَت فيه إلى أن انفصلت عن المدارس، وحصلت منه نتائج حسنة، وخرج من التلامذة الذين تربوا بالمدارس في مدتنا جم غفير، توظفوا بالوظائف الميرية الشريفة: ملكية وحربية، وانتفعوا وانتفع بهم.
ثم لأجل تسهيل التعليم على المعلمين والمتعلمين وصون ما تعلموه عن الذهاب، جُعل بالمدارس مطبعة حروف، ومطبعة حجر، لطبع كل ما يلزم من الكتب، وأمشق الخط الرسم، وغير ذلك.
وحيث كان من أهم ما يلزم للمدارس الحصول على معلمين مستعدين للقيام بسائر وظائف التعليم، أمعنت النظر في هذا الأمر المهم، واستحدثت مدرسة دار العلوم بعد استصدار الأمر بها، وجعلتها خاصة لعدد كافٍ من الطلبة، يؤخذون من الجامع الأزهر، ممن تلقوا فيه بعض الكتب العربية والفقه بعد حفظ القرآن الشريف، ليتعلموا بهذه المدرسة بعض العلوم المفقودة من الأزهر، مثل الحساب والهندسة والطبيعة والجغرافيا والتاريخ والخط، مع فنون الأزهر من عربية وتفسير وحديث وفقه على مذهب أبي حنيفة النعمان، وجعل لهم مرتب شهري يستعينون به على الكسوة وغيرها من النفقات، ورتب لهم طعام في النهار للغداء، وجعل الصرف عليهم من طرف الأوقاف، ورتب لهم من لزم من المعلمين من المشايخ العلماء، وغيرهم ليقوموا بأمر تعليمهم وتدريبهم، حتى يتمكنوا من هذه الفنون، فينتفعوا وينفعوا، ويجعل منهم معلمون في المكاتب الأهلية بالقاهرة وغيرها، لتعليم العربية والخط ونحو ذلك.
فلما أُشيع هذا الأمر وأُعلن، حضر كثير من نجباء طلبة العلم بالأزهر يطلبون الانتظام في هذا السلك، فاختير منهم بالامتحان جماعة على قدر المطلوب، وساروا في التحصيل، فحصلوا، وأثمر ذلك المسعى، وخرج منهم معلمون في القاهرة وغيرها، وحصل النفع بهم ولهم.
وأما المعلمون في غير العربية كالهندسة والحساب واللغات ونحو ذلك، فتقرر أن يكونوا من نجباء التلامذة المتقدمين، الذين أتموا دروس المدارس العالية، كالمهندسخانة والمحاسبة والإدارة، بأن يُجعلوا أولًا معيدين لدروس المعلمين زمنًا، ثم يكونوا معلمين استقلالًا بالمدارس والمكاتب، كل على حسب استعداده، سوى من يؤخذ إلى غير المدارس من مصالح الحكومة، وقرر ذلك، وعُلم بينهم، فرغبت التلامذة في التعلم، واجتهدوا وحرصوا على التقدم، وحصلوا على مهمات الفنون، وتمكنت الحكومة من توسعة دائرة التعليم بلا كبير مصرف.
ولما لم يكن بمصر دار كتب جامعة عامة يرجع إليها المعلمون للاستعانة على التعليم كما في مدارس البلاد الأجنبية، أُنشئ محل بجوار المدارس من داخل سراي درب الجماميز المذكورة لهذا الغرض، وصُرف عليه من مربوط المدارس، فجاء محلًّا متسعًا يزيد عن لوازم المدارس من الكتب وأدوات التعليم، وقد كان الخديوي إسماعيل يرغب في إنشاء كتبخانة عمومية تجمع الكتب المتفرقة في الجهات الأميرية، وجهات الأوقاف في المساجد ونحوها، وأمرني بالنظر في ذلك، فوصفت له المحل الذي أنشئ، فعين لمعاينته جماعة من الأمراء والعلماء، فاستحسنوه ووجدوه فوق المرام، فصدر الأمر بأن تُجمع فيه الكتب المتفرقة، فجُمعت من كل جهة، وجُعل لها ناظر وخَدَمَة، وخُصص لها مغير من علماء الأزهر لمباشرة الكتب العربية، وآخر لمباشرة الكتب التركية، ونُظمت لها لائحة، ثم نُشرت تؤذن بإباحة الانتفاع بها للطالبين؛ وسهولة التناول للراغبين مع الصيانة لها، وعدم التفريط فيها، فجاءت بحمد الله من أنفع الإنشاءات، وأثنى عليها الخاص والعام من الأهلين والأغراب، إذ تخلصت بها الكتب من أيدي الضياع، وتطرُّق الأطماع، فإنها كانت تحت تصرف نظار أكثرهم يجهلون قيمتها، ولا يحسنون التصرف فيها، ولا يقومون بواجباتها، بل أهملوها وتركوها، فسطت عليها عوارض متنوعة، أتلفت كثيرًا منها حتى صار السالم من الضياع مخرمًا بعضه بأكل الأرض وبعضه بأكل الأرضة، وزاد أن تصرفوا في أجودها بالبيع للأغراب بثمن بخس، وحرموا الأهلين من الانتفاع بها، وبعضها يحجر عليه، فلا يتمكن أحد من النظر إليه فتخلصت من ذلك، فضلًا عن صونها من هذه العوارض، ونظافتها ونظافة أماكنها، وحسن ترتيبها: كل فن على حدته.
وجعل بها محل للاطلاع على الكتب والمطالعة والمراجعة فيها، والنسخ والنقل منها، ورتب فيه ما يلزم للكتابة من الأدوات بحيث يتيسر بهذا الموضع لكل من شاء غرضه من ذلك متى شاء، وأمكن الاطلاع على خطوط الملوك والمؤلفين والعلماء والمتقدمين ومشاهير الخطاطين كابن مقلة وغيره، مما كان يسمع به الإنسان ولا يراه، أو لا يسمع به.
وأخذت بعد إنشائها وافتتاحها في تكميل الناقص من الكتب، وتجديد شراء كل ما يستحسن، وأمكن تحصيله مما ليس موجودًا بها من الكتب، ومشى على هذه الطريقة كل من رضيها، ورأى إتمام الفائدة بها ممن تولوا على نظارة المدارس والأوقاف بين مكثر ومقل.
ولأجل إتمام الفائدة أُلحقت بهذا المحل محلًّا للآلات الطبيعية وغيرها من آلات العلوم الرياضية اللازمة للمدارس، وصُرف لمشتري تلك الآلات نحو أربعة آلاف جنيه، وتجميع ذلك سَهَّل على التلامذة والمعلمين السير في طرق التقدم، وتقيدت لديهم شوارد الفنون، وتمكنوا منها بالمعاينة والتمرن على استعمال تلك الآلات، واجتلاء المعقول في صورة المحسوس، فتعاضد الفكر والنظر والعلم والعمل.
ثم إنه قد حصل من انضمام الأوقاف للمدارس مساعدة كل منهما للآخر مساعدة كلية، إذ صار أمر التعليم في المكاتب ملحوظًا بعين المدارس، فكان سيرهما في التعليمات والتنبيهات والامتحانات السنوية وغيرها سواء، وتيسر لمن أكملوا دروسهم الابتدائية في مكاتب الأوقاف والمكاتب الأهلية المنتظمة دخول المدرسة التجهيزية، والتدرج منها إلى المدارس العالية، وبذلك صار يؤخذ منهم بالرغبة والأهلية كل سنة عدد عديد، كما يؤخذ من تلامذة المدارس الابتدائية الأميرية؛ وأحيت المدارس كثيرًا من عقارات الأوقاف المندرسة وانتفعت بها كما مرت الإشارة إلى ذلك.
