وصف بغداد
ويحدثنا المسعودي بألم شديد عن خَلع الخلفاء العباسيين وتنصيبهم على أيدي الجنود الأتراك؛ فإذا كان الأمين أول خليفة عباسي يموت قتلًا، فإن المتوكِّل (٨٤٧–٨٦١م) كان أول خليفة عباسي يقتله حراسه الأتراك، وكان الخليفة المعتصم (٨٣٣–٨٤٢م) مولعًا بشراء العبيد الأتراك، وتعليمهم فنون الحرب، واتخاذهم حراسًا له حتى بلغ عددهم حوله أربعة آلاف رجل، وقد أدرك المسعودي خطورة الجنود الأتراك الذين شجعهم نجاحهم على قتل المتوكِّل، فشاركوا في قتل خلفاء آخرين.
ولكن بغداد توسعت على ضفاف دجلة، فأُقيمت فيها دار الخلافة، وقصور، ومساجد، وحدائق، وبساتين، وكانت بِرك القصور مزيَّنة بأزهار اللوتس، والحدائق مزروعة بأنواع الورود، والنرجس، وشقائق النعمان، والبنفسج، والياسمين، والرمان، والقرنفل، والزنبق، والريحان، والأزاهير التي تملأ الجو بروائحها الزكية العطرة، ولم يبخل بعض الخلفاء بإنفاق الأموال على شراء الأشجار والنباتات من الهند، ونقلها عبر عُمان والبصرة، ويصف المسعودي حياة الحكام، وطباعهم، ولباسهم، وحراسهم، وآداب الدخول عليهم والتحدث إليهم، كما ويرسم لوحة كبيرة للولائم الليلية ولعب الشطرنج، ولأسواق بغداد وحماماتها، ودكاكينها وبضائعها، وأطعمتها وتجارها من عرب، وفُرس، وهنود، وصينيين.
غير أن سبب شهرة بغداد ليس القصور، والحدائق، والتجارة، بل هو أنها كانت مركز عِلم وثقافة يقصده طلاب المعرفة من جميع شعوب دولة الخلافة، كان الأولاد، وهم ما بين الخامسة والسابعة من العمر، يتعلمون القراءة والكتابة بحفظ القرآن الكريم على يد شيخ الجامع في كل حي، ويدرسون التفسير، والسيرة النبوية، والحديث الشريف، ثم ينتقلون إلى قراءة الشعر العربي وحفظه، من الجاهلية حتى أيامهم، وكان ذلك يتطلب من التلميذ الجد، والذكاء، والرغبة، والصبر الطويل، وبعد ذلك يستمع الطالب إلى أساتذة من كبار العلماء يُلقون دروسهم في المساجد، ويعطون الطالب شهادة بكل كتاب حفظه غيبًا، ونسخه أيضًا، ويستمر الطالب بالاستماع والحفظ حتى يصبح عالمًا، ولم يكن الناس قد عرفوا آلات الطباعة بعد، فكانت الكتب تنسخ بخط اليد، وهي صنعة يقوم بها نسَّاخون غالبًا ما يكونون من أبناء الفقراء، أما بيع الكتب فيقوم به الورَّاقون في دكاكينهم، وكانت المكتبات المنزلية في بيوت الميسورين ببغداد عادةً معروفة منذ أيام الخليفة المنصور الذي جمع مكتبة ضخمة في دار الخلافة، ولمَّا وصلت مكتبة الخليفة إلى المأمون (٨١٣–٨٣٣م) بالوراثة، جعل منها مؤسسة علمية شهيرة تعرف ﺑ «دار الحكمة». وكانت مكتبة الخليفة في بغداد، أيام المسعودي، تحتوي على أكثر من مئة ألف مخطوط مجلَّد، في حين لم تكن أكبر مكتبة في أوروبا تضم أكثر من بضع مئات من المخطوطات، كما شاعت مكتبات الوقف التي كان يتبرع بها أصحابها للمساجد ليقرأ مخطوطاتها من يريد، وكان أي شخص يأتي إلى بغداد يستطيع الحصول على ما يريد من الكتب، بل وعلى غرفة للإقامة، وأحيانًا على بعض المال للمصروف الشخصي.
