رحلاته
يتحدث المسعودي في مستهلِّ كتابه الشهير «مروج الذهب ومعادن الجوهر» عن أسفاره ورحلاته التي يختلف الباحثون في تقدير مدتها، وتراوح تقديراتهم تلك المدة ما بين خمسة وعشرين عامًا وأربعين عامًا.
ويصف تلك الرحلات والأسفار في معرض اعتذاره عما قد يكون في كتابه من تقصير، فيعزو ذلك إلى:
«ما قد شاب خواطرنا، وعمر قلوبنا من تقاذف الأسفار وقطع القفار، تارةً على متن البحر، وتارة على ظهر البر، مستعلمين بدائع الأمم بالمشاهدة، عارفين خواصَّ الأقاليم بالمعاينة، كقطعنا بلاد السند والزنج والصين، وتقحمنا الشرق والغرب، فتارة بأقصى خراسان، وتارة بوسائط أرمينية وأذربيجان والران والبلقان، وطورًا بالعراق، وطورًا بالشام» (ج١، ص١٨-١٩).
غير أننا نتبين خطأ هذه التواريخ من أقوال المسعودي نفسه وهو يصف في «مروج الذهب» بلاد السند والقندهار والمولتان وكابل والقشمير (ما يعرف اليوم بباكستان وأفغانستان وإقليم كشمير)، عندما يقول: «وكان دخولي إلى بلاد المولتان بعد الثلاثمائة [٣٠٠ﻫ]، وكذلك كان دخولي إلى بلاد المنصورة في هذا الوقت» (ج١، ص١٧٩).
كما يحدثنا المسعودي عن بحر الزنج وسفره فيه قبل ذلك التاريخ (أي قبل ٣٠٩ﻫ) بسنوات، إذ يقول في «مروج الذهب»، مثلًا:
ويضيف بعد عدة صفحات قائلًا:
ويؤكد في مكان آخر من «مروج الذهب»:
ويتفق هذا التفصيل لرحلاته مع القائلين بأن المسعودي قام في عام ٣١٤ﻫ برحلة إلى مناطق أذربيجان وجورجيا، وتجول في الشام وفلسطين، وفي سنة ٣٣٢ﻫ قصد أنطاكية والثغور الشامية، ثم ظل يتنقل بين العراق وسورية ومصر، وقد استقر في فسطاط مصر التي كان يحكمها الإخشيديون تلك الأيام، وفي الفسطاط أكمل المسعودي (سنة ٣٣٦ﻫ) كتابه «مروج الذهب ومعادن الجوهر» الذي بدأ بكتابته سنة ٣٣٢ﻫ.
وقد شملت رحلاته الطويلة الهند، وإيران، وساحل أفريقيا الشرقي، وحوض قزوين، ومنطقة القوقاز، وشبه الجزيرة العربية، وسورية، فضلًا عن موطنه العراق، ثم استقر في مصر؛ حيث أمضى آخر سنوات حياته، وتوفي حوالي عام ٩٥٧ ميلادية، وقد وصلنا من مؤلفاته «مروج الذهب ومعادن الجوهر»، و«كتاب التنبيه والإشراف»، وجزء واحد من «أخبار الزمان».
على أن المسعودي لم يكتفِ بالترحال ووصف الأحوال والعادات والأديان أينما حل، بل ترك لنا معلومات صحيحة عن بلدان وشعوب لم يستطع زيارتها، فعندما يُحدثنا عن حاكم الواحات في بلاد النوبة، الواقعة بين مصر والحبشة، يقول إنه التقى صاحب هذا الحاكم في قصر الإخشيد محمد بن طغج (مؤسس الدولة الإخشيدية) في مصر سنة ٣٣٠ﻫ:
«وسألته عن كثير من أخبار بلدهم، وما احتجت أن أعلمه من خواصِّ أرضهم، وكذلك كان فعلي مع غيره في سائر الأوقات ممن لم أصل إلى بلادهم» (ج٢، ص٢٧).
- (١)
كي «يُبقي للعالم ذكرًا محمودًا، وعلمًا منظومًا، عتيدًا.»
- (٢)
لإدراكه أن «لكل إقليم عجائب يقتصر على علمها أهله، ليس من لزم جهة وطنه وقنع بما نُمي إليه من الأخبار عن إقليمه كمن قسم عمره على قطع الأقطار، ووزع أيامه بين تقاذف الأسفار، واستخراج كل دقيق من معدنه، وإثارة كل نفيس من مكمنه» (ج١، ص٢٠).
لم يكن المسعودي مجرد رحَّالة يسجل أهم الوقائع التاريخية والمواقع الجغرافية والمعالم الكبرى فيما يمرُّ به من دول وبلدان، بل كان رحالة نبيهًا يتوقف عند معلومات وتفاصيل قد تبدو ضئيلة الأهمية، ولكنها لا تقدر بثمن من وجهة نظر علم الاجتماع والإثنوغرافيا … كالحديث عن المناخ والتربة والأزياء والعادات الاجتماعية … إلخ. ونستدل على ذلك من بعض ما كان محط اهتمام المسعودي وموضع نظره في أثناء رحلاته، فهو يركز واعيًا في «مروج الذهب»، ولا سيما في الجزأين الأول والثاني منه، على ذكر كثير من أخبار العالم وخواص بقاعه وأبنيته وجباله وعجائبه، وما فيه من بشر وحيوان وغيره، وكذلك ما خُصَّ به كل بلد من أنواع الفواكه دون غيره من البلدان، وما يعرف به الناس في كل بلد من اللباس والأخلاق دون غيرهم، وأنواع الأغذية والمآكل والمشارب والعادات.
(١) بلاد فارس
انطلق المسعودي في أول رحلة استكشافية له من بغداد مع قوافل التجار إلى إيران، وهو في حوالي العشرين من عمره، وقد اختار إيران ليشاهد ما بقي من أطلال قصور الفرس ومعابدهم التي كثيرًا ما تحدث عنها العرب في كتاباتهم وأشعارهم، ومر في طريقه بالمدائن التي كانت عاصمة الملوك الساسانيين، وبالقصر المعروف فيها باسم إيوان كسرى الذي كان هارون الرشيد معجبًا به، كثير التردد عليه. وفي المدائن زار ضريح الصحابي سلمان الفارسي الذي أمر بحفر الخندق الشهير حول المدينة المنورة، عندما هاجمها المشركون.
ورأى المسعودي بين الري وطبرستان أعلى قمة في إيران، وعليها بركان دنباوند وارتفاعه ٥٦٠٤ أمتار، ثم اتجه جنوبًا إلى مدينة قم التي كان لمدرستها في التاريخ والجغرافيا شهرة واسعة في العالم الإسلامي، وتوجه بعد ذلك إلى أصفهان التي كانت قد وقعت فيها مذبحة قبل خمسين عامًا من زيارته، فرآها مدينة جديدة، يحيط بها سور منيع، محصن بمائة برج وأربعة أبواب، كانت مدينة غنية تعود عليها مناجم الفضة القريبة منها بأرباح طائلة، وفيها أيضًا زار أطلال معبد زرادشتي يُعَد في أشهر المعابد الوثنية الباقية على وجه الأرض، فقد كان المسعودي شديد الاهتمام بالزرادشتية، وهي ديانة وثنية ظهرت في إيران في القرن السادس قبل الميلاد على يد زرادشت الذي كان المسعودي حسن الاطلاع على مؤلفاته، وقدم لها عرضًا وافيًا في «مروج الذهب»، فقال إن النار في الزرادشتية هي إله الخير «أهورا مازدا» الذي لا يتوقف عن الصراع مع إله الشر «أنهرا مانيا»، ووالد هذين الإلهين هو الزمن السرمدي، واسمه الإله أردان.
ويؤمن الزرادشتيون بحلول يوم الحساب في آخر الزمان لينال أعداء إله الخير جزاءهم عذابًا أبديًّا …
وتظهر روح الدعابة عند المسعودي وموقفه من السياسة في عصره بقوله:
وإذا تحته بالعربية: «كذب بوداسف، الواجب على الحر إذا كان معه واحدة من هذه الثلاث الخصال أن لا يلزم باب السلطان» (ج٢، ص٢٤١).