وكم من أهل خير في الزمن السابق كانوا قد أنشأوا مدارس بالمحروسة والإسكندرية وكثير من مدن القطر للتعليم والتربية حسبة لله تعالى، ووقفوا عليها أوقافًا خيرية جمة يُصرف عليها ريعها، رغبةً في نشر العلوم، وعود الفوائد على عموم الناس، بل كثير منهم ألحق بذلك خزائن كتب شاملة لما يحتاج إليه في التعليم، ولكن لسوء تصرف نظارها انحرفت عن الصراط المستقيم صراط الواقفين الراغبين في الخيرات، وصار ما يسلم من الهدم والتخريب يُستعمل أكثره في أغراض أخرى، والمستعمل في الغرض الأصلي — على قلة — لا يستوفى في سيره شروط الواقف، وحد اللازم، وساءت حال التعليم في المكاتب الحاصلة، وقلَّ المعلمون والمتعلمون، وصار اجتماع الأطفال والمتعلمين بهذه الأماكن قليل النفع، بحيث كان لا يفيدهم إلا الضياع والأمراض الناشئة عن الوسخ والتفريط، فحصل رجوع كثير من هذه العمائر إلى أصلها المقصود منها، والفائدة الموضوعة لها، وانضمت إلى ديوان الأوقاف العمومي، لتكون إدارتها تحت نظره مشمولة بمناظرة ديوان المعارف وترتيبه، فتخلص من أطماع النظار، وحصل رم ما احتاج إلى الإصلاح من المدارس ومن أوقافها التي يأتي منها الريع، وانتزع ما استولت عليه الأيدي من غير استحقاق، فانضبط أمرها وإيرادها، فحييت هذه المآثر بعد موتها، وعادت ثمراتها بعد فوتها.
ثم إن هذا النظر لم يكن قاصرًا على المدارس وأوقافها، بل حصل الالتفات لجميع الأوقاف من التكايا والمساجد وغيرها بالإصلاح والتجديد، وكان ما بالأقاليم من الأوقاف من أطيان وعقارات — على كثرته — غير ملتفَت إليه، فكان السالم من التلف من السبل ونحوها مستعملًا في غير وجهه، تحت أيدي غير مستحقيه، فانتُخب لها من طرف الأوقاف مأمورون من المهندسين الذين تعلموا في المدارس، وأُرسلوا إلى الأقاليم للنظر في أمر الأوقاف وضبطها ومعرفة ريعها، وما يلزم لها من العمارات، وتحصيل غلاتها، وملاحظة مصروفاتها، وجعل المندوبون للوجه البحري تابعين في إدارتهم لمأمورية طندتا، والمعينون في الوجه القبلي يخاطبون من الديوان، فضبطوها وحرروا جداولها، وفعل بها ما هو الأصلح لها، فانتظم سيرها ونمى ريعها.
ثم إن الذي كان متبعًا في العمائر بالمدن الكبيرة كالقاهرة والإسكندرية إجراؤها على طرف الديوان، وكان لها معمارية وشغالة وعربات ونحو ذلك بمرتبات جسيمة شهرية، ومصاريف كثيرة تزيد عن قيمة ما يحصل فيها من الإنشاء والعمارة، فضلًا عن عدم الإتقان، وكان يحصل من القائمين بأمرها الإهمال والتفريط فيها، وكان ما يجري تعميره في السنة — مع عدم إتقانه وكثرة ما يُصرف عليه — قليلًا بالنسبة للمحتاج للعمارة، وكان الديوان لا يتمكن من الحسابات السنوية، فبقيت عمارات كثيرة لم ينتهِ الأمر فيها، ولا في حساباتها عدَّة سنين طويلة، وكان الذي يعمر منها — مع خفة بنائه ورداءة مونته — يحوَّل من أوضاعه الأصلية الحسنة إلى أوضاع سيئة، فكنت ترى الدور المتسعة والمنازل الكبيرة حُولت إلى حيشان وربوع يسكنها الكثير من الناس، بحيث تحمل فوق طاقتها لزعم ولاتها أن في ذلك تكثيرًا لريع الوقف، مع أنهم كانوا ما يورثونها إلا التخريب وإضاعة ما بها من نحو الأخشاب، وولاتها غافلون لا يعرفون إلا قبض الأجرة، فكان ما يتلف سنويًّا من عقارات الأوقاف أكثر مما كان يعمر بأضعاف، وهذا ضرر بَيِّن، فحصل الالتفات إلى ذلك، وعملت الطرق الموجبة لعمارة الأوقاف وكثرة ريعها وقلة مصرفها على الديوان، فَجُعل في أثمان القاهرة مأمورون من المهندسين، وكتبة ومعاونون، وصار الجباة تابعين للمأمورين، وشدد عليهم في الالتفات إلى ما نيط بهم، بحيث إن من فرَّط في أمر يجري عليه ما يستحقه، ففتحوا أعينهم ونصحوا في سيرهم خوفًا على أنفسهم، فاستقام أمر كثير من الأوقاف وحسنت أحوالها.
ثم من أنفع الأعمال في الأوقاف ما أُجري فيها من إبطال جعل إدارة عمائرها على طرف الديوان، وصارت تعطى بالمقاولة للمقاولين بعد النظر فيها من مأموري الأثمان وباشمهندس الديوان، وعمل رسوماتها اللازمة، وتقدير نفقاتها الموافقة، وجعل لذلك لوائح واستمارات نُشرت بينهم جُعلت قدوة لهم في الأعمال.
ثم قُسِّمت أراضي الوقف الواسعة الخربة كالتي في جهة السيدة زينب وخلافها على الراغبين، يبنون فيها منازل وحوانيت وغير ذلك، بحكر يقرر عليهم يدفعونه كل سنة للأوقاف، وقرر في الاستمارة أن الآخذ بالحكر يدفع لخزينة الأوقاف حكر عشر سنين تبرعًا منه، بحيث لا يحسبها في المستقبل، ثم يُدفع الحكر سنويًّا، فأُنشئ من ذلك مساكن كثيرًا ما كانت مطرحًا للزبل والعفونات والأقذار، فبعد أن كانت تجلب المضار للناس صارت نافعة تجلب ريعًا كثيرًا للوقف، وتبدَّلت سيئاتها حسنات. واستُعين بذلك على التنظيم الجاري في المدن بالأوامر الخديوية، لتوسعة الشوارع والحارات وتقويمها، وتجديد ما يلزم تجديده منها، لتكون شوارع المدينة ومبانيها كافية صالحة لأحوالها الحاضرة من اتساع دائرة التجارة والثروة التي اكتسبها القطر، إذ بذلك كثرت عربات الركوب وعربات البضائع والعمائر، فصار غير لائق بها بقاء الحالة القديمة على ما كانت عليه من ضيق الحارات والشوارع واعوجاجها، إذ كان الازدحام بها يترتب عليه النصَب والعطب الخطر والضرر.
وصدرت الأوامر الخديوية لديوان الأشغال، ونحن به، بالنظر في ذلك، وأن يعمل له قانون يأتي على المرام، وكان قبل ذلك رسم القاهرة محوَّلًا على فرقة من المهندسين تحت رئاسة المرحوم محمود باشا الفلكي، فرسموها على ما كانت عليه، وبناء على هذا الرسم كُتبت الإشارة فوقه بعمل هذه التنظيمات الموجودة بالمدينة المشاهدة الآن، مثل شارع محمد علي وميدانه، وشوارع الأزبكية وميدانها، وما بعابدين من الشوارع ونحوها، وباب اللوق وغير ذلك مما هو بداخل المدينة وخارجها، وجرى العمل على ذلك، فظهرت كل هذه المباني الحسنة والشوارع المستقيمة المتسعة المحفوفة بالأشجار الخضرة النضرة المستوجبة للقادمين على المدينة انشراح الصدور والفرح والسرور، وأزيل ما كان بجهتها البحرية من التلال التي كانت تمتدُّ من جهة الفجالة إلى قرب باب الفتوح.
ثم تبرع الخديوي إسماعيل باشا على الراغبين بمواضع كثيرة، فأنشأوا بها المباني المشيدة والبساتين العديدة.
وناهيك بقصور الإسماعيلية ودورها وبساتينها وشوارعها التي يكل الوصف عن محاسن بهجتها وأحاسن رونقها ونضرتها، وقد كانت أراضيها بين خلوات متسعة وتلال مرتفعة وبرك منخفضة وغابات معترضة، ولم يكن بها صالح للزرع ومأهول بالناس إلا القليل، فأنعم بها الخديوي بلا مقابل رغبة في العمران والنظافة وحسن الهيئة، فكم زال بذلك من عفونات وقاذورات ومشاق وصعوبات.