(١) الحياة السياسية في عصر المسعودي
دامت مرحلة الازدهار في عهد الخلافة العباسية قرنًا من الزمن (١٣٢-٢٣٢ﻫ)، ثم حلَّت مرحلة سيطر فيها الأتراك تدريجيًّا على مقاليد الأمور، فباتوا مستبدين، يتحكمون بالسلطة وتنصيب الخلفاء: يخلعونهم، أو يقتلونهم، أو يسملون عيونهم … إذا ما بدرت منهم أي بادرة ترمي إلى استعادة السلطة الحقيقية أو الاستقلال بالقرار، وانتشر الانحلال والفوضى في السياسة والإدارة والحياة العامة.
وكان المعتضد بالله أول من منع الورَّاقين من بيع كتب الفلسفة والفكر، ومنع القصاصين من الجلوس في الطريق.
وفي عهده بدأ تفكُّك دولة الخلافة العباسية، فقد استولى عمرو بن الليث الصفَّار على معظم بلاد فارس؛ وظهر القرامطة في الكوفة بزعامة حمدان قرمط، وفي البحرين بزعامة أبي سعيد الجنابي؛ وقام ابن حوشب في اليمن بنشر الدعوة الفاطمية؛ وقام أبو عبد الله الشيعي بنشر الدعوة الفاطمية في بلاد المغرب
ومهَّد المعتضد بالله الأمور لابنه المكتفي بالله (٢٨٩–٢٩٥ﻫ)، فراح يقلِّد أباه، وفي عهده ازدادت أحوال الخلافة سوءًا، وكثرت الاضطرابات، غير أن عهده شهد أيضًا سقوط الدولة الطولونية على يد قائده محمد بن ليمان الكاتب سنة ٢٩٢ﻫ، وزوال نفوذ قرامطة الشمال سنة ٢٩٤ﻫ.
«كان ماُله جمًّا، وجيوشُه كثيفة … ولم يكن ممن يوصف بشجاعة ولا بجبن» (ص٣٧١).
ويصفه في «مروج الذهب» بأنه: «كان مع ذلك بخيلًا ضيِّقًا» (ج٤، ص٢٨٠).
وفي عام ٢٩٥ﻫ آلت الخلافة إلى المقتدر بالله (٢٩٥–٣٢٠ﻫ) وعمرُه ثلاث عشرة سنة.
غير أنه عُزِل، فتولَّى الخلافة بعده المرتضي بالله وهو الشاعر عبد الله بن المعتز.
وسرعان ما انتشرت الفوضى والقتل والنهب في بغداد نتيجة اندلاع الصراع بين أنصار الخليفة المعزول، المقتدر، والخليفة الجديد، المرتضي بالله، وقد تمكن المقتدر من استعادة الخلافة؛ فألقى بخصمه المرتضي (ابن المعتز) في السجن، وظل في سجنه حتى مات.
يقول المسعودي في كتاب «التنبيه والإشراف» عن المقتدر إنه تولَّى الحكم وهو:
«صغير غِر تَرِف، لم يعان الأمور، ولا وقف على أحوال الملك، فكان الأمراء والوزراء والكتَّاب يدبرون الأمور، ليس له في ذلك حل ولا عَقد، ولا يوصف بتدبير ولا سياسة، وغلبَ على الأمر النساء والخدَم وغيرهم، فذهب ما كان في خزائن الخلافة من الأموال والعُدد بسوء التدبير الواقع في المملكة، فأدَّاه ذلك إلى سفك دمه، واضطربت الأمور بعده، وزال كثير من رسوم الدولة» (ص٣٧٧).
أمَّا ابن المعتز فيصفه المسعودي في «مروج الذهب» بأنه شاعر بارع، كان:
«أديبًا، بليغًا، شاعرًا، مطبوعًا، مجوِّدًا، مقتدِرًا على الشعر، قريب المأخذ، سهل اللفظ، جيد القريحة، حسَن الاختراع للمعاني» (ج٤، ص٢٩٣).
وقد عاصر المسعودي هذين الخليفتين، وشهد ما عاشت البلاد في عهدهما من أهوال وتقلُّبات.
ثم تفشَّت الفوضى والاضطرابات من جديد في بغداد بعد مقتل المقتدر وانتقال الخلافة إلى أخيه القاهر بالله (٣٢٠–٣٢٢ﻫ). ولم يَطُل العهد بالخليفة الجديد القاهر بالله حتى خُلع وسُمِلت عيناه، ولم يمضِ على خلافته إلا سنة وستة أشهر.