وكان قائد قوات المسلمين الضحاك بن قيس قد قام بتدمير النوبهار حين استولى على بلخ، فلم ير المسعودي منه إلا الأطلال.
ونقرأ في «مروج الذهب»:
«وذكر عن الرشيد بعد القبض على البرامكة أنه بعث إلى يحيى بن خالد بن برمك، وهو في سجنه، يشاوره في هدم الإيوان [إيوان كسرى في المدائن]، فبعث إليه: لا تفعل.
فقال الرشيد لمن حضره: في نفسه المجوسية والحنو عليها، والمنع من إزالة آثارها.
فشرع في هدمه، ثم نظر فإذا يلزمه في هدمه أموال عظيمة لا تضبط كثرة، فأمسك عن ذلك، وكتب إلى يحيى يعلمه ذلك، فأجابه بأن ينفق في هدمه ما بلغ من الأموال، ويحرص على فعله.
فعجب الرشيد من تنافي كلامه في أوله وآخره، فبعث إليه يسأله عن ذلك، فقال: نعم، أما ما أشرت به في الأول فإني أردت بقاء الذكر لأمة الإسلام وبعد الصيت، وأن يكون من يرد في الأعصار [العصور] ويطرأ من الأمم في الأزمان يرى مثل هذا البنيان العظيم فيقول: إن أمة قهرت أمة هذا بنيانها فأزالت رسومها واحتوت على ملكها لأمة عظيمة شديدة منيعة، وأما جوابي الثاني فأخبرت أنه قد شرع في هدمه ثم عجز عنه؛ فأردت نفي العجز عن أمة الإسلام، لئلا يقول من وصفت ممن يرد في الأعصار: إن هذه الأمة عجزت عن هدم ما بنته فارس.
فلما بلغ الرشيد ذلك من كلامه قال: قاتله الله تعالى! فما سمعته قال شيئًا قط إلا صدق فيه، وأعرض عن هدمه» (ج١، ص٢٧٢).
ويكشف المسعودي عن معرفة عميقة وافية وشغف بتاريخ الفرس، فنراه يستفيض بالحديث عن ملوكهم وأخبارهم، ويقول إن «هذا كله مشروح في الكتاب المترجم المسمى بكتاب «السكيكين» الذي ترجمه ابن المقفع من الفارسية إلى العربية …، وتُعظمه الفرس لما تضمن من خبر أسلافهم وسير ملوكهم» (ج١، ص٢٣٨).
وهو يأتي على ذكر ملك الفرس لسهراب فيقول عنه إنه:
«عمر البلاد، وأحسن السيرة لرعيته، وشملهم بعدله …» ونال بني إسرائيل منه محن، وشتتهم في البلاد. … وقد ذكر كثير ممن عني بأخبار الفرس أن بختنصر مرزبان العراق والمغرب كان من قبل هذا الملك [لسهراب]، وهو الذي وطِئ الشام، وفتح بيت المقدس، وسبى بني إسرائيل، وكان من أمره بالشام والمغرب ما قد اشتهر، والعامة تسميه البخت نصر، وأكثر الإخباريين والقُصَّاص يغالون في أخباره، ويبالغون في وصفه … وإنما كان مرزبانًا … وتفسير مرزبان يراد به ربع من المملكة، وقائد عسكر، ووزير، وصاحب ناحية من النواحي، وواليها، وقد كان حمل سبايا بني إسرائيل إلى الشرق، وتزوج منهن امرأة يقال لها دينارد، فكانت سبب رد بني إسرائيل إلى بيت المقدس» (ج١، ص٢٤٠).
ولما كان الاهتمام بالمذاهب والديانات واسعًا في عصره يحدثنا المسعودي عن ظهور زرادشت وانتشار المجوسية حديث العارف، ويقدم لنا تعريفًا جيدًا بنبي المجوس زرادشت وبالمجوسية فيقول:
«تغلب كل رئيس ناحية على ناحيته، وكاتبهم الإسكندر، فمنهم فرس ونبيط وعرب، وكان مراد الإسكندر من ذلك تشتيت كلمتهم وتحزيبهم، وغلبة كل رئيس منهم على الصقع الذي هو به، فينعدم نظام الملك، والانقياد إلى ملك واحد يجمع كلمتهم ليرجع إليه الأمر. … وقد نصبت كل طائفة لها ملكًا لعدم [وجود] ملك يجمع كلمتهم، وذلك أن الإسكندر أشار عليه معلمه، وهو وزيره أرسطاطاليس، في بعض رسائله إليه بذلك، وكاتب الإسكندر ملك كل ناحية وملَّكه على ناحيته، وتوجه وحباه، فاستبد كل واحد منهم بناحية، فصار ملكه من بعده في عقبه، ممانعًا عما في يده، طالبًا للازدياد من غيره» (ج١، ص٢٤٦-٢٤٧)، أي انتقل الحكم إلى أولاده، يدافعون عما في أيديهم، ويطلبون الازدياد من أملاك غيرهم.
وبعد أن يذكر أسماء ملوك الطوائف وعدد سنوات حكم كل منهم، يقول المسعودي إن حكمهم دام ٥١٧ سنة:
«وذلك من ملك الإسكندر إلى أن ظهر أردشير بن بابك بن ساسان فغلب على ملوك الطوائف، وقتل أردوان الملك بالعراق، ووضع تاج أردوان على رأسه، وكان قد قتله في مبارزة على شاطئ دجلة، فهذا أول يوم يعد منه ملك أردشير لاستيلائه على سائر ملوك الطوائف. وتمهدت له البلاد، واستقامت دعائمها بملكه، فمن ملوك الطوائف من قتله أردشير بن بابك، ومنهم من انقاد إلى ملكه وأجاب دعوته» (ج١، ص٢٤٧).
ووفاءً للأمانة والموضوعية يضيف المسعودي في الصفحة نفسها، فينبه أولًا على أنه: «قيل في تاريخ سني ملوك الطوائف غير ما وصفنا، وإن مدتهم كانت أقل مما وصفنا»، وثانيًا إلى أن سبب اعتماده هذه المعلومات جاء عن وعي واختيار مدعوم في نظره بحجة قوية مقنعة:
«غير أن الذي حكيناه هو ما أخذناه عن علماء الفرس، وهم يراعون من تواريخ من سلف ما لا يراعيه غيرهم، لأن الفرس تدين بما وصفنا قولًا وعملًا، وغيرهم من الناس يقول ذلك قولًا ولا ينقاد إليه عملًا.»
- (١)
الأساورة (حماة الحرب) وأبناء الملوك، وكان مجلس هذه الطبقة عن يمين الملك، على بعد نحو من عشرة أذرع، وهؤلاء بطانة الملك وندماؤه ومحدثوه من أهل الشرف والعلم.
- (٢)
وجوه المرازبة (جمع مرزبان) وحكام الولايات والأقاليم، ومجلسهم يبعد مقدار عشرة أذرع من الطبقة الأولى.
- (٣)
وكان أردشير يقول:
«ما شيء أضر على نفس ملك أو رئيس أو ذي معرفة صحيحة من معاشرة سخيف أو مخالطة وضيع، لأنه كما أن النفس تصلح على مخالطة الشريف الأريب الحسيب، كذلك تفسد بمعاشرة الخسيس، حتى يقدح ذلك فيها، ويزيلها عن فضيلتها، ويثنيها عن محمود شريف أخلاقها، وكما أن الريح إذا مرت بالطيب حملت طيبًا تحيا به النفوس، وتتقوى به جوارحها، كذلك إذا مرت بالنتن فحملته ألمَّت به النفس، وأضر بأخلاقها إضرارًا تامًّا، والفساد أسرع إليها من الصلاح، إذ كان الهدم أسرع من البناء، وقد يجد ذو المعرفة في نفسه عند معاشرة السفلة الوضعاء شهرًا فساد عقله دهرًا» (ج١، ص٢٥٧).