وزاد في بهجة المدينة واكتسابها نورًا على نور، ما أحدثته شركة من الإفرنج بإذن الخديوي من نشر غاز التنوير بها في سائر شوارعها وضواحيها، حتى ذهبت غياهب ظلامها والتحقت لياليها بأيامها.
ثم لأجل زيادة الأمن والتسهيل على الخاص والعام، صدر أمره بعمل القناطر الحديد المعروفة بالكوبري بين قصر النيل والجزيرة على الوجه البديع، وعملت السكك المنتظمة في بر الجزيرة،وحُفت بالأشجار، وفُرشت بالأحجار الدقيقة المختلطة بالرمل لمنع الأتربة، وتسهيل المرور إلى العمائر والسرايات والبساتين المنشأة هناك التي تجل عن الوصف، كما فعل ذلك في جميع الشوارع المستجدة بالمدينة وضواحيها بشركة من الإفرنج أيضًا، حيث أقامت وابور الماء، الذي عمَّ جميع جهات المدينة، حتى تمتعت الأهالي بماء النيل بلا كبير ثمن ولا مشقة، وكل ذلك فوق الأعمال الجسيمة التي أُجريت في جهات القطر، مثل ما تجدد بالإسكندرية، وما تجدد بالسويس من عمل الميناء والحوض، والمحافظة وشركة الماء، وما رُسم في المديريات من عمل الدواوين والجسور والقناطر والترع التي من أعظمها ترعة الإبراهيمية، وترعة الإسماعيلية التي حُفرت بالمقاولة.
فهذه الأعمال جميعها أو أكثرها كنتُ أنفذ أوامرها بوضع رسومات وشروط مع المقاولين ونحو ذلك لضرورة تعلقها بديوان الأشغال، فكنت في مدة إحالة هذه الدواوين عليَّ، مشغولًا بالمصالح الأميرية، وتنفيذ الأغراض الخديوية ليلًا ونهارًا حتى أرى وقتًا ألتفت فيه لأحوالي الخاصة بي، ولا أدخل بيتي إلا ليلًا، بل وكنت أفكر في الليل فيما يُفعل بالنهار، لا سيما وأعمال القنال المُلِّحَّ كانت قد تمت، وكان الخديوي قد صمم لتمامها على عمل مهرجان، ودعا لذلك كثيرًا من ملوك أوربا وسلاطينها وعظمائها، وهذه الحالة تستدعي استعداد السكك الحديد وعرباتها وتهيئة المدينة لدخولهم، فكنت مع النظر في أحوال تلك الدواوين مشغول الفكر دائم السفر في مصالح هؤلاء المدعوين إلى أن انقضى جميع ذلك على أحسن حال، وأحسن إلينا من طرف الخديوي بالنيشان المجيدي من الرتبة الثانية، وأُهدي إلينا من طرف قرال النمسا نيشان (غرانقوردون)، ومن طرف قرال فرنسا نيشان (كماندور)، ومن دولة البروسيا نيشان (غرانقوردون)، وغير ذلك من النياشين.
وقد بقيت تلك المصالح تحت يدي إلى رمضان سنة ثمانٍ وثمانين، ثم انفصلت عن ديوان السكة، ثم عن المدارس والأشغال بعد أيام قلائل، ثم عن الأوقاف بعد مُضي قليل من شوال من تلك السنة، وكانت أسباب الانفصال أن ناظر المالية إذ ذاك، وهو المرحوم إسماعيل باشا صديق، كان قد رغب أن يضم دخل السكة الحديدية إلى المالية، وحصل الكلام بيننا في ذلك فقلت له: «لا مانع وإنما يكون الصرف على السكة الحديدية تابعًا للمالية حينئذ، ولا أكون مسئولًا إلا عن مجرد إدارتها بشرط أن يصدر أمر الخديوي بذلك حتى لا يعود عليَّ سؤال فيما عساه أن يحصل من الضرر» فلم يوافق ذلك أغراضه، ورماني بما رمى، فترتب عليه ما ترتب، لكني لم أقم في بيتي إلا نحو شهرين.
ثم صدرت الأوامر الخديوية في يوم عيد الأضحى بجعلي ناظرًا على ديوان المكاتب الأهلية، وأمرت بتنظيم ديوانها، وعمل رسومات لتجديد مكاتب في مدن الأرياف وبلادها كل على حسبه، وما يناسبه، لعلم الخديوي أن مكاتب الأرياف غير مستوفية لدواعي الصحة، ولا لشروط النجاح في التعليم، فرسمت ذلك، وألحقت به تقريرًا لبيان ما يلزم اتباعه في جميع المكاتب بحسب الأهمية، وكان الغرض عمل نموذج في كل جهة ليجري البناء على مثله، لكن عرضت عوارض أخرت ذلك.
وفي شهر ربيع الأول سنة تسعٍ وثمانين أُحيل عليَّ نظر الأوقاف ثانيًا، وبعد قليل أُحيل عليَّ نظر ديوان الأشغال، فلم يمضِ إلا يسير حتى تحولت نظارة هذه الدواوين على نجل الخديوي إسماعيل باشا دولتلو «حسين كامل باشا»، فبقيت بمعيته بوظيفة مستشار.
وفي جمادى الآخرة سنة تسعين انفصل ديوان الأشغال بنفسه تحت رئاسة المشار إليه وجُعلت وكيله، وفي شهر شعبان من هذه السنة جُعلت عضوًا في المجلس الخصوصي، وبعد قليل انفصلت عن الخصوصي بسبب ما ألقاه إليه الواشون كإسماعيل باشا صديق وأضرابه من أن كتابنا «نخبة الفكر» الذي أمرني بتأليفه، فيما يتعلق بأمر النيل، مشتمل على ذم الحكومة الخديوية وتقبيح سياستها، فأقمتُ في بيتي مع جريان الماهية عليَّ من المالية.
ثم في شهر صفر سنة إحدى وتسعين جُعلت رئيس أشغال الهندسة بديوان الأشغال مذ كان هذا الديوان ملحقًا بديوان الجهادية تحت نظارة دولتلو «حسين باشا» المشار إليه، ولما انفصل ديوان الجهادية، أُلحق بديوان الداخلية تحت نظارة نجله الأكبر الجناب التوفيقي الخديوي الأفخر، وكان إذ ذاك ولي عهد الحكومة الخديوية المصرية.
وفي سنة اثنتين وتسعين جُعلت مستشارًا بمعيته في ديوان الأشغال، وفي شهر ذي القعدة من تلك السنة انفصل ديوان الأشغال بنفسه تحت نظارة دولتلو «إبراهيم باشا» نجل المرحوم أحمد باشا، فبقيت بمعيته مستشارًا بهذا الديوان.
وفي بكرة يوم الأضحى من سنة ثلاث وتسعين غدوت لملاقاة الخديوي إسماعيل باشا وتهنئته بالعيد الجديد على حسب العادة، وكان بسراي عابدين، وقد اجتمعت هناك جميع الأمراء والأعيان والمشايخ وأرباب التشريفات لتهنئته، وتهنئة أنجاله على حسب العادة، فقابلناه إثر صلاة العيد، وهنأناه، فأكرمني إكرامًا زائدًا، وأنعم عليَّ بالنيشان المجيدي من الرتبة الأولى (غرانقوردون).