ولا يتردد المسعودي في الإدلاء بإدانة صريحة لِما اتصف به القاهر من طيش وقسوة، فيقول إنه كان:
وباعتلاء الراضي بالله عرشَ الخلافة في بغداد (سنة ٣٢٢–٣٢٩ﻫ) تبدأ مرحلة من الانهيار السياسي لم يسبق أن عرَفت سلطة العباسيين مثيلًا لها من قبل، فقد تخلَّى الخلفاء العباسيون عن السلطة الحقيقية لبعض رجالهم الذين لقِّبوا باسم [أمير الأمراء]، فوضع هؤلاء أنفسهم فوق الوزراء، وحلُّوا عمليًّا محل الخلفاء الذين انصرفوا إلى حياتهم الخاصة، تاركين السلطة وحياة الناس نهبًا للسرقة، والسطو، والمصادرة … والفساد من كل نوع.
كان الراضي آخر خليفة عباسي خُطِب له على منبر يوم الجمعة، ولم تكن سلطته تتعدى بغداد وضواحيها.
وكان حكم الخليفة المتَّقي لله (٣٢٩–٣٣٣ﻫ) منذ بدايته صراعًا دمويًّا مديدًا سقطت بغداد خلاله بأيدي جيش من الأتراك والديلم يقوده أبو الحسن البريدي، ثم تناوب البريديون والحَمدانيون على احتلال بغداد، فانتشر فيها اللصوص، وارتفعت الضرائب، ومات الناس جوعًا، ولجأ الخليفة إلى الحَمْدانيين خارج بغداد، ولم يعد إليها إلا بدعم مالي كبير طلبه سنة ٣٣٢ من محمد بن طغج الإخشيد حاكم مصر، غير أن الأتراك بزعامة توزون مَنَّوه بالوعود، ولمَّا صدقهم وعاد إليهم سملوا عينيه وألقوا به في السجن، ونصَّبوا المستكفي بالله الذي دام حكمه حوالي سنة وأربعة أشهر (٣٣٣-٣٣٤ﻫ).
وبعد ذلك، في تلك السنة (٣٣٤ﻫ) دخل البويهيون الفُرس بغداد، فسملوا عيني المستكفي دون قتله، ووضعوا مكانه خليفة هو المطيع لله (٣٢٤–٣٦٣ﻫ)، وسادت الفتن الطائفية في عهد المطيع لله الذي كان آخر خليفة عباسي عاصره المسعودي (توفِّي سنة ٣٤٥ﻫ).
(١-١) المسعودي والعلم والعلماء في عصره
(أ) كروية الأرض والجاذبية
قد يبدو غريبًا أن يكون المسعودي منذ القرن العاشر الميلادي يؤمن بكروية الأرض وبالجاذبية، غير أنه يتحدث بوضوح في «مروج الذهب» عن الكواكب والأفلاك، وعن:
«الدلائل على أن السماء على مثال الكرة وتدويرها بجميع ما فيها من الكواكب كدورة الكرة، وأن الأرض بجميع أجزائها من البر والبحر على مثال الكرة، وأن كرة الأرض مثبَّتة في وسط السماء كالمركز، وقدرُها عند قدر السماء قدر النقطة التي في الدائرة صِغرًا … وأن الأرض مع ما وصفنا تدويرَها موضوعة في جوف الفلك كالمُحَّة في البيضة، والنسيم جاذب أيضًا لِما في أبدان الخلق من الخفَّة، والأرض جاذبة لما في أبدانهم من الثقل، إذ كانت الأرض بمنزلة حجر المغناطيس الذي يجذب بطبعه الحديد» (ج٢، ص٢١٧-٣١٨).
وعندما يتحدث المسعودي عن خط الاستواء، والقطبين، وأقاليم الأرض السبعة نجده يذكر أسماء أكبر العلماء الذين سبقوه في هذا المجال من يونان وعرب، وينتقد من ينسب إلى نفسه عِلم غيره، فيقول، مثلًا:
«وقد حرر ذلك في كتابه أبو حنيفة الدَّينوري، وقد سلب ذلك ابن قتيبة ونقله إلى كتبه نقلًا وجعله عن نفسه! وقد فعل ذلك في كثير من كتب أبي حنيفة الدَّينوري [الذي] كان ذا محل من العلم كبير، ولبطليموس في كتاب المجسطي، وغيره ممن تقدم، ثم لمن طرأ بعد ظهور الإسلام، مثل الكندي، وابن المنجِّم، وأحمد بن الطيب، وما شاء الله، وأبي معشر، والخوارزمي، ومحمد بن كثير الفرغاني فيما ذكره في كتابه «الفصول الثلاثين»، وثابت بن قرة، والتبريزي، ومحمد بن جابر البتاني، وغير هؤلاء ممن قد عُني بعلوم الهيئة، علوم كثيرة في هذا المعنى» (ج٢، ص٢١٩).