ولعلنا نستطيع أن نستدل على آراء المسعودي السياسية إذا ما دققنا النظر في كثير من الوقائع والقصص التي يوردها في «مروج الذهب» ويصعب حصرها، فهي في الظاهر وقائع وحكايات مشوقة، فيها عبرة وإمتاع، ولكنها في باطنها تنطوي أيضًا على موقف من السياسة، وفهم لها يرتدي ثوب الحكمة والرواية الحيادية … فمن ذلك، مثلًا، أن الملك الفارسي بهرام بن بهرام استمع إلى الموبذان (كبير رجال الدين عنده) وهو ينصحه قائلًا: «أيها الملك السعيد جده، إن الملك لا يتم عزه إلا بالشريعة، ولا قوام للشريعة إلا بالملك، ولا عز للملك إلا بالرجال، ولا قوام للرجال إلا بالمال، ولا سبيل إلى المال إلا بالعمارة، ولا سبيل إلى العمارة إلا بالعدل، والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة، نصبه الرب، وجعل له قيمًا وهو الملك.
قال الملك: أما ما وصفت فحق، فأبن لي عما تقصد، وأوضح لي في البيان.
فلما سمع الملك هذا الكلام أقام في موضعه ذاك ثلاثة أيام، وأحضر الوزراء والكتاب وأرباب الدواوين، وأحضرت السجلات، فانتزعت الضياع من أيدي الخاصة والحاشية وردت إلى أربابها، وجروا على عاداتهم السالفة، وأخذوا في العمارة، وقوي من ضعف منهم، فعمرت الأرض، وأخصبت البلاد، وكثرت الأموال عند جباية الضرائب، وقويت الجنود، وقطعت مواد الأعداء، وشحنت الثغور، وأقبل الملك يباشر الأمر بنفسه في كل وقت من الزمان، وينظر في أمر خواصه وعوامه، فحسنت أيامه، وانتظم ملكه حتى كانت تدعى أيامه عيدًا لما عم الناس من الخصب وشملهم من العدل» (ج١، ص٢٦٦-٢٦٧).
وسأل الملك يزدجرد بن بهرام حكيمًا: «أيها الحكيم الفاضل، ما صلاح الملك؟
فقال: الرفق بالرعية، وأخذ الحق منهم من غير مشقة، والتودد إليهم بالعدل، وأمن السبيل، وإنصاف المظلوم من الظالم.
قال: فما صلاح أمر الملك؟
فقال: وزراؤه وأعوانه، فإنهم إن صلحوا صلح، وإن فسدوا فسد.
وقال له يزدجرد: إن الناس قد أكثروا في أسباب الفتن، فصف لي ما الذي يشبها وينشئها، وما الذي يسكنها ويدفنها؟
قال: يشبها ضغائن وينشئها جرأة عامة ولَّدها استخفاف بخاصة، وأكدها انبساط الألسن بضمائر القلوب، وإشفاق موسر، وأمل معسر، وغفلة ملتذ، ويقظة محروم. والذي يسكنها أخذ العدة لِما يُخاف قبل حلوله، وإيثار الجد حين يلتذ الهزل، والعمل بالجزم في الغضب والرضا» (ج١، ص٢٧٥).
(٢) السند والهند
السند هي الباكستان حاليًّا، وقد أسلمت على يد فاتحها محمد بن القاسم (٧١٢م) الذي لم يتقدم بعد نهر الهند بسبب وجود صحراء شاسعة، وفي بلاد السند زار المسعودي منطقة تعرف باسم مولتان لا تتقطع القوافل عن السير بينها وبين خراسان، وفيها مدينة اسمها بئورة (وهو اسم كل ملك يحكم القنوج في بلاد السند):
ثم قصد المسعودي عاصمة السند المنصورة، على اسم مؤسسها منصور بن جمهر الذي بناها عام ٨٧١م، وكان المسعودي، وهو بعد في بغداد، قد قرأ كثيرًا عن هذه المدينة في كتب النوبختي، والبلخي، واليعقوبي … ولكنه اكتشف كثيرًا من الأمور الجديدة فيها، ووصف ملامح الهنود، ولونهم، وبنيتهم، وأزياءهم، وشاهد لأول مرة فيلًا عن قرب، ثم سافر إلى مدينة الديبل، أهم ميناء في السند، وكان فيها معبد بوذي لدفن رفات بوذا وتلاميذه، كما كان يوجد بين سكانها أربعة آلاف عائلة عربية منذ فتحها المسلمون (٧١٢م)، ويحدثنا المسعودي عن دولة القنج في الهند، وكان فيها مسلمون يتمتعون بامتيازات كبيرة، ثم دمرها إندار الثالث، واستولى على عاصمتها بعد سنة من زيارة المسعودي لها.
وقد أولى المسعودي لغات شعوب الهند ومعتقداتهم الدينية اهتمامًا بالغًا، فكان أول مؤلف مسلم يقدم معلومات ثمينة عن الهندوسية، وهي الديانة الرئيسة في الهند، وكان مطلعًا على ما كتبه من سبقه من العرب عن تلك البلاد، مدركًا أهمية ما لم يأتوا على ذكره، أو لم يعرفوه، ومن أولئك أبو القاسم البلخي مؤلف كتاب «عيون المسائل والجوابات»، والحسن بن موسى النوبختي مؤلف كتاب «الآراء والديانات»، ففي هذين الكتابين يتحدث المؤلفان عن مذاهب الهند وآرائهم، وعن الأسباب التي من أجلها يحرقون أنفسهم في النيران، ويقطِّعون أجسامهم بأنواع العذاب، ولكنهما لا يتعرضان لشيء مما ذكره المسعودي ووصفه، كما يقول.
واستدراكًا لهذا النقص عند أسلافه يروي لنا المسعودي كيف يحرق بعض الناس أنفسهم عندما يموت الملك، وكيف يحرقون جسمه وينثرون رماده في الهواء، يقول:
«والهند تعذب نفسها على ما وصفنا بأنواع العذاب من دون الأمم، وقد تيقنت أن ما ينالها من النعيم، في المستقبل مؤجلًا، لا يكون بغير ما أسلفته من تعذيب أنفسها في هذا الدار معجلًا. ومنهم من يأتي إلى باب الملك يستأذن في إحراقه نفسه، فيدور في الأسواق وقد أججت له النار العظيمة، وعليها من قد وكل بإيقادها، ثم يسير في الأسواق وقدامه الطبول والصنوج، وعلى بدنه أنواع من خرق الحرير قد مزقها على نفسه، وحوله أهله وقرابته، وعلى رأسه إكليل من الريحان، وقد قشر جلده عن رأسه، وعليها الجمر وقد جعل عليها الكبريت والسندروس، فيسير وهامته تحترق، وروائح دماغه تفوح وهو يمضغ ورق التنبول والفوفل، والتنبول في بلادهم ورق ينبت كأصغر ما يكون من ورق الأترج، يمضغ هذا الورق بالنورة المبلولة مع الفوفل، وهو الذي غلب على أهل مكة وغيرهم من بقية أهل الحجاز واليمن مضغه بدلًا من الطين، ويكون عند الصيادلة للورم وغير ذلك، وهذا إذا مضغ على ما ذكرنا بالورق والنورة شد اللثة، وقوى عمود الأسنان، وطيب النكهة، وأزال الرطوبة المؤذية، وشهَّى الطعام، وبعث على الباه، وحمر الأسنان حتى تكون كأحمر ما يكون من حب الرمان، وأحدث في النفس طربًا وأريحية، وقوى البدن، وأثار من النكهة روائح طيبة خمرة، والهند خواصها وعوامها تستقبح من أسنانه بيض، وتجتنب من لا يمضغ ما وصفنا. فإذا طاف هذا المعذب لنفسه بالنار في الأسواق، وانتهى إلى تلك النار وهو غير مكترث ولا متغير في مشيته ولا متهيب في خطوته، ففيهم من إذا أشرف على النار وقد صارت جمرًا كالتل العظيم يتناول بيده خنجرًا — ويُدعى الجريء عندهم — فيضعه في لبته. وقد حضرت، ببلاد صيمور من بلاد الهند من أرض اللار من مملكة البلهرا، وذلك سنة أربع وثلاثمائة [٣٠٤ﻫ]، … فرأيت بعض فتيانهم وقد طاف على ما وصفنا في أسواقهم، فلما دنا من النار أخذ الخنجر فوضعه على فؤاده فشقه، ثم أدخل يده الشمال فقبض على كبده فجذب منها قطعة وهو يتكلم، فقطعها بالخنجر، فدفعها إلى بعض إخوانه تهاونًا بالموت ولذة بالنقلة، ثم هوى بنفسه في النار.