وبقيت على هذه الحال إلى أن ظهر في سنة ١٨٧٦ ميلادية قصور الحكومة عن أداء ما عليها لكثرة ما أصدرته من البونات، وما أثقل كاهلها من الديون ذات الأرباح الكثيرة حتى أدى ذلك إلى الحجز على أغلب أملاكها، وإلى تداخل الدول الأجنبية في أمورها، وآل الأمر إلى تعيين لجنة من معتمدي الأجانب ذوي خبرة للنظر في المالية وفروعها، وجعل في هذه اللجنة دولتلو «رياض باشا» نائبًا من طرف الحكومة المصرية، فكان هو الذي عليه المعول في معرفة الحقائق، وتم الأمر بتقرير هيئة للحكومة على أسلوب جديد، فترتبت في سنة ١٨٧٨ ميلادية هيئة نظارة يرأسها دولتلو نوبار باشا فكنت من رجالها ناظرًا على ديوانيْ الأوقاف والمعارف، وصدر الدكريتو من لدن الحضرة الخديوية من منطوقة أني أريد عوضًا عن الانفراد المتخذ الآن طريقًا في الحكومة المصرية أن تكون لهذه الهيئة إدارة عامة على المصالح، بمعنى أني أروم القيام بالأمر من الآن فصاعدًا بالاستعانة بمجلس النظار والاشتراك معهم في تسيير المصالح، وأن يكون أعضاء مجلس النظار كل منهم كفيلًا بالآخر، يتفاوضون في جميع المهمات، ويتداولون الرأي فيها، ويقررون ما تستقر عليه أغلبية الآراء، وتصدر قرارات المجلس على حسب الأغلبية، وأقررها بالتصديق عليها، ثم ينفذها النظار، فجرى العمل بذلك، وأخذت هيئة النظارة في إدارة المصالح على هذا النمط، وشرعت في تسديد الديون من دخل البلاد ومن قرضةٍ استدانتها من بنك روتشلد بلوندره وهي ثمانية ملايين ونصف مليون من الجنيه الإنجليزي، ورهنت في ذلك أملاك العائلة الخديوية من أراضٍ زراعية وغيرها بعد تنازلهم عنها للحكومة، وكان مبلغ إيرادها سنويًّا أربعمائة ألف وستة وعشرين ألف جنيه إنجليزي، وجُعلت لإدارة تلك الأملاك مصلحة مستقلة عُرفت بمصلحة الدومين.
وفي تلك المدة صرفتُ ما في وسعي في توسيع دائرة المعارف، فشرعت في بناء بعض المدارس كمدرسة طنتدا ومدرسة المنصورة، وفي تكثير عدد المكاتب وترتيب المدرسين وما يلزم للتعليم من أدوات وكتب، واعتنيت بأمر الأوقاف، ونشرت المعاونين للكشف عن الأماكن وبيان المتخرب منها والعامر، وما يناسب استبداله وتجديده على حسب ما يعود بالمصلحة على الأوقاف، وبيان الأصقاع ونحو ذلك، وكان أكثر مكاتبها متعطلًا ما بين دارس وفاقد ثمرة التعليم لعدم لياقة المعلمين للتعليم، فوجهت الهمة نحوها حتى ظهرت بالتدريج النتيجة للمتعلمين وأهليهم، ولما تمت دفاتر الأماكن والمكاتب التي بالمدن والقرى، أخذت في إنجاز مقتضياتها على حسب نصوص وقفياتها، مراعيًا في ذلك ما فيه المصلحة وما يقره المفتي. وكانت هيئة النظارة مساعدة للمعارف والأشغال العمومية وكل ما فيه التقدم، وقد اهتمت بتنظيم أمر الإيراد والمصرف، وأبطلت من المغارم ما يبلغ نحو مليونين من الجنيهات، ولكن ألجأتها ضرورة الاقتصاد إلى إلغاء بعض المصالح، وقطع المرتبات الجارية على غير قانون، كالإنعامات ومرتبات الإشراقات، وتنزيل عدد الجيش العسكري إلى القدر الكافي لاحتياجات البلاد وبذلك أحيل كثير من ضباط العسكرية على المعاش، فأساءت هذه الإجراءات ونحوها كثيرًا من الناس سيما ضباط العسكر، وحصل اللغط بذم الهيئة، والتنديد على أعمالها، وكثرة القال والقيل، حتى تجمَّع كثير من ضباط العسكر حول المالية، يطلبون متأخراتهم، وجرت منهم أمور جاوزت حد الأدب، فتشوشت الأفكار داخل القطر وخارجه، واضطربت الأحوال، ولم يزل الاضطراب يتزايد حتى صار وسيلة للقول بعدم موافقة هيئة النظارة لحال البلد، وانبنى على ذلك سقوطها.
وفي ١٨ من أبريل سنة ١٨٧٩ ميلادية صدر الأمر العالي لشريف باشا بترتيب هيئة نظارة تحت رياسته تُنتخب من الوطنيين، فرتبها، وعملت لائحة لسداد الدين عُرفت باللائحة الوطنية، جعلت أكثره فائدة لأصحاب الدين استمالة لهم، فلم تنجح المقاصد، وكتب القناصل بذلك إلى دولهم، فلم يرتضوه، وانتهت الحال بسقوط تلك النظارة.
وفي ٢٦ يونية سنة ١٨٧٩ صدر الأمر السلطاني بانفصال الخديوي إسماعيل باشا عن سند الحكومة المصرية، وأن يتولاها أكبر أنجاله الفخام وليُّ عهد الحكومة المصرية يومئذ الخديوي المعظم المبجل أفندينا محمد باشا توفيق الأول، فأخذ رحمه الله بزمام الأحكام وقام بالأمر أتم القيام.
وفي سنة ١٨٨٠ صدر أمره الكريم إلى سعادة دولتلو رياض باشا بتشكيل نظارة تحت رياسته مقلدًا هو نظارة الداخلية، فكنت من رجال تلك الهيئة مقلدًا بنظارة الأشغال العمومية، وكان إذ ذاك في الحكومة اثنان من طرفيْ دولتيْ فرنسا والإنجليز يراقبان أمور المالية، وهما موسيو (دوبلنيير الفرنسي) والمسيو (بارنج الإنجليزي)، فجعل لهما الحق في حضور جلسات هيئة النظارة، وشرعت النظارة في إدارة المصالح، وسن القوانين العادلة، وجعل الأموال الأميرية على أقساط مقررة، وأوسعت في معاش المستخدمين وفي عددهم بما يلائم كل مصلحة، واهتمت بكل ما فيه التقدم كأمر التربية ومصالح الأشغال حتى بلغت ميزانية ديوان المعارف ضعف ما كانت عليه، وبعد أن كان ديوان الأشغال قلما يضاف تارة إلى ديوان الداخلية وتارة إلى غيره، وكانت جميع الأعمال ما عدا المقايسات يجريها المفتشون والمديرون ونحوهم، فيعملون برجال العونة مباني وترعًا ومساقي على أغراضهم الخاصة بلا فائدة عامة، حتى كثرت الخلجان وضاع بسببها مزارع كثيرة، وضاعت المصارف التي عليها مدار إصلاح الأرض، فبعد ذلك صار ديوانًا مستقلًّا ملحوظًا بعين العناية، وبلغت ميزانيته ستمائة ألف جنيه حيث إنه الأساس الأعظم للثروة.
فحينئذ تمكنت من إجراء ما يلزم إجراؤه لتحصيل المنافع العمومية، وقسمت أعمال الديوان ثلاثة أقسام، قسم للتحريرات والمحاسبة، وقسم لعمل التصميمات لما يلزم تجديده من الأعمال، ويتبعه فرقة مهندسين لعمل الرسومات والموازين، وقسم يختص بأعمال القاهرة ونحوها من مدن القُطر، وذلك غير الملحقات مثل: قلم الزراعة، وقلم المصلح، ومصلحة الانجرارية، وقلم القضاء، وقسمت مصلحة الهندسة خمسة أقسام، لكل قسم مفتش، وجعلت جميع أعمال الهندسة تحت إدارة وكيل الديوان، وانتشر المهندسون في جميع أنحاء القطر لمعاينة ما به من مبانٍ وترع وقناطر وغيرها، فحرروا الدفاتر بالموجود من ذلك وما يلزم تجديده أو رمه في كل مديرية، وأخذ الديوان في إجراء الأعمال مقدمًا الأهم فالمهم، ولموافقة حال المالية والأهالي قسمت الأعمال على عدة سنين، فحصل رم كثير من القناطر والبرابخ وتقويتها بوضع الدبش أمامها في الحُفَر التي يخلفها هدير الماء، وأحضرت الأخشاب اللازمة لتقفيل القناطر عند الاقتضاء، وجددت جملة من المباني والقناطر النافعة، منها بمديرية الشرقية قنطرة الزوامل على الترعة الإسماعيلية، وقنطرة الشرقاوية على النيل، والبولاقية، وقنطرة أشمون، وقنطرة كفر الحمام، وهويسات الإسماعيلية، ورصيف السويس، وبلغ مصرف ذلك نحو اثنين وثلاثين ألف جنيه، غير برابخ وقناطر أنشئ بعضها على ذمة الحكومة، وبعضها على ذمة المنتفعين.