(ب) أساتذته
كان من بين أساتذة المسعودي في بغداد علماء مشهورون، منهم الواقدي، وابن دريد، والأنباري، وأبو بكر الصولي، وقد اطلع المسعودي، كما نرى في كتبه، على أعمال طائفة كبيرة من الجغرافيين العرب الذين عاصروه أو سبقوه، أمثال اليعقوبي، وقدامة بن جعفر، والرياضي الكبير الخوارزمي، والفيلسوف الكندي، والجغرافي والفلكي البتَّاني الذي ذاعت شهرته في أوروبا تحت اسم باطيغينوس، وغيرهم.
لقد كان المسعودي يحلم بوضع كتاب عن جغرافية الأرض وتاريخ الشعوب.
ويلقي العالِم التركي، الألماني الجنسية، فؤاد سزكين الضوء على ظهور هذه الخريطة فيقول إنها لم تكتشف إلا في مطلع ثمانينيات القرن العشرين، وإنه يحتفظ بنسخة منها مأخوذة من موسوعة عربية تعود إلى سنة ٧٤٠ﻫ/١٣٤٠م.
(ﺟ) ثقافَته ونظرته النقدية
حقًّا، إن من يقرأ كتب المسعودي يستدل على سعة ثقافته بسهولة، وتظهر جليَّة في كتابه «التنبيه والإشراف» معرفته الواسعة بالعلوم، وتاريخ الفرس، وفلسفة اليونان، وديانات العالم … وتكفي نظرة سريعة إلى الباب الأول من كتابه «مروج الذهب» (ص٢٠–٢٦) ليرى القارئ قائمة طويلة بأسماء المؤلفين الذين سبقوه وعاصروه، وتقويمًا أو نقدًا لكتب بعض منهم، ففي تلك الصفحات نراه، مثلًا، يُثني ثناء خاصًّا على الطبري، قائلًا:
«وأما تاريخ أبي جعفر محمد بن جرير الطبري الزاهي على المؤلفات، والزائد على الكتب (المصنفات)؛ فقد جمع أنواع الأخبار، وحوى فنون الآثار، واشتمل على صنوف العلم، وهو كتاب تكثر فائدته، وتنفع عائدته، وكيف لا يكون كذلك ومؤلفه فقيه عصره، وناسك دهره، إليه انتهت علوم فقهاء الأمصار، وحملة السنن والآثار!» (ج١، ص٢٣).
ويثني أيضًا على تاريخ أبي عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة الواسطي النحوي الملقب بنفطويه الذي يصفُه بأنه:
«أحسن أهل عصره تأليفًا، وأملحُهم تصنيفًا» (ج١، ص٢٣).
كذلك يُقدِّر المسعودي عاليًا ما كتبه محمد بن يحيى الصولي لأنه:
«ذكر غرائب لم تقع لغيره، وأشياء تفرَّد بها لأنه شاهدها بنفسه، وكان محظوظًا من العلم، ممدودًا من المعرفة، مرزوقًا من التصنيف وحسن التأليف» (ج١، ص٢٣-٢٤).
كما يُشيد بالكاتب قدامة بن جعفر:
«فإنه كان حسن التأليف، بارع التصنيف، موجزًا للألفاظ، مقرِّبًا للمعاني» (ج١، ص٢٤).
بينما يوجِّه المسعودي نقده إلى معاصره ثابت بن قرة الذي كان عالِمًا بعلم إقليدس والفلك والفلسفة … فينحو عليه باللائمة لأنه كتب واشتغل بغير العلوم التي يجيدها:
«حين انتحل ما ليس من طريقته … عيبُه أنه خرج عن مركز صناعته، وتكلَّف ما ليس من مهنته» (ج١، ص٢٤-٢٥).
ولا يفوت المسعودي أن ينتقد الجاحظ الذي ظن أن نهر مهران في بلاد السند هو من نهر النيل بدليل وجود التماسيح في كلا النهرين (ج١، ص١٠٩).