وإذا مات الملك من ملوكهم أو قتل نفسه، حرق خلق من الناس أنفسهم لموته، يدعون هؤلاء البلانجرية، وأحدهم بلانجري، وتفسير ذلك: المصادق لمن يموت، فيموت بموته، ويحيا بحياته» (ج١، ص٢٢٠-٢٢١).
(٣) الشواطئ الأفريقية
غادر المسعودي الهند أواخر سنة ٩١٦م، باتجاه ساحل أفريقيا الشرقية، عبر المحيط الهندي الذي كان يسمى بحر الحبشة، وهو يتحدث عن وجود عرب بين السكان الأصليين الذين يصنعون حليهم من الحديد، وليس من الذهب والفضة. ويقول: إن الزنوج يحكمهم مسلمون في جزيرة بيمبا التي يسميها كامبالا، وتقع على مسافة يومين من البر، قريبًا من شواطئ تنزانيا اليوم، ويولي المسعودي اهتمامًا كبيرًا لحياة القبائل في البر الأفريقي، فيشير إلى أن بعض القبائل تقتل ملكها إذا كان ظالمًا لا يحكم بالعدل، ثم تختار ملكًا بدلًا منه.
ويتغذى الزنوج بالموز المتوفر بكثرة في شرق أفريقيا، وبالذرة، والعسل، واللحوم. وهم لا يعرفون الخيل، فيركبون البقر، وعلى ظهورها يحاربون ويتقاتلون، بدلًا من الإبل والخيل، وأبقارهم تجري كالخيل بسروج ولجم، ورأى المسعودي نوعًا من هذا البقر يبرك كما يبرك الجمل، ويسير بحمله كما تسير الجمال …
وللصيد مكانة كبيرة في حياتهم، وخاصة صيد الفيلة، وهي عندهم أكثر عددًا مما في الهند، ولكنها غير قابلة للتدجين، أي إنها ليست حيوانات أليفة تعيش إلى جانب الإنسان، كالأبقار والأغنام والخيل والإبل … إلخ، فهم لا يستخدمونها في الحرب أو العمل، وإنما يصطادونها بطريقة خاصة، وذلك طمعًا بما لها من أنياب العاج الغالي الثمن الذي يصدرونه إلى البلدان الأجنبية، كما أنهم يصنعون من جلود الفيلة دروعًا متينة.
وفي رحلته عبر إفريقيا يصف المسعودي الحبشة ومصر وبلاد النوبة، فيدهشنا بدقة الملاحظة والمعرفة التفصيلية بكل ما يتطرق إليه قلمه، وما يلتفت إليه نظره، فهو يحدثنا عن أنواع معدن الزمرد الذي يوجد في موضع يعرف بالخربة من الصعيد الأعلى من أعمال مدينة قفط المصرية، ويبعد عنها مسيرة سبعة أيام، فيقول إن الزمرد الذي يقتلع من هذا المكان أربعة أنواع:
النوع الأول منها يعرف بالمر، وهو أجودها وأغلاها ثمنًا، وهو شديد الخضرة كثير الماء، وخضرته شديدة الشبه بخضرة السلق، وهذا اللون غير كدر ولا ضارب إلى السواد.
النوع الثاني يدعى بالبحري، أي إن ملوك البحر من السند والهند والزنج والصين ترغب في هذا النوع من الزمرد، وتباهي في استعماله في تيجانها وأكاليلها وخواتيمها وأسورتها، وهو يلي المر في الجودة، وتشبه خضرته الغض من ورق الآس في أوائل الغصن وأطرافه.
والنوع الثالث يعرف بالمغربي، لأن ملوك المغرب من الإفرنج والأندلس والصقالبة والروس … يتنافسون في هذا النوع من الزمرد كتنافس ملوك الهند والصين في النوع المعروف بالبحري.
والنوع الرابع يسمى بالأصم، وهو أدنى الأنواع وأقلها ثمنًا، لقلة مائه وخضرته المتفاوتة الدرجات.
وأجود أنواع هذا الجوهر وأغلاها في الثمن هو أكثرها ماءً وخضرة، وخلوًا من أي نقاط وعروق، وأصفاها وأنقاها من السواد والصفرة وغير ذلك من الألوان.
وأهل الدراية بهذا الجوهر يعرفون أن الحيات والأفاعي وسائر أنواع الثعابين وغيرها إذا أبصرت الزمرد الخالص سالت أحداقها، وأن الملسوع إذا سقي من الزمرد الخالص على الفور أمن على نفسه من أن يسري السم في جسده، ولا يوجد شيء من أنواع الحيات يقرب من معدنه وأرضه، على أن الزمرد هو أخف الجواهر المعدنية وزنًا.
ثم يصف المسعودي شواطئ الحبشة، عندما يمر بمحاذاتها راكبًا سفينة، فيقول إنها بلاد واسعة يحكمها النجاشي.
وبعد أن دار المسعودي حول منطقة القرن الإفريقي، توقف في جزيرة يسميها سوقطرة، قبالة شاطئ اليمن، ثم تابع رحلته البحرية إلى أحد الموانئ الغنية في عمان.
(٤) اليمن
ولم يطل المقام بالمسعودي في العراق، فحج إلى الكعبة في مكة المكرمة وهو في طريقه إلى اليمن عبر الجزيرة العربية.
وكانت صنعاء في تلك الأيام تحت حكم سلالة بني يعفر، وفيها شاهد المسعودي أطلال قصر غمدان الذي بناه أحد ملوك اليمن في القرن الأول قبل الميلاد، ثم دمره الأحباش في القرن السادس الميلادي، قبل أن يطردهم سيف بن ذي يزن بالتعاون مع شاه إيران، وقبل أن يعيد بناءه من جديد.
وبيت غمدان الذي بمدنية صنعاء من بلاد اليمن هو الخامس بين البيوت المعظمة السبعة المتخذة على أسماء الكواكب: الشمس، والقمر، والزهرة، والمشتري، وزحل، والمريخ وأورانوس.
وأول تلك البيوت: البيت الحرام، والثاني: بيت مارس (المريخ) على رأس جبل بأصبهان، والثالث: بيت مندوسان بالهند، والرابع: (بيت البرامكة) النوبهار بمدينة بلخ من خراسان على اسم القمر.
يقول المسعودي عن بيت غمدان: إن «الضحاك بناه على اسم الزهرة، وخربه عثمان بن عفان رضي الله عنه، فهو في وقتنا هذا — وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة ٣٣٢ﻫ — خراب، قد هدم فصار تلًّا عظيمًا، وقد كان الوزير علي بن عيسى بن الجراح، حين نفي إلى اليمن وصار إلى صنعاء، بنى فيه سقاية وحفر فيه بئرًا.
ورأيت غمدان ردمًا وتلًّا عظيمًا قد انهدم بنيانه، وصار جبل تراب كأنه لم يكن. وقد كان أسعد بن يعفر، صاحب قلعة كحلان النازل بها وصاحب مخاليف [قلاع] اليمن في هذا الوقت، وهو المعظم في اليمن، أراد أن يبني غمدان، فأشار عليه يحيى بن حسين الحسني أن لا يتعرض لشيء من ذلك، إذ كان بناؤه على يدي غلام يخرج من أرض سبأ وأرض مأرب يؤثر في صقع من هذا العالم تأثيرًا عظيمًا.» (ج٢، ص٢٤١).
كما أن المسعودي زار السد العظيم الذي أقيم في مأرب (سد مأرب)، عاصمة مملكة سبأ، شمال شرقي صنعاء. ولكن سيولًا قويةً كانت قد دمرت السد في القرن السادس الميلادي، فوصف البساتين والكروم قائلًا إن المرء يستطيع أن يسير فيها مدة ثلاثة أيام، وفي جميع الاتجاهات، راكبًا على الخيل، دون أن تفارقه ظلال الأشجار المثمرة.
وفي طريق العودة إلى العراق وصف المسعودي أحوال البدو، وعاداتهم، وأخلاقهم.
(٥) الخزر والروس وجبال القوقاز
وبعد مدة أمضاها في بغداد سافر المسعودي إلى إيران المطلة على شواطئ قزوين، وهناك ركب سفينة تجارية مرت بعدد من الجزر، وعند شواطئ أبشيرون شاهد منابع نفط تحت الماء فظنها براكين.