وأجريت عمارات في المحافظات والمديريات صُرف عليها نحو خمسين ألف جنيه، وصار الابتداء في بناء سلخانة القاهرة، واسبتالية قصر العيني، ومدرسة الطب، وصارت المعاقدة مع مصلحة توزيع المياه بالقاهرة على إنشاء وابور يوصل الماء إلى مدينة حلوان وكانت مفتقرة إلى ذلك، ونظمت الحمامات التي بها، ورتبت لها المهمات اللازمة، وجعل لها حكيم ومأمور، وزيد في القاهرة عدد فوانيس الغاز، وصار تنظيم بعض شوارعها وفرشها بالحصباء، وعملت عدة مجارير في الشوارع المهمة لأخذ مياه الأمطار، وأوصل الماء إلى طريق الجيزة والجزيرة للرش وسقي الأشجار، ونظم طريق شبرى وبني بآخرها رصيف طوله نحو مائتين وخمسين مترًا، وجدد بالقاهرة ميادين ونافورات، وأنشئت جنينة الأنتيكخانة ببولاق، وبني بالإسكندرية سراي البوستة، وجعلتُ التصرف في أمر الري للمهندسين خاصة، فجعلوا لفتح القناطر وسدها أوقاتًا بحسب الحاجة العمومية، ومنع ما كان يحصل من الفتح والسد على حسب الأغراض الخاصة.
ولم تزل الرغبة في تركيب الوابورات على البحار والترع آخذة في الزيادة، وكثرت الوابورات جدًّا حتى بلغ عدد المركب منها في الجهات البحرية ألفين وواحدًا وثمانين وابورًا قوتها أربعة وعشرون ألفًا وخمسمائة وواحد وثمانون حصانًا بخاريًّا، منها الثابت على النيل مائة وخمسة وأربعون في قوة أربعة آلاف وسبعمائة وواحد وثمانين حصانًا، وعلى الخلجان مائتان وواحد في قوة ثلاثة آلاف وثمانمائة وتسعة وستين حصانًا، وغير الثابت على النيل مائتان وستة وعشرون وابورًا في قوة ألفين ومائتين وسبعة، وعلى الخلجان ألف وخمسمائة وابور وتسعة في قوة ثلاثة عشر ألفًا وسبعمائة وثمانية وتسعين حصانًا، ولم تنته الرغبة إلى هذا الحد، بل كثر طلب الرخص لتركيب وابورات مستجدة، وإلى غاية سنة ١٨٨٠ لم يكن ثمة قانون لتركيب تلك الوابورات ترتب على كثرتها حرمان كثير من الأهالي من الانتفاع بمياه تلك الترع، لا سيما مع استحواز أصحاب النقود على ترع لوابوراتهم، إما لسقي زروعهم، أو لبيع الماء لزرع غيرهم، وكثر التشكي من ذلك، فجرى البحث في هذه المسألة لرفع تلك المظالم، وعملت لائحة بخصوص الآلات الرافعة للماء امتنع بها الضرر، وهي المستعملة إلى الآن، وبها انتظم أمر الري، وبلغ مقدار الماء بمديرية القليوبية في أعظم التحاريق نحو ثمانمائة ألف متر مكعب في اليوم والليلة، منها من الترع خاصة بعد توسعة الباسوسية ستمائة ألف متر، وفي مديرية الشرقية ثلاثة ملايين ونصف، وفي الدقهلية نحو أربعة ملايين، وفي الغربية والمنوفية نحو ثمانية ملايين، كل ذلك بعد تقفيل قناطر بحر الغرب، وتحويل الماء إلى بحر الشرق، وقد صار الاهتمام بتطهير الترع والخلجان بطريقة لا تمنع من سقي المزروعات بأن منع سد أفواه الترع عند التطهير، وجعل ابتداؤه من آخر كل ترعة بعد تقسيمها، وحوِّل كثير من ترع الوجه البحري من نيلي إلى صيفي، فتمكنت بلادها من الزراعة الصيفية، وعملت في الأقاليم القبلية ترع وجسور لري الجزائر وأعالي الحيضان، وصار الاهتمام الزائد بأمر بلاد الفيوم، وكان أكثرها قد تعطلت زراعته لأن إحداث الجفلك هناك غير نظام الري القديم، وتبدل أكثر النصب القديمة المعدة لتقسيم الماء على البلاد، فأحييت النصب القديمة، وعدلت الترع والمساقي، ووجه إليها ما يلزم من ماء الإبراهيمية، فزرع هناك نحو خمسة عشر ألف فدان صيفية، وصارت أرضها رواتب، وقل بها استعمال السواقي، ولما كانت الإبراهيمية قد قطعت ترع بلاد المنيا وحرمت أراضيها من الطمي الذي عليه مدار الخصب، صار الاعتناء بهذه المسألة، واستعملت الإبراهيمية في ملء الحيضان وتكملتها مع ما يرد إليها من اليوسفي، فحييت أرضها وأخصبت، وزرع الأهالي بها نحو ثلاثة آلاف فدان من القصب الحلو بعد أن كان هذا الصنف والإبراهيمية مختصين بالدائرة السنية، وزادت زراعة الذرة أضعاف ما كانت عليه، وعملت في المديريات قناطر وبرابخ كثيرة ما بين تجديد ورم، وبلغت أعمال الحفر في تلك السنة ما بين تجديد وتطهير اثنين وثلاثين مليونًا ونصف مليون متر مكعب في مائة وثلاثة وخمسين يومًا، وخص الشخص في اليوم متر وتسعة أعشار متر، وهو أكبر مما كان يعمل في اليوم قبل ذلك بسبب أن الأعمال مشت على قانون منتظم، مع أن الأنفار الذين وُزعوا على البلاد كانوا أقل من الموزع عليها في السابق بنحو عشرة آلاف نفس، وبلغ ما عمل في السنة نصف ما قُرر عمله فيها مع كثرة ما قرر، بخلاف ما كان يعمل قبل فإنه كان لا يتجاوز خمسيْ ما كان يقرر عمله في السنة، وكان المؤمل زيادة انتظام العمل في المستقبل، ومما أوجب تخفيف العمل لائحة العونة التي ندب لها جملة من أعيان البلاد والحكام، وهي المتبعة إلى الآن، فمن مقتضاها جعل العونة على كل من له قدرة على العمل مع الترخيص في التخلص منها بدفع البدل، فتخلص من العمل ثمانية وخمسون ألف نفس، وتحصل منها في السنة نحو ستة وثلاثين ألف جنيه، وكان كل سنة يزيد، وتحسنت حالة الري، وكل ما يتحصل يُصرف في أعمال لازمة، وكان تطهير رياح البحيرة سابقًا يستعمل فيه نحو عشرين ألف نفس تُجمع من سائر مديريات الوجه البحري لقلة أنفار مديرية البحيرة، ومع ما في ذلك من الظلم والإجحاف كان لا يتحصل منه إلا على ثمانمائة ألف متر مكعب من الماء في اليوم والليلة، وكان المتحصل من وابورات العطف مثل ذلك بنفقات باهظة، والمتحصل من الجهتين كان غير كافٍ لزرع نصف ما يلزم زرعه بهذه المديرية الواسعة، مع أن المنصرف على ذلك سنويًّا نحو اثنين وعشرين ألف جنيه، فلما رأينا ما عليه زراعة المديرية من الانحطاط والتأخر، قدمنا لمجلس النظار مشروعًا عن تركيب وابورات بفم الخطاطبة، وتحسين وابورات المحمودية لتخليص المديرية من هذا الضرر، وإنه وجد لهذا المشروع من يجريه وهو الموسيو داستون المهندس وشركاؤه، فبعد المذاكرة صار قبول هذا المشروع، فصار التعاقد مع المهندس المذكور وشركائه على تجديد وابورات على فم ترعة الخطاطبة يتحصل منها يوميًّا مليون ونصف مليون متر مكعب من الماء، وأن يزاد على وابورات العطف ما يلزم زيادته وما يلزم استعداده من القديم للحصول على إيراد مليون ونصف آخر. وعملت الشروط اللازمة، ومن ضمنها إتمام العمل في سنة واحدة، وأن لا يزيد المنصرف في السنة عن أربعة وعشرين ألفًا وسبعمائة وسبعة وثمانين جنيهًا، وقدر في العطف ثمن المليون بأربعة وعشرين جنيهًا، وفي ترعة الخطاطبة خمسة وعشرون ونصفًا، فقامت تلك الشركة بذلك وبطلت السخرة وقل الاحتياج إلى التطهير، وكانت الحكومة سابقًا تكلف أورطة عسكرية بإحضار الدبش اللازم للمحافظة على جسور النيل، فرأى ديوان الأشغال كثرة ما يُصرف على ذلك فأبطل تلك الطريق، وجعل توريد الدبش الكافي في عهدة جماعة بشروط عقدها معهم، وعمل للتسليم والتسلم استمارة، وعين لهذه المصلحة مأمورين من المهندسين، فسارت سيرًا حسنًا، وبلغ مقدار ما أحضر إلى الجهات في سنة ٨٠ مليونًا وأربعمائة قنطار بمبلغ ثلاثمائة وخمسة عشر ألف قرش باعتبار ثمن القنطار تسعة أنصاف فضة، مع أن الذي استخرجته الأورطة وغيرها في سنة ٧٩ كان مائة واثنين وخمسين ألفًا وأربعمائة قنطار بمبلغ ثلاثمائة وأربعة وخمسين ألفًا وثمانمائة وخمسة عشر قرشًا، فانظر إلى الفرق البين، مع التسهيل على الناس، فضلًا عن الحصول على دبش عظيم جيد، وهكذا كانت جميع الأعمال قائمة على قدم السداد.