كذلك يصحح المسعودي ما ذكره الجاحظ في كتابه «الحيوان» عن أن الكركدن (وحيد القرن) يكون في بطن أمه سبع سنين، في حين أن: «حمله وفصاله كالبقر والجواميس، ولست أدري كيف وقعت هذه الحكاية للجاحظ، أَمِن كتاب نقلها أو مخبر أخبره بها؟» (ج١، ص١٨٣).
ويستغرب المسعودي هذه وغيرها من ظنون الجاحظ وأخباره، فيلومه، ويعزو أغلاطه إلى سبب رئيس، قائلًا:
«لأن الرجل لم يسلك البحار، ولا أكثر الأسفار …، وإنما كان ينقل من كتب الورَّاقين» (ج١، ص١٠٩).
إلا أن المسعودي ينظر بموضوعية وإنصاف إلى الجاحظ فيصف كتبه بأنها: «تجلو صدأ الأذهان، وتكشف واضح البرهان، لأنه نظمها أحسن نظم، ورصفها أحسن رصف، وكساها من كلامه أجزل لفظ …، وسائر كتبه في نهاية الكمال …، ولا يُعلَم ممن سلف وخلف من المعتزلة أفصح منه» (ج٤، ص١٩٦-١٩٧).
يقول كاترمير في ما يُعَد شهادة على ثقافة المسعودي وسعة اطلاعه:
وفي مقدمته يذكر عبد الله الصاوي الذي «راجع وصحح» ما يُعتقد أنه جزء من كتاب المسعودي «أخبار الزمان»، طبعة سنة ١٩٣٨م، أن هذا الرحالة الكبير «كان ملمًّا بعدة لغات، وكان ذا حظ وافر من الثقافات.»
ويذكر باحثون أن المسعودي تعلم كثيرًا من اللغات، كالفارسية والهندية واليونانية والرومية والسريانية.
فهو يكشف عن دراية واسعة بكتب اليونان («الجغرافيا» و«المجسطي» لبطليموس، و«المنطق» لأرسطو …)، ويذكر أسماء أكثر من مائة من مشاهير العلماء والأدباء والمؤرخين الذين قرأ كتبهم، ويعبر عن رأيه فيهم وفيما كتبوه، فهو يشير إلى ما خُصَّ به كل منهم من ميزات وصفات جعلته أهلًا للتقدير والتفرد في علمه.
ويظهر جليًّا من أقوال المسعودي الكثيرة مدى تدقيقه وحرصه على تمحيص ما يقرأ أو يسمع أو يرى، وذلك توخِّيًا للأمانة العلمية، وسعيًا منه لبلوغ الحقيقة التي يقلبها المنطق ويمكن إثباتها؛ فهو ينفي ما كان شائعًا، مثلًا، من أن بحر قزوين متصل بالبحر الأسود، فيقول في هذا الخصوص:
«وقد غلط قوم زعموا أن البحر الخزري [بحر قزوين] يتصل ببحر مانطس [البحر الأسود]، ولم أرَ فيمن دخل بلاد الخزر من التجار ومَن ركب منهم في بحر مانطس ونيطس [بحر مرمرة] إلى بلاد الروس والبلغر [البلغار] أحدًا يزعم أن بحر الخزر يتصل ببحر من هذه البحار أو بشيء من مائها أو من خلجانها … وسنذكر كيف دخل الروس في المراكب إلى بحر الخزر، وذلك بعد الثلاثمائة [٣٠٠ﻫ]، ورأيت أكثر مَن تعرض لوصف البحار ممن تقدم وتأخر يذكرون في كتبهم أن خليج القسطنطينية الآخذ من نيطس [بحر مرمرة] يتصل ببحر الخزر! ولست أدري كيف ذلك، ومن أين قالوه؟ أَمِن طريق الحدس أم من طريق الاستدلال والقياس؟ … ولم أترك ممن شاهدت من التجار ممن له أدب وفهم ومَن لا فهم عنده من أرباب المراكب إلا سألته عن ذلك، وكل يخبرني أنَّ لا طريق له إليها [إلى بلاد الخزر] إلا من بحر الخزر حيث دخلت إليه مراكب الروس …» (ج١، ص١٣٦).