- (١)
التعرف عن قرب إلى أخبار الخزر والبلغار وإمارة كييف الروسية.
- (٢)
التأكد مما إذا كان بحر قزوين جزءًا من البحر الأسود، كما كان يعتقد العرب جازمين، أم إنهما بحران منفصلان، كما تبين له خلال رحلته هذه.
لقد نشأت مملكة الخزر في القرن السابع الميلادي، وكانت عاصمتها آمل تقع على نهر يقسمها ثلاثة أقسام هو نهر الفولغا، وتقع في وسط هذا النهر جزيرة فيها دار الملك، وكانت الحركة بين الجزيرة والبر تجري عبر جسر من السفن، ومدينة آمل يسكنها مسلمون ونصارى ويهود ووثنيون، ويحكمها ملك من اليهود الخزر يلقب بالخاقان.
ويذكر المسعودي كيف أن الخزر، وهم من القبائل التركية، لم يكونوا يهودًا، وإنما اعتنقوا اليهودية، وهذه حقيقة تؤكد أن معظم يهود أوروبا الشرقية هم من أبناء أولئك الخزر الذين لا يربطهم بفلسطين أي رابط تاريخي.
يقول المسعودي إن ملك الخزر تهوَّد (اعتنق الدين اليهودي) في خلافة هارون الرشيد، أي في بداية القرن التاسع، وانضم إلى ملك الخزر كثير من اليهود الذين جاءوا من شتى مناطق المسلمين والروم:
«وقد انضاف إليه خلق من اليهود وردوا عليه من سائر أمصار المسلمين ومن بلاد الروم، وذلك أن ملك الروم في وقتنا هذا، وهو سنة ٣٣٢ﻫ، وهو أرمنوس، نقل من كان في مملكته من اليهود إلى دين النصرانية وأكرههم» (ج١، ص١٩١)، فهرب عدد كبير من اليهود من أرض الروم إلى أرضه.
ويسمى الملك في بلاد الخزر الخاقان، وكان الخاقان تحت سيطرة ملك آخر موجود معه في دار مملكته، ولم يكن يحق للخاقان الخروج من القصر والظهور أمام الناس، وإذا ما أصاب البلاد جفاف، أو منيت بهزيمة كانوا يقتلون الخاقان، ويحل محله رجل آخر من أبناء عشيرته:
وكان بين السكان مجموعة كبيرة من المسلمين تسمى اللارسية، ولها نفوذ كبير لأن القوة العسكرية الأساسية عند الملك من أبنائها، كما كان الوزير (مستشار الخاقان) مسلمًا حتمًا، وعقد المسلمون مع الخاقان معاهدةً تسمح لهم بحرية العبادة وعدم الاشتراك في حروب الخزر ضد المسلمين الآخرين.
نقرأ في «مروج الذهب»:
وفي ختام هذه الفقرة من الكلام عن التفاهم والتسامح بين من كانوا يعيشون في بلاد الخزر يبدي المسعودي ملاحظة تدل على استغرابه، إذ يقول:
«فإذا اتفق المسلمون ومن بها من النصارى لم يكن للملك بهم طاقة»، أي لا يستطيع أن يكون حاكمًا عليهم.
وعلم المسعودي أنه قبل رحلته إلى منطقة القوقاز بأكثر من ٢٠ عامًا جهز الروس حملةً مؤلفة من ٥٠٠ مركب على كل منها ١٠٠ مقاتل لمحاربة المسلمين على سواحل بحر قزوين، واتفق قادة الحملة الروسية مع خاقان الخزر الذي كان في حرب ضد الإمارات الإسلامية فسمح لهم بمرور مراكبهم شريطة أن يقدموا له في طريق عودتهم نصف ما يسلبونه من غنائم، فنهبوا بلاد المسلمين في أذربيجان وطبرستان والديلم، وهزموا حملة ملك شروان علي بن الهيثم شر هزيمة، ثم عادوا بعد شهور محملين بالغنائم والأسرى، وأعطوا الخاقان نصف ما كسبوه، وقد حذر الخاقان الحملة الروسية من جنوده المسلمين الذين لا يستطيع منعهم من الحرب، والحق أنه قام اللارسية المسلمون ومعهم النصارى بمهاجمة المحاربين الروس على ضفاف نهر الفولغا، فقتلوا أكثرهم وأغرقوا آخرين، ولم ينج منهم إلا حوالي ٥ آلاف شخص، ولما كان حاكم إمارة بلغار الفولغا والمقربون منه قد اعتنقوا الإسلام أيام الخليفة المقتدر (٩٠٨–٩٣٢م) فإنهم اعترضوا طريق الناجين من الروس وقضوا عليهم في نهر الفولغا أيضًا. وظلت مملكة الخزر تخوض حروبًا ضاريةً ضد الخلافة الإسلامية والإمبراطورية البيزنطية حتى قضى عليها أمير كييف سفياتوسلاف، وذلك سنة ٩٦٥ ميلادية، أي بعد رحلة المسعودي إلى هذه المنطقة بحوالي ٣٠ عامًا.
ويروي المسعودي قصة حملة الروس على بلاد المسلمين في أذربيجان والمناطق المحيطة ببحر الخزر، وكيف تصدى مسلمو بلاد الخزر للروس في طريق العودة، فيقول:
«والروس أمم كثيرة وأنواع شتى … يسافرون للتجارة إلى بلاد الأندلس ورومية وقسطنطينية والخزر، وجاءوا بعد عام ٣٠٠ﻫ في حوالي ٥٠٠ مركب، في كل مركب ١٠٠ نفس. … وهناك رجال ملك الخزر بسلاحهم القوي يصدون من يأتي من ذلك البحر، … فلما وردت مراكب الروس إلى رجال الخزر المرتبين على فم الخليج راسلوا ملك الخزر في أن يجتازوا البلاد، وينحدروا في نهره، ويتصلوا ببحر الخزر، …، ويجعلوا لملك الخزر النصف مما يغنمون ممن هناك من الأمم على ذلك البحر» (ج١، ص١٩٥).
فسمح لهم، ودخلوا النهر «الفولغا» وانحدروا فيه مرورًا بمدينة آمل، إلى أن دخلوا بحر قزوين، وانتشرت فيه مراكبهم، ونزلت سرايا الروس على سواحل جورجيا وأذربيجان:
«فسفكت الدماء، واستباحت النسوان والولدان، وغنمت الأموال، وشنت الغارات، وأخربت، وأحرقت، فضج من حول هذا البحر من الأمم، لأنهم لم يكونوا يعهدون في قديم الزمان عدوًا يطرقهم فيه، وإنما تختلف فيه مراكب التجار والصيد … وانتهوا إلى ساحل النفاطة [النفط] من مملكة شروان المعروفة بباكة [باكو، عاصمة آذربيجان اليوم]، وكانت الروس تأوي عند رجوعها من غاراتها إلى جزائر تقرب من النفاطة على أميال منها، وكان ملك شروان يومئذ علي بن الهيثم، فاستعد الناس، وركبوا في القوارب ومراكب التجار، وساروا نحو تلك الجزائر، فمالت عليهم الروس، فقتل من المسلمين وغرق ألوف، وأقام الروس شهورًا كثيرة في هذا البحر، لا سبيل لأحد ممن جاور هذا البحر من الأمم إليهم، والناس خائفون، حذرون منهم، … فلما غنموا وسئموا ما هم فيه ساروا إلى فم نهر الخزر ومصبه، فراسلوا ملك الخزر وحملوا إليه الأموال والغنائم على ما اشترط عليهم، وملك الخزر لا مراكب له، وليس لرجاله بها عادة، … وعلم بشأنهم اللارسية ومن في بلاد الخزر من المسلمين، فقالوا لملك الخزر: وهؤلاء القوم، فقد أغاروا على بلاد إخواننا المسلمين، وسفكوا الدماء، وسبوا النساء والذراري.
فلم يمكن الملك منعهم، وبعث إلى الروس فأعلمهم بما قد عزم عليه المسلمون من حربهم. وعسكروا، وخرجوا يطلبونهم منحدرين مع الماء.