وكانت هيئة النظارة سائرة في الطريق الجادة ناشرة ألوية العدل والتسوية بين القويِّ والضعيف والرفيع والوضيع، فاستوجب ذلك إثارة الحقد في صدور أرباب الأغراض، فتقوَّلوا على هذه الهيئة، وطعنوا فيها، واختلط كثير منهم بضباط العسكرية، فأوغروا صدورهم، وألقوا في آذانهم أنهم الأحق بتعديل القوانين والتصرف في الحكومة، حيث إنهم أهل الوطن وأصحاب القوة، وحسَّنوا لهم ما صنع بعضهم من الثورة السابقة التي لم يعاقبوا عليها، فتعصبوا وتمكن منهم الغرور وكان رئيسهم أحمد عرابي أحد أمراء الآلايات وقتئذ، فاستمال سائرهم وعاقدهم على مضادة الحكومة، وتقدم من رؤسائهم لمجلس النظار عريضة يطلبون فيها تغيير ناظر الجهادية عثمان باشا رفقي وتشكيل مجلس نواب وغير ذلك مما يخرج عن حدود وظائفهم، فانعقد لذلك مجلس النظار تحت رئاسة المرحوم الخديوي توفيق، وانحط الرأي على عقد مجلس من الأهليين وبعض أمراء العسكرية للنظر في أمرهم والحكم فيهم بما تقتضيه قوانين الجهادية، وتعهد ناظر الجهادية بأن لا ينجم عن ذلك خطر ولا ضرر، فانعقد ذلك المجلس بقصر النيل وجُلبوا إليه لمحاكمتهم، فقام جمع من الضباط والعساكر وهجموا على قصر النيل، وأهانوا من بالمجلس، وأخذوا العرابي ومن معه بالقوة على حسب عهد كان بينهم، فكان ذلك أول التظاهر بالعصيان والخروج عن طاعة الحكومة، وشاعت هذه النازلة حتى وصل خبرها إلى البلاد الأجنبية، فجمع الخديوي المرحوم توفيق النظار وأعيان الأمراء وتفاوضوا في إطفاء هذه الفتنة، فتقرر تغيير ناظر الجهادية وإجابة العسكر إلى مطلوبهم. والإغضاء عما حصل منهم لما تبين من عدم وجود قوة تحت يد الحكومة ترد جماحهم، فلم ينقطع الشر بذلك، بل تمادوا على العصيان، وحملهم الخوف على أنفسهم على شدة النفور وعدم قبول النصيحة، وطمعوا في أن يكونوا أصحاب الحل والعقد في الحكومة، وتأكد التحالف بينهم حتى بلغ بهم الأمر إلى أن هجموا على سراي عابدين ووجهوا إليها المدافع، وطلبوا سقوط هيئة النظارة وترتيب مجلس النواب وزيادة عدد الجند إلى ثمانية عشر ألف عسكري، فحضر القناصل وأوصلوا الأمر إلى دولهم بواسطة التلغراف، وبعد المخابرات أجيب العسكر إلى مطلوبهم، وغيرت هيئة النظارة، وصدر الأمر الخديوي إلى المرحوم شريف باشا بتشكيل هيئة تحت رئاسته، فشكلها، وعقد مجلس النواب؛ فشرع رجال المجلس في تقرير لائحته الأساسية، وبعد قليل طلبوا أن يكون لهم الحق في نظر ميزانية الحكومة بشرط عدم الخروج عن المعاهدات الدولية وقانون التصفية، فلم يجبهم المرحوم شريف باشا إلى ذلك، فأصروا على الطلب، وظاهرهم العسكر، فاستعفى المرحوم شريف باشا وتغيرت هيئة النظارة، وتشكلت هيئة جديدة تحت رئاسة محمود باشا البارودي، وجعل من رجالها أحمد عرابي علي الجهادية والبحرية، فلم تخمد بذلك نيران الفتن، بل اشتعلت وانضم إلى الطائفة العرابية الخوراج كثير من أهل البلاد وأعيانهم ما بين راغب وراهب.
وفي أثناء ذلك أتى إلى مينا الإسكندرية مراكب حربية إنجليزية وفرنسية وغيرها لتقرير الأمن وإطفاء الفتنة، وحضر إلى مصر درويش باشا مندوبًا من طرف الدولة العلية لتسكين الفتنة، فلم تحصل النتيجة، وقام الخديوي إلى الإسكندرية ولحقه درويش باشا، وتُدوولت المخاطبات بين الدول، وبينها وبين الباب العالي، وتقرر عقد لجنة بالأستانة العلية للنظر في هذه الحادثة.
وفي أثناء ذلك أُطلقت على الإسكندرية المدافع من المراكب الإنجليزية، وقاومت العساكر المصرية سويعات ثم انهزموا، وخرجوا من الإسكندرية بعد إشعالهم النار فيها، وحثوا أهلها على الخروج فخرجوا هائمين على وجوههم كيوم المحشر، وتفرقوا في البلاد، وحصل لهم من السلب والنهب، وهتك الحريم ما يكل القلم عن حصره، ودخل الإنجليز الثغر، وتحصن العرابي ومن معه بقلاع عملوها من تراب بكفر الدوار، وسدوا المحمودية ليمنعوا وصول الماء إلى الإسكندرية، وكثر الممدون لهم بالأنفس والأموال ما بين راغب وراهب، وعم الخوف كل من لم يتشيع لهم، وامتلأت الطوبخانة ممن تظاهر بمخالفتهم.