ويورد المسعودي فيما وصلنا من كتبه كثيرًا من الشعر والحديث عن الشعراء والعلماء والفقهاء في عصره. ونجد عنده كذلك تقويمًا لأولئك الأعلام وما أبقوه للأجيال بعدهم، ومن ذلك، مثلًا، قوله عن الشاعر ابن بسام (ت.٣٠٣ﻫ):
«كان شاعرًا لَسِنًا، مطبوعًا في الهجاء، ولم يسلم منه وزير ولا أمير، ولا صغير ولا كبير، وله هجاء في أبيه وإخوته وسائر أهل بيته» (ج٤، ص٢٩٦).
(د) المسعودي وتحكيم العقل
نقرأ في الجزء الأول من «مروج الذهب» (ص٢١١) أخبارًا تناقلتها العرب عن كائنات مزعومة كالعَربَد، والنسناس، وعنقاء مُغرِب، وعن خلق الخيل … إلخ، غير أن المسعودي عندما يعود إليها في الجزء الثاني من كتابه نراه يُخضعها لحكم العقل، ولا يؤكد صحتها، بل يقول إنها «من هوس العامة واختلاطها» (ص٢٢٦)، ويعقِّب على خبر النسناس والعربد قائلًا:
«واللهُ أعلم بصحة هذا الخبر، وليس لنا في ذلك إلا النقل، وأن نعزوه إلى راويه، وهو المقلَّد بعلم ذلك فيما حكاه ورواه» (ص٢٢٦-٢٢٧).
وتعقيبًا على ذِكره ما يزعمه الناس من أخبار عن النسناس والعنقاء وخلق الخيل، يبرئ المسعودي ذمته فيضيف في مكان آخر:
«ولولا أن المصنف حاطب ليل لذكره في تصنيفه من كل نوع لما ذكرنا هذه الأخبار، إذ إن الناس من أهل العلم والدراية في قبول الأخبار على وجوه» (ج٢، ص٢٢٩)؛ أي إن المؤلف، وهو مَن يجمع الأخبار في كتاب، يدون كل شيء، وأهل المعرفة يختلفون في قبول هذه الأخبار أو رفضها، تلك كانت طريقة القدماء.
وزيادة في توضيح موقفه من هذه المرويات التي تبعث على الشك بصحتها، يشدد المسعودي على رسم منهجه العلمي في الكتابة بقوله القاطع:
«وما ذكرنا من حديث النسناس والعنقاء وخلق الخيل فغير داخل في أخبار التواتر الموجبة للعمل، واللاحقة بما أوجب العمل دون العلم، ولا بالأخبار المضطرة لسامعها إلى قبولها عند ورودها واعتقاد صحتها عن مُخبرها، وهذا النوع من الأخبار قد قدَّمنا أنها في حيِّز الجائز الممكن الذي ليس بواجب ولا ممتنع» (ج٢، ص٢٣٠).
ويوجه المسعودي نقده الصريح لبعض «ما زعم الأخباريون من العرب، وخروجهم بذلك عن حد المعقول والمعتاد من الأمر المفهوم» (ج٢، ص١٤٦)، أي لما يجده من أخبار متداولة، ولكنها منافية للعقل.
وعندما يذكر أخبارًا لا يقوم عليها برهان تاريخي، أو يصعب تصديقها، نراه يحتكم في قبولها أو رفضها إلى موقف الشريعة والدين منها، فيقول في «مروج الذهب»:
«وإنما نحكي هذه الأخبار على حسب ما وجدناه في كتب الأخباريين، وعلى حسب ما توجبه الشريعة والتسليم لها، وليس قصدنا من ذلك وصف أقاويل أصحاب القِدم؛ لأنهم ينكرون هذا ويمنعونه، وإنما نحكي في هذا الكتاب أقاويل أصحاب الحديث المنقادين للشرع والمسلِّمين للحق، وأخبار الشياطين على حسب ما نطق به الكتاب المنزل على النبي المرسل، وما قارن ذلك من الدلائل الدالة على صدقه [ ﷺ]، وإعجاز الخليقة أن يأتوا بمثل هذا القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه» (ج٢، ص٨٣).
فالمسعودي يؤكد فيما يرويه على أهمية العقل والبرهان وصحة الدلائل، ويبتعد عن تصديق كل ما هو مخالف لذلك، أي عن تصديق ما لا يقوم إلا على الشائع والمنقول، والرواية، فيقول:
«وقد أتينا، بحمد الله، على شرح ذلك، وما انتظم من الدلائل الدالة على مصداق ما ذكرنا فيما سلف من كتبنا في هذه المعاني المقدم ذكرها، ولم نتعرض لذكر ما لم يصح عندنا في العالم وجوده حسًّا ولا خبرًا قاطعًا للعذر ولا دافعًا للريب ومزيلًا للشك كأخبار العامة في كون النسناس، وأن وجوههم على نصف وجه الناس، وأنهم ذوو أنياب، وقولهم في عنقاء مُغرِب.