فلما وقعت العين على العين خرجت الروس عن مراكبها وقاتلوا المسلمين، وكان مع المسلمين خلق من النصارى من المقيمين بمدينة آمل، وكان المسلمون في نحو خمسة عشر ألفًا بالخيل والعدد، فأقام الحرب بينهم ثلاثة أيام، ونصر الله المسلمين عليهم، وأخذهم السيف بين قتيل وجريح، ونجا منهم نحو خمسة آلاف، فركبوا في المراكب إلى ذلك الجانب مما يلي بلاد برطاس، ثم تركوا مراكبهم وتعلقوا بالبر، فمنهم من قتله أهل برطاس، ومنهم من وقع إلى بلاد البرغز [البلغار] إلى المسلمين فقتلوهم، وكان من وقع عليه الإحصاء ممن قتله المسلمون على شاطئ نهر الخزر [الفولغا] نحوًا من ثلاثين ألفًا، ولم يكن للروس من تلك السنة عودة إلى ما ذكرنا» (ج١، ص١٩٦-١٩٧).
ولا يفوت المسعودي أن يلتفت إلى الغريب من عادات الشعوب ومعتقداتهم، فيذكر أنه كان في أحد جانبي آمل، عاصمة الخزر، وثنيون من الصقالبة والروس:
«يحرقون موتاهم ودواب [أي ما يملك من حيوان] وآلاته والحلى، وإذا مات الرجل أحرقت معه امرأته وهي في الحياة.
لقد تنقل المسعودي كثيرًا في ربوع القوقاز، فزار مدينة تفليس (وهي تبيليسي عاصمة جورجيا اليوم) التي فتحها العرب المسلمون أواسط القرن السابع الميلادي، وهو يقول إن الكرج (الجورجيين) والأبخاز لم يتوقفوا عن دفع الجزية للمسلمين إلا في عهد الخليفة العباسي المتوكل، ويعود السبب في ذلك إلى الحروب الداخلية بين قادة الجند المسلمين.
كما يحدثنا عن مملكة اللان (ألانيا اليوم)، وكان لملكها قصور ومنتزهات خارج العاصمة ينتقل في السكنى إليها.
وقد كانت ملوك اللان بعد ظهور الدولة العباسية يعتنقون دين النصرانية، وكانوا قبل ذلك جاهلية، ثم رجعوا عن النصرانية إلى دين الإسلام بعد عام ٣٢٠ﻫ، وطردوا من كان عندهم من الأساقفة والقسيسين الذين أرسلهم إليهم ملك الروم.
ويذكر المسعودي أنه تعيش بعد مملكة اللان أمة يقال لها كشك: «وتفسير هذا الاسم، وهو فارسي، إلى العربية: التيه والصلف [أي التكبر والغرور]، وذلك أن الفرس إذا كان الإنسان تائهًا [متكبرًا] صلفًا قالوا: كشك». وحين يصف أمة الكشك يقول:
«وهي أمة مطيعة، منقادة إلى [تعتنق] المجوسية، وليس فيما ذكرنا من الأمم في هذا الصقع أنقى أبشارًا [بشرةً]، ولا أصفى ألوانًا ولا أحسن رجالًا ولا أصبح نساء، ولا أقوم قدودًا، ولا أدق أخصارًا، ولا أظهر أكفالًا وأردافًا، ولا أحسن شكلًا من هذه الأمة، ونساؤهم موصوفات بلذة الخلوات، ولباسهم البياض والديباج الرومي والسقلاطوني، وغير ذلك من أنواع الديباج والذهب، وهم قريبون في البحر من بلاد طرابزندة [طرابزون التركية اليوم]، ضعفاء أمام اللان لأنهم لا يملكون عليهم ملكًا يجمع كلمتهم، ولو اجتمعت كلمتهم لم يقو عليهم اللان ولا غيرها من الأمم» (ج١، ص٢٠٧).
ويصحح المسعودي ما كان شائعًا في عصره من معلومات تقول إن بحر الخزر (بحر قزوين) متصل بالبحر الأسود:
«وقد غلط قوم زعموا أن البحر الخزري يتصل ببحر مايطس، ولم أر فيمن دخل بحر الخزر من التجار ومن ركب منهم في بحر مايطس ونيطس [البحر الأسود وبحر مرمرة] إلى بلاد الروس والبلغر أحدًا يزعم أن بحر الخزر يتصل ببحر من هذه البحار أو بشيء من مائها أو من خلجانها إلا من نهر الخزر [نهر الفولغا] … ورأيت أكثر من تعرض لوصف البحار ممن تقدم وتأخر يذكرون في كتبهم أن خليج القسطنطينية الآخذ من نيطش يتصل ببحر الخزر، ولست أدري كيف ذلك، ومن أين قالوه؟ أمن طريق الحدس، أم من طريق الاستدلال والقياس؟» (ج١، ص١٣٦).
وهو يدقق معلوماته عن طريق المشاهدة والأخبار الموثوقة، فيأخذها من البحارة وأرباب المراكب الذين يؤكدون حقائق هي «في أغلب الأمور على خلاف ما ذكرته الفلاسفة»، ومن مصادره الموثوقة، مثلًا:
«عبد الله بن وزير، صاحب جبلة من ساحل حمص من أرض الشام، ولم يبق في هذا الوقت — وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة [٣٣٢ﻫ] أعلم منه في البحر الرومي [البحر الأبيض المتوسط]، ولا أسن [أعمر] منه، وليس فيمن يركبه من أصحاب المراكب من الحربية والعمالة إلا وهو منقاد إلى قوله ويقر له بالبصر والحذق» (ج١، ص١٣٩-١٤٠).
(٦) سورية وفلسطين
- (١)
كونها مهد حضارات راقية.
- (٢)
أن دمشق كانت عاصمة الأمويين الذين كتب عن خلفائهم: معاوية، وعبد الملك بن مروان، وعمر بن عبد العزيز … صفحات ساطعةً في كتابه «مروج الذهب».
- (٣)
رغبته في التعرف إلى علاقات سورية مع البيزنطيين قبل الإسلام وبعد الفتوحات.
فجاء أول مرة إلى سورية عام ٩٢١م، وأقام في حلب مدة قصيرة، فتعرف إلى علمائها، واطلع على آثار هذه المدينة المأهولة بالسكان قبل ثلاثة آلاف عام من مجيئه إليها.
ومنها سافر إلى مدينة أنطاكية، فزار معابدها المسيحية: كنيسة القديسة مريم، وكنيسة القديسة بربارا، وكنيسة القديس بولص، والآثار الإغريقية.
وبعدها توجه إلى طرسوس، مسقط رأس الرسول بولص، حسبما كان شائعًا بين المسيحيين، وكان في طرسوس قلعة ذات أسوار مزدوجة، منيعة في تلك الأيام، ثم انتقل إلى أضنة، آخر معقل سوري حصين على الحدود مع بيزنطة، فالتقى بحاكمها العسكري، الدبلوماسي المعروف، أبي عمير الأزدي الذي كان يعرف البيزنطيين جيدًا من خلال زياراته الدبلوماسية الكثيرة لعاصمتهم القسطنطينية، وحروبه معهم، وإتقانه اللغة الإغريقية بطلاقة، وهناك روى له الأزدي كثيرًا عن عادات البيزنطيين، وتقسيماتهم الإدارية.
واستقى المسعودي قسمًا من معلوماته عن البيزنطيين من المصادر العربية الإسلامية والرجال الثقاة، مثل البحار الشهير ليون تريبوليتيانين، أي «الأسد الطرابلسي» الذي كان بيزنطيًّا، ثم اعتنق الإسلام، وخاض ضد قومه معارك طاحنة، وشن عليهم هجمة شهيرة عام ٩٠٤م، فأسر منهم كثيرين.
كما اعتمد المسعودي على أخبار مسلم بن أبي مسلم الجرمي الذي أمضى وقتًا في الأسر البيزنطي حتى افتدي عام ٨٤٥م.
ولم يكتف الجرمي بالحديث عن الروم البيزنطيين، بل وتطرق أيضًا إلى جيرانهم البلغار، والصقالبة.