وفي خلال تلك الأحوال كان قد تشكل بالقاهرة مجلس عرفي بأمر العرابي للنظر في المصالح، وكثيرًا ما عقدوا مجالس للنظر في مسائل تعرض من طرف العرابي وحزبه، وفي آخر مرة عُقد مجلس بديوان الداخلية بالقاهرة ندب إليه كثير من الأمراء والعلماء الروحانيين وأعيان البلد، وكنت قد حضرت من بلدي لقضاء بعض المصالح، فكنت ممن نُدب إليه، فعينت سفيرًا إلى الإسكندرية مع جماعة من الوطنيين، فلما وصلنا إلى الإسكندرية تكلمت في عمل طريقة لما يوجب خمود نيران هذه الفتنة، فأجاب الجناب الخديوي، وصارت المكالمة في هذا الشأن مع رؤساء الإنجليز، لكن لم ينجح ذلك لمزيد نفرة العسكرية، ولما خاف العرابي أن يتحول الإنجليز إلى جهة برزخ السويس، تحوَّل بأكثر عسكره إلى التل الكبير بالشرقية، فتحصنوا هناك، ووقع بينهم وبين الإنجليز مناوشات انتهت بانهزام عرابي وقومه، وسار الإنجليز إلى القاهرة، وأسلم العرابي نفسه، وقُبض على من كان معه ومن اتُّهم بالتشيع له، وسُجن الجميع في أضيق السجون، وبعد أن حضر الخديوي إلى القاهرة وهدأت الأمور عينت لجنة للتحقيق وأخرى للحكم على كل بقدر جنايته، وتم الأمر بعقوبة البعض والعفو عن البعض وتبرئة البعض، ولله عاقبة الأمور.
وإثر انهزام العرابيين تشكلت نظارة تحت رئاسة المرحوم شريف باشا في سنة ١٨٨٣ ميلادية، فكنت من أعضائها على ديوان الأشغال العمومية، فوجهت النظر نحو إتمام ما تقرر في المدة السابقة، وفي هذا العام أعني سنة ١٨٨٣ ميلادية نلت من لندن الحضرة الخديوية التوفيقية رتبة (روملي بيكلر بيك)، وفيها أيضًا كانت وابورات الخطاطبة غير كافية لاحتياجات أراضي المديرية، فحصل تنقيح الشروط التي كانت قد عملت مع مسيو داستون على تجديد وابورات بفم ترعة الخطاطبة، ولزيادة مقدار الماء نحو خمسة ملايين متر مكعب بعد أن كان الوارد ثلاثة ملايين، واتخذ الديوان طريق المقاولة في المباني على الإطلاق، ورتب لمراقبة ذلك من يلزم من المهندسين لئلا تخرج الأعمال عما في التعهدات، وجعل لذلك استمارة يجري العمل عليها، ثم أخذ في نقل جسور الترعة الأصلية كي لا تنال الأتربة فيها، وليتمكن من تكرار العمل، ولكثرة العمل قُسم على سنين، وجعل بعضه يعمل بالمقاولات على وجه التجربة، والبعض يعمل بأنفار العونة، ثم وُجهت الهمة نحو مرمة عمارات جميع المديريات وتجديد ما هو لازم، ورتبت كراكات بالمحمودية لاستدامة قطاعها، وصار مد الترعة الإبراهيمية لسقي زرع مديرية بني سويف، وترتيب كراكات بالإبراهيمية، وبنيت الورشة لترميم الآلات وتجديد ما يلزم، ورتب لها ما يلزم من الأدوات والصناع، وصرف على تطهيرها في هذه السنة نحو سبعة وعشرين ألف جنيه، وبلغ إيرادها في أشد التحاريق نحوًا من أربعة ملايين متر مكعب من الماء، ومثل ذلك صار في ترعة الإسماعيلية وصُرف عليها نحو أربعة وعشرين ألف جنيه، وكان بحر مويس يقل به الماء في زمن الصيف لكثرة الرمال بفمه، وحدوث الجزائر به وأمامه، ولا ينفعه التطهير الجاري به كل سنة، فرتبت به كراكة بأدواتها وعمالها فزالت منه الرمال وكثر الماء فيه وفي فروعه، واستقر الحال على استعمال الكراكات في الأبحر الكبيرة كالشرقاوية والمنصورية ورياح الوسط ورياح المنوفية والغربية، وأن يكون ذلك على التدريج، وبذلك تخفف التطهيرات الصيفية عن كاهل الأهالي، وما يتحصل من البدلية ربما يوازي ما يُصرف على الكراكات ولوازمها مع كثرة فوائد الكراكات جدًّا عن عمل الأنفار.
وأجريت في تلك السنة أعمال متنوعة فيما يخص التطهيرات والمحافظة على كوبري قصر النيل وسد أبي قير، وأنشئ بالشرقية مدرسة الزقازيق وديوان المديرية وملحقاته، وفي القاهرة أجرى تبليط الشوارع ومرمة أخرى وإنشاء مجارير، ومرمات مبانٍ وترتيب فوانيس غاز على حسب الحاجة، واشترى هراس بخاري وكناسات تجرها البهائم، وتنظيم جنات وميادين، وبلغ مصرف أعمال القاهرة في تلك السنة نحو خمسة وسبعين ألف جنيه، وكذا جرت عمائر وأعمال متنوعة بمدينة الإسكندرية وفي الأقاليم البحرية والقبلية، ففي مديرية الدقهلية قنطرة ترعة الساحل، وكوبري معدني على ترعة أم سلمة، وصار الشروع في جعل ترعة الإيراد في البحر الصغير مصرفًا لإحياء أراضي البحر االصغير، وترعة مستجدة بين أطيان الدراكسة وميت سويد وحوشة ببحيرة الطبلية، وفي الغربية صار الشروع في عمل قنطرة مدينة المحلة وقنطرة بسيون، وحولت ترعة سليم الآخذة من الخضراوية من نيلية إلى صيفية؛ ونقلت جسور ترعة الساحل، وفي البحيرة عملت حوشة جديدة على جزيرة الطيرية وتحويلة لجسر النيل بناحية النجيلة، وأخرى وقاية من بتبيت ناحية الأخماس، وفي القليوبية نُقلت جسور ترعة كوم بتين وعملت مساطيح لترعتي القرطامية وأبي المنجي، وفي مديرية بني سويف بنيت القناطر السبع في جسر قشيشة وسحارات تحت بعض الترع لنفوذ المياة الحمراء إلى الحيضان، وقناطر أخرى في الجسور للصرف، وعملت قنطرة بالحوض السلطاني، وفي الفيوم قناطر بحر الغرق، وسد فم بحر النزلة القديمة، وعملت به تحويلة لإيصاله بالبحر الأصلي، وفي مديرية المنية عملت قناطر بالحيضان كحوض الطهنشاوي وحوض الجرنوس، وكذا عمل في مديريتي جرجا وقنا.
وإلى ذاك الوقت لم يكن بالمديريات محلات كافية لدواوين الإدارة والقضاء والضبط ونحو ذلك، وكان الموجود منها مبنيًّا بالطوب النيء أو الدبش على غير نظام، وكانت السجون حجرًا مظلمة لا يدخلها النور إلا قليلًا، وكان أصحاب الجرائم على اختلاف جرائمهم يخزنون فيها كالأمتعة، يختنق داخلها بمجرد استنشاق هوائها، ففطنت الحكومة الخديوية لذلك وصدر الأمر بإنشائها فعمل ديوان الأشغال التصميمات اللازمة، وشرع في بنائها على التدريج، فبدأ بديوانيْ مديرية الشرقية والمنوفية، وكذا لم يكن بالمديريات مستشفيات داعية إلى الصحة، بل كان بعضها محل مصانع ونحوها وأكثرها متهدم، والسليم منها كمربط البهائم، فعملت تصميمات لتلك الأعمال على حسب أهمية كل مديرية بالكبر أو الصغر، وتدرجت الأعمال على السنين فعمل مستشفيا المنصورة والغربية في تلك السنة، وكذا الذبح كان في الفضاء وجاريًا على غير القانون ومنافع الحكومة منه قليلة، فبُني مذبح المنصورة والغربية، وجعلت تلك المباني مثالًا لما يبنى في سائر المديريات، وبنيت جملة مخازن للمصلح وقراقولات للعساكر وغير ذلك مما لا يسع المقام شرحه.