وقد زعم كثير من الناس أن الحيوان الناطق ثلاثة أجناس: ناس، نسناس، ونسانس، وهذا محال من القول، لأن النسناس إنما وقع هذا الاسم على السُّفلة من الناس والرُّذال، وقد قال الحسن: ذهب الناس وبقي النسناس.
وقال الشاعر:
أراد بهما وصفنا: أي ذهب الناس وبقي مَن لا خير فيه.
وقد ذهب كثير من الناس إلى أن الجن نوعان: أعلاهم وأشدهم الجنُّ، وأخفضهم وأضعفهم الحِنُّ، وأنشد الراجز:
وهذا التفصيل بين الجنسين من الجن لم يرِد به خبر، ولا صح به أثر، وإنما ذلك من توهُّم الأعراب على حسب ما بيَّناه آنفًا.
وقد غلب على كثير من العوامِّ الأخبار عن معرفة النسناس وصحة وجوده في العالم، كالأخبار عن وجوده في الصين وغيرها من الممالك النائية والأمصار القاصية؛ فبعضهم يخبر عن وجودها في المشرق، وبعضهم في المغرب، فأهل المشرق يذكرون كونها بالمغرب، وأهل المغرب يذكرون أنها بالمشرق، وكذلك كل صقعٍ من البلاد يشير سكانه إلى أن النسناس فيما بعُد عنهم من البلاد ونأى من الديار. …
ووجدتُ أهل الشِّحر من بلاد حضرموت وساحلها، وهي الأحساء مدينة على الشاطئ من أرض الأحقاف، وهي أرض الرمل وغيرها مما اتصل بهذه الديار من أرض اليمن وغيرها من عمان وأرض المَهرة، يستطرفون أخبار النسناس إذا ما حدثوها، ويتعجبون من وصفه، ويتوهمون أنه ببعض بقاع الأرض مما قد نأى عنهم وبعُد، كسماع غيرهم من أهل البلاد بذلك عنهم، وهذا يدل على عدم كونه [عدم وجوده] في العالم، وإنما ذلك من هوس العامة واختلاطها» (ج٢، ص٢٢٦).
كذلك ينظر المسعودي من زاوية ما نسميه اليوم بالسيكولوجيا (علم النفس) إلى ما يُعرف ﺑ «الهواتف والجان» (والهواتف هي ما يهتف «بصوت مسموع وجسم غير مرئي»)، فهو يورِد رأيًا يقول إن هذه الأشياء تعرض للناس بسبب: «التوحد في القفار، والتفرد في الأدوية، والسلوك في المهامِه والبراري الموحشة؛ لأن الإنسان إذا صار في مثل هذه الأماكن وتوحَّد تفكَّر، وإذا هو تفكَّر وجَل وجبُن، وإذا هو جبُن داخلَته الظنون الكاذبة، والأوهام المؤذية، والسوداوية الفاسدة، فصوَّرت له الأصوات، ومثَّلت له الأشخاص، وأوهمته المحال، بنحو ما يعرِض لذوي الوساوس، وقطب ذلك وأُسه سوء التفكير، وخروجه على غير نظام قوي أو طريق مستقيم سليم؛ لأن المتفرد في القفار والمتوحد في البراري مستشعر للمخاوف، متوهم للمَتالف، متوقع للحتوف، [وذلك] لقوة الظنون الفاسدة على فِكره، وانغراسها في نفسه، فيتوهم ما يحكيه من هتف الهواتف به واعتراض الجان له» (ج٢، ص١٦٥).