وعاد المسعودي إلى ما كتبه الرهبان المسيحيون بالعربية، من أمثال النسطوري يعقوب بن زكريا، واليعقوبي أبي زكريا دنحا، والعالم الماروني قيس الماروني … وهو يؤكد أن البحارة العرب كانوا يهاجمون السواحل البيزنطية، ويقومون بشن غارات جريئة على سفن الروم في عرض البحر، فيستولون على ما فيها من غنائم، وأرزاق ثمينة.
وعندما كان المسعودي مقيمًا في مصر الإخشيدية، عام ٩٤٦م، سمع بأن العالم البيزنطي المعروف، يوحنا المتصوف، جاء إلى سورية لمقابلة والي دمشق، من أجل عقد هدنة واتفاقية لتبادل الأسرى، فما كان منه إلا أن أسرع بالسفر من الفسطاط (القاهرة حاليًّا) إلى دمشق، ليسمع من يوحنا المتصوف نفسه أخبار بيزنطة، وصراع حكامها على السلطة، وقد كتب المسعودي عن هذا اللقاء وما دار فيه على صفحات كتابه الأخير «التنبيه والإشراف».
ويمضي هذا الرحالة إلى فلسطين، فيمر بمدينة طبريا التي كانت تقع على شاطئ بحيرة طبريا، وكان فيها يومها بقايا قصر يوناني قديم، ومعبد وثني تحول مع الزمن إلى كنيسة مسيحية.
وذهب المسعودي إلى مدينة الناصرة التي عاش فيها السيد المسيح حتى الثلاثين من عمره، وزار كنيستها، وبيت لحم مسقط رأس السيد المسيح.
ومن الناصرة توجه إلى نابلس، فالرملة.
وفي القدس زار الآثار المسيحية والإسلامية الموجودة بكثرة.
وفي عام ٩٢٧م، قصد المسعودي مدينة حران الواقعة على الحدود السورية العراقية، وكانت حران في قديم الزمان عاصمة طائفة الصابئة التي تتألف معتقداتها من عبادات قديمة اختلطت فيما بعد بطقوس يونانية جاءت مع الإسكندر المقدوني (٣٥٦–٣٢٣ قبل الميلاد) الذي حارب الفرس، ويقدس الصابئة بعض الفلاسفة مثل هرمز الإغريقي، والموسيقي الأسطوري أورفيوس، ويعدونهم أنبياء، ويرون أن العالم من صنع خالق حكيم يمكن التقرب إليه عن طريق أرواح نورانية، لا أجساد لها، وقد أقام الصابئة معابد للكواكب، وتعمقوا في علم الفلك.
ومن حران تابع المسعودي طريقه إلى دمشق، فمر بتدمر التي نافست روما في القرن الثالث الميلادي، ولما قامت زنوبيا، ملكة تدمر، بتوحيد سوريا ومصر، حاربها الإمبراطور الروماني أورليان، وخرب مملكتها، وأسرها، فماتت وهي أسيرة في روما.
(٧) الجامع الأموي
وفي دمشق زار المسعودي الجامع الأموي الذي أحكم بناءه الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك (٧٠٥–٧١٥م)، مكان كنيسة يوحنا المعمدان التي لم يبق منها إلا جدرانها ذات الأحجار الضخمة، وتحولت أبراج الكنيسة إلى مآذن، كما يخبرنا المسعودي، وقد كانت الكنيسة نفسها أقيمت مكان معبد شيده الرومان للإله الأسطوري جوبيتر (المشتري)، فوق معبد وثني، كان قائمًا قبل ضم سورية إلى الإمبراطورية الرومانية.
وعن أصل مسجد دمشق يقول المسعودي إنه كان:
«قبل ظهور النصرانية هيكلًا عظيمًا، فيه التماثيل والأصنام على رأس منارته منصوبة، وقد كان على اسم المشتري طالع سعد، ثم ظهرت النصرانية فجعلته كنيسة، وظهر الإسلام فجعل مسجدًا، وأحكم بناءه الوليد بن عبد الملك، والصوامع منه لم تغير، وهي منائر الأذان حتى هذا الوقت» (ج٢، ص٢٥٩).
ويذكر المسعودي أن عبد الملك بن مروان اقتلع من كنيسة مريم في أنطاكية أعمدة: «عجيبة من المرمر والرخام لمسجد دمشق حملت في البحر إلى ساحل دمشق، وبقي الأكثر من هذه الكنيسة إلى هذا الوقت». ويصف كنيسة مريم بأن «بنيانها من إحدى عجائب العالم في التشييد والرفعة» (ج٢، ص٢٠٢).
(٨) هيكل جيرون
وفي سنة ٣٣٢ﻫ زار المسعودي هيكل جيرون الذي يصفه بأنه هيكل عظيم البنيان في مدينة دمشق، وبانيه جيرون بن سعد العادي (أي ابن عاد)، وهو الذي نقل إليه أعمدة الرخام والمرمر، وشيد بنيانه، وسماه إرم ذات العماد المذكورة في القرآن، وكان هذا الموضع يوم زاره المسعودي سوقًا من أسواق دمشق عند باب المسجد الجامع، يعرف بجيرون، وجيرون بنيان عظيم، كان قصر الملك، وعليه أبواب من نحاس عجيبة، بعضها على ما كانت عليه، وبعضها من مسجد الجامع.
(٩) البريص
«وقد كان بدمشق أيضًا بناء عجيب يقال له البريص، وهو مبقى [باقٍ] إلى هذا الوقت في وسطها، وكان يجري فيه الخمر في قديم الزمان، وقد ذكرته الشعراء في مدحها لملوك غسان من مأرب وغيرهم» (ج٢، ص٢٦٠).
(١٠) بعلبك
وختم المسعودي رحلته إلى سورية بزيارة مدينة بعلبك الشهيرة بمعابدها الرومانية، وكان العرب المسلمون يعتقدون بأن الجن هم الذين بنوا هذه المعابد بأمر من النبي سليمان، غير أن المسعودي يؤكد أنها من صنع يد الإنسان، وقد أقيمت تكريمًا للإله بعل، أحد آلهة الساميين في فينيقيا وسورية وفلسطين:
«والهياكل العظيمة عند اليونانيين وغيرهم كثيرة، مثل بيت بعل الذي ذكره الله عز وجل بقوله: أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ ٱلخَالِقِينَ؟ وهو بمدينة بعلبك من أعمال دمشق من كورة سنير، وقد كانت اليونانية [الأمة اليونانية] اختارت لهذا الهيكل قطعة من الأرض بين جبل لبنان وجبل سنير فاتخذته موضعًا للأصنام، وهما بيتان عظيمان أحدهما أقدم من الآخر، فيهما من النقوش العجيبة المحفورة في الحجر الذي لا يتأتى حفر مثله في الخشب مع علو سمكهما وعظم أحجارهما، وطول أساطينهما، ووسع فتحهما، وعجيب بنيانهما» (ج٢، ص٢٥٨).
(١١) هيكل الديماس
«وهيكل أنطاكية يعرف بالديماس، على يمين مسجدها الجامع، مبني بالآجر العادي والحجر، عظيم البنيان، وفي كل سنة يدخل القمر عند طلوعه من باب من أبوابه ومن أعاليه في بعض الأهلة الصيفية، وقد ذكر أن هذا الديماس من بناء الفرس حين ملكت أنطاكية، وأنه بيت نار لها» — أي هيكل مجوسي.
(١٢) العودة إلى الوطن
صحيح أن الأوضاع السياسية المضطربة في العراق أيام المسعودي، ولا سيما في العقود الأخيرة من عمره، لم تكن تشجع على البقاء فيه، والمسعودي يعود غير مرة للشكوى من الدهر والتعبير عما في نفسه من ألم على وطنه الذي ألقت به الأسفار والأقدار بعيدًا عنه:
«وأشرف هذا الإقليم مدينة السلام، ويعز علي ما أصارتني إليه الأقدار من فراق هذا المصر [البلد] الذي عن بقعته فصلنا، وفي قاعته تجمعنا، لكنه الزمن الذي من شيمته التشتيت، والدهر الذي من شروطه الإبانة» (ج٢، ص٧١).