ولنذكر هنا بعض ملخص التقرير الذي عمل إذ ذاك بديوان الأشغال، وقُدم لمجلس النظارة بخصوص الري، واستيفاء أعمال سقي الزراعة الصيفية في زمن التحاريق، وإزالة صعوبة أعمال التطهير عن كاهل الأهالي واتساع نطاق الزراعة والمحصولات، فمن أهم ذلك إتمام ما يلزم لعملية ترعتي الرمادي والإبراهيمية وترعة أخرى مهمة في الأقاليم القبلية لإزالة غوائل الشراقى الذي يتوقع حصوله في بعض السنين، فإن ما يصرف في أعمال تلك الترع أو في ترتيب وابورات لتكميل ري الحيضان المرتفعة ولو كان كثيرًا في نفسه، لكنه قليل جدًّا في جنب ما تخسره الأهالي والحكومة عند حصول الشراقى، فقد كانت خسارة الحكومة وحدها سنة ١٨٧٧ ميلادية عندما كان النيل أقل من ١٧ ذراعًا وهبط بسرعة أكثر من مليون جنيه، ولا بد أن الأهالي كانوا بمثل ذلك أو أكثر، فضلًا عما قاسوه من الضنك والموت، وكثيرًا ما يكون النيل أقل من اللازم فتتكرر الخسائر، فمن الضرورى تدارك ذلك بإجراء تلك الأعمال للأمن على الأموال والأنفس، ومن ذلك بناء القناطر اللازمة في جسور الحيضان لتقل كمية الرديف السنوي، وتقل أنفار العونة، وفي الوجه البحري بدلًا عن المعالجة في القناطر الخيرية وكثرة الصرف عليها مع طول المدة بترتيب وابورات على شاطئ النيل كافية لسقي المزروعات، وقد جرى البحث عما يلزم لكل مديرية من الوجه البحري، فتبين أنه يكفي جميعها في اليوم والليلة خمسة وعشرون مليون متر مكعب من الماء، بما في ذلك مليون ونصف لمديرية الجيزة، وباعتبار أن الفدان يلزم له عشرون مترًا مكعبًا كل يوم، وأن وارد النيل في أشد التحاريق هو ثمانية وثلاثون مليونًا كل يوم؛ يكون الباقي في مجراه نحو ثلاثة عشر مليونًا، ومبلغ الخمسة والعشرين مليونًا المذكور موزع على مديريات بحري بحسب زمامها هكذا: لمديريتى القليوبية والشرقية خمسه ملايين منها ثلاثة ملايين وثلث من الوابورات التي وضع على الخليج المصري والشرقاوية والباسوسية، والباقي من النيل بواسطة الإسماعيلية وبحر مويس، ولمديرية الدقهلية أربعة ملايين: منها ثلاثة من الوابورات التي توضع على ترعة الساحل والبحر الصغير، والباقي من النيل بواسطة ترعتي أم سلمه والمنصورية بعد تطهيرهما بالكراكات حسب المطلوب، وللمنوفية والغربية عشرة ملايين منها: سبعة بالآلات البخارية وهي أربعة طقومة: واحد برأس روضة البحرين وآخر خلف القرينين، وثالث على ترعتي الساحل والخضراوية، والرابع بقرب فم البحر الصعيدي، والثلاثة الباقية من النيل بواسطة رياح الوسط، ولمديرية البحيرة أربعة ملايين ونصف من الوابورات الراكبة على المحمودية وترعة الخطاطبة خلاف ما يؤخذ من الرياح، ولمديرية الجيزة مليون ونصف بطقمي آلات أحدهما يوضع على الشاطئ الأيسر للنيل لري أراضي شرق أطفيح، والآخر في رأس المديرية القبلي قرب مصرف جرزة، وتقدم لديوان الأشغال من بعض الشركات المعتبرة طلب بتعهد إجراء تلك الأعمال، فبفرض معاملتها كنص شروط الخطاطبة، وجعل مدَّة الالتزام خمسًا وثلاثين سنة عملت حسبة في الديوان فظهر أن ما يلزم دفعه كل سنة لتلك الشركة مائتان وسبعة وثمانون ألف جنيه مصري موزعة على المديريات هكذا: على مديرية الجيزة تسعة وثلاثون ألفًا وثلاثمائة جنيه، وعلى القليوبية والشرقية تسعة وخمسون ألفًا ومائة جنيه، وعلى الدقهلية ثمانية وثلاثون ألفًا وستمائة وخمسون جنيهًا، وعلى المنوفية والغربية مائة ألف وألف وثمانية جنيهات، وعلى البحيرة تسعة وأربعون ألفًا، وباعتبار أن المزدَرَع صيفًا مليون فدان فقط يخص الفدان سبعة وعشرون قرشًا صاغًا تقريبًا بصرفه تستوفى الزراعة حقها من المياه بسهولة، وإذا اعتبر التوزيع بالنسبة لعموم الزمام يخص الفدان نحو عشرة قروش، ذلك قليل جدًّا في جنب ما تحصل عليه البلاد من الفوائد التي منها أن رفع المياه بالآلات إلى مستوى ثابت يضمن ثبات مقدار الكمية اللازمة للزراعة مهما بلغت درجة انحطاط النيل وذلك من أهم الأمور، ومنها تنقيص التطهير النسبي بمقدار مهم جدًّا، ومنها إنه بواسطة الآلات تنال الأراضي المرتفعة والمنحطة من الماء بقدر اللازم فقط، ومنها إنه فضلًا عن دوام استيفاء الكميات المقدرة من الماء، فمن الممكن زيادة ارتفاع الماء في الترع أو تنقيصه على حسب الحاجة، فيتوفر على الناس ما ينفقونه في سبيل رفع الماء بالسواقي ونحوها، ومنها إنه بواسطة رفع سطح الماء بحسب الطلب يمكن تحويل جميع الترع النيلية الداخلية إلى صيفية بدون إجراء حُفر فيها بحيث يتيسر استخدامها للزراعة الصيفية، فيتمتع الأهالي بالزراعة الصيفية بعد حرمانهم منها. وبالجملة فبجلب المياه إلى الترع بواسطة الآلات يصير مقدار تصرفها كافيًا كافلًا لاحتياجات الأراضي؛ إذ لا توجد أرض إلا وريها مرتب على ترع نيلية أو صيفية، وقد تكلمنا في كتابنا «نخبة الفكر» على ما يتعلق بالقناطر الخيرية بأبسط عبارة، فليراجع.
ولم تزل هيئة هذه النظارة قائمة على قدم السداد جادة فيما فيه عمارية البلاد وراحة العباد، إلى أن حدثت أمور أوجبت استعفاء النظارة، وتشكلت نظارة أخرى تحت رئاسة دولتلو نوبار باشا، وذلك في أواخر سنة ١٨٨٣ ميلادية، واستمرت إلى منتصف شهر يولية سنة ١٨٨٨ ميلادية (١٣٠٥ عربية)، ثم استعفى وسقطت النظارة، وبتاريخه صدر الأمر العالي الخديوي إلى الجناب المعظم ذي الدولة مصطفى باشا رياض بتشكيل نظارة تحت رئاسته مقلدًا حرسه الله مع ذلك نظارة الداخلية والمالية، فجعلت من رجال هذه النظارة مقلدًا أيضًا نظارة ديوان المعارف، وها أنا الآن قائم بهذا الأمر على حسب المصالح بقدر الإمكان والله المستعان.
وكنت في بلدتي مشغولًا بزراعة بعض أرض لي هناك كان قد مضى عليَّ نحو من ثلاثين سنة لم أتوجه إليها بسبب كثرة أشغالي بمصالح الحكومة. ومن طول المدة كانت آلت إلى التلف وصار أغلبها سباخًا، فلما طلبت لهذه الخدمة تركتها، وأخذت في تأدية ما فُرض عليَّ قيامًا بحق وطني، أسأله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لما فيه نفع العباد، وأن يختم لنا وللمسلمين بالخير إنه سميع مجيب الدعوات وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.