(ﻫ) كتبه
- (١) «أخبار الزمان ومن أباده الحِدثان من الأمم الماضية والأجيال الخالية والممالك الداثرة.» فيعده أشمل كتبه، وأكثرها إحاطة بما كان معروفًا من تاريخ العالم حتى عصره، ويقع كتاب «أخبار الزمان» في ثلاثين جزءًا لم يبقَ منها إلا جزء واحد في مكتبة فيينا، ونسخة من ذلك الجزء في دار الكتب المصرية بالقاهرة، وأخرى في المكتبة الأهلية بباريس.٩
- (٢) «الكتاب الأوسط» الذي يُعَد وسطًا بين «مروج الذهب» و«أخبار الزمان»، ويعتقد بعض الباحثين أن في مكتبة أكسفورد نسخة منه، وأنه «توجد في بعض دور الكتب في دمشق بعض أجزاء هذا الكتاب، وإن كان من العسير الجزم بذلك.»١٠
ويذكر المسعودي في تقديمه لكتاب «التنبيه والإشراف» سبعة من كتبه التي وضعها واحدًا تلو الآخر، فيرتبها على النحو التالي: «أخبار الزمان ومن أباده الحِدثان من الأمم الماضية والممالك الداثرة»، «الكتاب الأوسط»، «مروج الذهب»، «فنون المعارف وما جرى في الدهور السوالف»، «ذخائر العلوم وما كان في سالف الدهور»، «الاستنكار لما جرى في سلف الأعصار» (ص٢)، ثم الكتاب السابع المختصر وهو «التنبيه والإشراف» الذي يؤرخ فيه لما وقع من أحداث إلى وقتنا هذا وهو سنة ٣٤٥ للهجرة في خلافة المطيع (ص٦).
على أن المسعودي وضع كتبه الثلاثة هذه واحدًا تلو الآخر، أي بتسلسل زمني هو: (١) «أخبار الزمان»، (٢) «الأوسط»، (٣) «مروج الذهب»، إذ يقول: «وقد أتينا في الكتاب الأوسط الذي كتابنا هذا تالٍ له، والأوسط تالٍ لكتابنا أخبار الزمان» («مروج الذهب»، ج٤، ص٣٨٣).
ويؤكد المسعودي مرارًا كثيرة أنه لا يضع نفسه في هذا الكتاب («مروج الذهب») موضع المؤرخ الباحث والمحلل؛ فيقول في الجزء الأول، مثلًا: «إن كتابنا هذا كتاب خبر، لا كتاب آراء ونحل» (ج١، ص٦٩)، ثم «كتابنا كتاب خبر، لا كتاب بحث ونظر» (ج١، ص٨٨)، «وقد ذكرنا في مواضع كثيرة من كتابنا هذا جملًا من علوم النظر والبراهين والجدل تتعلق بكثير من الآراء والنحل، وذلك على طريق الخبر» (ج١، ص٤٠-٤١)، ويذكر المسعودي بكتبه حول المذاهب والبدع … قائلًا إنه لا يسجل في «مروج الذهب» إلا: «لُمعًا على طريق الخبر والحكاية للمذهب، لا على طريق النظر والجدل» (ج١، ص١٠٦).
-
«أخبار الزمان ومن أباده الحدثان من الأمم الماضية»
-
«الكتاب الأوسط»
-
«ذخائر العلوم وما كان في سالف الدهور»
-
«الإبانة عن أصول الديانة»
-
«المقالات في أصول الديانات»
-
«حدائق الأذهان»
-
«القضايا والتجارب»
-
«أخبار أهل البيت رضي الله عنهم»
-
«سر الحياة»
-
«الدعاوى»
-
«الرؤيا والكمال»
-
«طب النفوس»
-
«نظم الأدلة في أصول الملة»
-
«الاستبصار في الإمامة»
-
«الرءوس السبعة في الإحاطة بسياسة العالم وأسراره»
-
«الصفوة في الإمامة» … إلخ.
غير أنه لم يصل إلينا من تلك الكتب كلها إلا: جزء واحد من كتابه الشامل الأول «أخبار الزمان ومن أباده الحدثان»، و«مروج الذهب ومعادن الجوهر في تحف الأشراف والملوك» في أربعة مجلدات، و«التنبيه والإشراف» الذي كتبه في الفسطاط سنة ٣٤٤ﻫ ثم زاد فيه وصححه في سنة ٣٤٥ﻫ.
ولا سيَّما أن المسعودي يشير مرارًا في «مروج الذهب» إلى رحلاته في مطلع القرن الرابع الهجري (بعد سنة ٣٠٠، وسنة ٣٠٣ و٣٠٤ … إلخ).
وهذا ما يؤكد أنه بدأ رحلاته سنة ٣٠١ﻫ (انظر، مثلًا: المقدِّمة في كتاب: المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر. عُني به د. محمد هشام النعسان، عبد المجيد طعمة الحلبي، دار المعرفة، بيروت، ج١-٢، ط١، ٢٠٠٥م، ص٥).