ولكن ذلك في نظرنا ليس السبب الوحيد، ولا حتى السبب الرئيس الذي جعل من المسعودي المثقف رحالةً وجغرافيًّا ومؤرخًا كبير الأهمية، فقد انطلق يجوب العالم ويسجل في كتبه كثيرًا مما لا غنى لنا عن معرفته حتى اليوم، ولم يكن وراء أسفار المسعودي وكثرة ترحاله في بلدان الدنيا من سبب يتقدم على فضوله العلمي النزيه، وحبه العميق للمعرفة، وتطلعه إلى الاكتشاف، غير أن تلك الأسباب لم تكن تزيده إلا تعلقًا بوطنه، وحنينًا إلى من في أرضه من أهل وأصحاب وأصدقاء، فهو القاتل:
«وأواسط الأقاليم الإقليم الذي ولدنا به، وإن كانت الأيام أنأت بيننا وبينه، وساحقت مسافاتنا عنه، وولدت في قلوبنا الحنين إليه، إذ كان وطننا ومسقطنا، وهو إقليم بابل» (ج٢، ص٧٠).
كما يعود مرة أخرى ليعبر عن هذا الشعور بما يورده أيضًا في كتابه «مروج الذهب» منسوبًا إلى الحكماء والمشاهير، فيقول: «إن من علامة وفاء المرء ودوام عهده حنينه إلى إخوانه، وشوقه إلى أوطانه … وأن من علامة الرشد أن تكون النفوس إلى مولدها مشتاقة، وإلى مسقط رأسها تواقة» (ج٢، ص٦٩-٧٠).
ولما يجد أن ما يقوله لا يشفي غليله، نراه يقتبس أقوال آخرين قدروا قيمة الأوطان، أو ذاقوا مرارة الغربة:
وقال بعض حكماء العرب: عمر الله البلدان بحب الأوطان.
وقالت الهند: حرمة بلدك عليك كحرمة والديك، لأن غذاءك منهما، وغذاءهما منه.
وقال بقراط: يداوى كل عليل بعقاقير أرضه، فإن الطبيعة تتطلع إلى هوائها، وتنزع إلى غذائها.
وهكذا، بانتهاء هذه الرحلة التي استمرت أكثر من عامين، يعود المسعودي إلى بغداد، فيمضي فيها بضعة أشهر، ثم يتوجه إلى البصرة التي بناها المسلمون على شط العرب، عند ملتقى دجلة والفرات، وكانت البصرة أحد أبرز مراكز الثقافة العربية أيام العباسيين، ففيها ولد الشاعران الكبيران بشار بن برد وأبو نواس، والكاتبان الشهيران الجاحظ وابن المقفع … وفيها قامت ثورة الزنج (٨٦٩–٨٨٣م) بقيادة محمد علي البرقعي الذي أعلن نفسه خليفة، واستولى على البصرة ومدينة الأهواز، وقام بهذه الثورة عشرات الآلاف من العبيد الذين كانوا يعملون بتجفيف المستنقعات في ظروف قاسية، غير أن ما قام به الثوار فيما بعد، من سلب ونهب، جعل سكان هذه المناطق، والبدو، والفلاحين يبتعدون عنهم، بعد أن كانوا يؤيدونهم في بداية الثورة. ويروي المسعودي في «مروج الذهب» تفاصيل كثيرة ورهيبة عن ثورة الزنج، فقد جهز الخليفة المعتمد من أجل سحقها جيشًا من٥٠ ألف مقاتل يقوده أخوه الموفق، وسرعان ما استولى الموفق على البصرة والأهواز، وقضى على التمرد بكل قسوة، على الرغم من المقاومة الضارية التي أبداها الثوار، واختبأ من نجا من الثوار في الآبار، لا يخرجون منها إلا ليلًا للبحث عن الطعام، فيأكلون القطط، والكلاب، والفئران، ولما لم يبق لهم ما يأكلونه، راحوا يأكلون جثث البشر أيضًا.
وفي مدينة البصرة التقى المسعودي باللغوي الشهير الجمحي، وبالتاجر والرحالة والكاتب أبي زيد السيرافي الذي اعتمد المسعودي كثيرًا على كتابه وشهادات آخرين، فكتب عن الصين التي لم يسافر إليها، وعن سكانها، وعاداتهم، وعدل حكامهم، ووصف الصينيين بأنهم أكثر الناس تفننًا على وجه الأرض.
وبعد ثماني سنوات (٩٢٥م) سافر المسعودي إلى شمال العراق، ليقيم في تكريت والموصل، حيث توجد طائفة اليعقوبين المسيحيين منذ القرن الرابع الميلادي، وهناك تجادل المسعودي مع أحد علماء هذه الطائفة، وهو أبو زكريا دنحا النصراني في كنيسة الثالوث الخضراء التي كانت آثارها باقيةً حتى ذلك الحين إلى الجنوب من تكريت، وفي الموصل شاهد المسعودي الآثار القديمة، والتقى بأحد أكبر علماء زمانه، جعفر بن حمدان الموصلي، واشتغل في مكتبته.
(١٣) الاستقرار في مصر
يصف المسعودي مشاركة المصريين جميعًا وحكامهم الإخشيديين أيضًا في احتفالات عيد الغطاس المسيحي (الاستحمام في نهر النيل) في الفسطاط، ففي الشهر الأول من سنة ٣٣٠ﻫ، حضر المسعودي شخصيًّا الاحتفال بهذا العيد، وشاهد مئات آلاف من المصريين من المسلمين والنصارى محتشدين في الزوارق والدور القريبة من النيل وعلى ضفافه، وهم يحملون ما أمكنهم حمله «من المآكل والمشارب والملابس وآلات الذهب والفضة والجواهر والملاهي والعزف والقصف، وهي أحسن ليلة تكون بمصر، وأشملها سرورًا، ولا تغلق فيها الدروب، ويغطس أكثرهم في النيل، ويزعمون أن ذلك أمان من المرض، ومبرئ للداء» (ج٢، ص٣٥٩).
ويعود واحد من أهم أسباب استقرار المسعودي أواخر حياته في مصر إلى أن سلطة الخليفة العباسي في بغداد كانت ضعيفةً خلال تلك السنوات، فقد كان البويهيون الإيرانيون يسيطرون على مقاليد الأمور في عاصمة الخلافة العباسية، وهم من خلع الخليفة المستكفي عن العرش بعد أن سملوا عينيه ونصبوا مكانه عباسيًّا آخر، ولما كان المسعودي من أنصار العباسيين فإنه فضل عدم العودة إلى بغداد التي كثيرًا ما راح يكتب عنها بلوعة واشتياق.
وهكذا استقر به المطاف في مصر التي يقول عنها:
«وكانت مصر، فيما يذكر أهل الخبرة، أكثر البلاد جنانًا، وذلك أن جنانها كانت متصلة بحافتي النيل من أوله إلى آخره، من حد أسوان إلى الرشيد، وكان الماء إذا بلغ في زيادته تسعة أذرع دخل خليج المنهى وخليج الفيوم وخليج سردوس وخليج سخا، وكان الذي حفر خليج سردوس لفرعون عدو الله هامان، فلما ابتدأ في حفره أتاه أهل القرى يسألونه أن يجري الخليج إلى تحت قراهم ويعطوه على ذلك ما أراد من المال، وكان يعمل ذلك حتى اجتمعت له أموال عظيمة، فحمل تلك الأموال إلى فرعون، فلما وضعها بين يديه سأله عنها فأخبره بما فعل، فقال فرعون: إنه ينبغي للسيد أن يعطف على عبيده، ويفيض عليهم معروفه، ولا يرغب فيما في أيديهم، ونحن أحق من فعل هذا بعبيده، فاردد على أهل كل قرية ما أخذته منهم.
ففعل ذلك هامان ورد على أهل كل قرية ما أخذ منهم» (ج١، ص٣٦٠-٣٦١).
وقد أكثر المسعودي من الترحال في مصر فوصل إلى أسوان على الحدود بين مصر وبلاد النوبة المسيحية، وفي الفسطاط.
أنهى المسعودي كتابه الضخم «مروج الذهب ومعادن الجوهر» (٩٤٦م)، وآخر مؤلفاته «كتاب التنبيه والإشراف» (٩٥٦م) ثم توفي بعد أشهر قليلة مخلفًا ما لا يقل عن ٣٠ كتابًا في كثير من علوم عصره، وللأسف، فقد ضاع أكثر مؤلفات المسعودي، ولم يصل إلينا منها إلا قليل، كما ذكرنا في الصفحات السابقة.