مختارات من «مروج الذهب»
(١) الأهرام
اطلع المسعودي في مصر على آثار المعابد الفرعونية، ووصف الأهرام بأنها معجزة فن العمارة، ولكنه كان يظن أنها ليست إلا معبدًا هائل الحجم، وهو يكثر من الحديث عما رآه من المعالم والآثار والشواهد، وعن المنارة الشهيرة في مدينة الإسكندرية التي بناها الإسكندر المقدوني (٣٣٢ق.م.)، كما يتحدث عن أهمية نهر النيل للزراعة، وعن القنوات التي تنقل مياهه إلى أراضي الفلاحين، وعن اتساعه الذي يجعل المصريين يسمونه بحرًا.
ويروي المسعودي قصة عن عجيب أخبار مصر يقول فيها إن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان عين أخاه عبد العزيز واليًا على مصر، فجاء رجل إلى عبد العزيز وأخبره عن وجوه قبة فيها كنز عظيم، ولما سأله عبد العزيز بن مروان عن البرهان، قال:
«هو أن يظهر لنا بلاط من المرمر والرخام عند يسير من الحفر، ثم ينتهي بنا الحفر إلى قلع باب من النحاس تحته عمود من الذهب على أعلاه ديك من الذهب عيناه ياقوتتان تساويان ملك الدنيا، وجناحاه مضرجان بالياقوت والزمرد، براثنه على صفائح من الذهب على أعلى ذلك العمود.
فأمر له عبد العزيز بنفقة ألوف من الدنانير لأجرة من يحفر من الرجال ويقوم بذلك العمل، وكان هناك تل عظيم حفروا فيه حفرة عظيمة فانكشف الرخام والمرمر، وزاد عبد العزيز بدفع الأموال وعدد الرجال فانتهى الحفر إلى ظهور رأس الديك الذي انبعث منه لمعان عظيم كالبرق الخاطف لما في عينيه من الياقوت وشدة نوره ولمعان ضيائه، ثم بانت قوائمه، وظهر حول العمود عمود من البنيان بأنواع من الأحجار والرخام، وقناطر مقنطرة، وطاقات على أبواب معقودة، ولاحت منها تماثيل وصور أشخاص من أنواع الصور والذهب، وأجربة من الأحجار قد أطبقت عليها أغطيتها وشبكت، وربط ذلك بأعمدة الذهب.
فركب عبد العزيز بن مروان حتى أشرف على المكان، ونظر إلى ما ظهر، وأسرع بعضهم فوضع قدمه على درجة مصنوعة من نحاس تنتهي إلى هنالك، فلما استقرت قدمه على الدرجة الرابعة ظهر سيفان عظيمان عاديان عن يمين الدرجة وشمالها.
فالتفا على الرجل، وسرعان ما قطعاه قطعًا تساقطت إلى الأسفل، فلما استقر جسمه على بعض الدرج اهتز العمود، وصفر الديك تصفيرًا عجيبًا سمعه من كان بعيدًا، وحرك الديك جناحيه فظهرت من تحته أصوات عجيبة.
ويفسر المسعودي هذه الآلة بأنها كانت مصنوعة على لوالب تجعلها تتحرك إذا ما وقع على بعض تلك الدرج أو لامسها شيء، وعند ذلك يسقط الرجال إلى أسفل تلك الحفرة، وكان عدد من يحفر ويعمل وينقل التراب ويبصر ويتحرك ويأمر وينهى نحو ألف رجل فهلكوا جميعًا.
وخاف عبد العزيز، فقال: هذا ردم عجيب الأمر، ممنوع النيل، نعوذ بالله منه!
وأمر جماعة من الناس، فكان الموضع قبرًا لهم» (ج١، ص٣٨).
ويتحدث المسعودي عن كتاب بلغة قديمة وقع في أيدي جماعة ممن يبحثون عن الدفائن والكنوز وآثار الملوك والأمم السالفة في بطن أرض مصر، ويصف ذلك الكتاب موضعًا على بعد أمتار قليلة من بعض الأهرام وفيه كنز عجيب:
«وأخبروا الإخشيد محمد بن طغج بذلك، فأذن لهم في حفره، وسمح لهم باستعمال الحيلة في إخراجه، فحفروا حفرًا عظيمًا إلى أن انتهوا إلى أقباء وحجارة مجوفة في صخر منقور فيه تماثيل قائمة على أرجلها من أنواع الخشب، وقد طليت بالأطلية المانعة من سرعة البلى وتفرق الأجزاء. والصور مختلفة، منها صور شيوخ وشبان ونساء وأطفال أعينهم من أنواع الجواهر كالياقوت والزمرد والفيروز والزبرجد، ومنها ما وجوهها ذهب وفضة، فكسروا بعض تلك التماثيل، فوجدوا في أجوافها رممًا بالية، وأجسامًا فانية، وإلى جانب كل تمثال منها نوع من الآنية المصنوعة من المرمر والرخام وفيها نوع من الطلاء الذي قد طلي منه ذلك الميت الموضوع في تمثال الخشب، وما بقي من الطلاء متروك في ذلك الإناء، والطلاء دواء مسحوق وأخلاط معمولة لا رائحة لها، ولما وضعوا منه على النار فاحت روائح طيبة مختلفة ليست موجودة في أي نوع من الطيب، وكل تمثال من الخشب على صورة من فيه من الناس على اختلاف سنهم، ومقدار أعمارهم، وتباين صورهم، وبإزاء كل تمثال من هذه التماثيل تمثال من الحجر المرمر، أو من الرخام الأخضر، على هيئة الصنم على حسب عبادتهم للتماثيل والصور، وعليها أنواع من الكتابات لم يستطع فهمها أحد من أهل الملل.
وزعم قوم من ذوي الدراية منهم أن عمر تلك الكتابة في أرض مصر أربعة آلاف عام، وفيما ذكرناه دليل على أن هؤلاء ليسوا بيهود ولا نصارى، ولم يؤدهم الحفر إلا إلى ما ذكرنا من هذه التماثيل، وكان ذلك في سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة [٣٢٨ﻫ].
وقد كان لمن سلف وخلف من ولاة مصر إلى أحمد بن طولون وغيره إلى هذا الوقت، وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة [٣٣٢ﻫ]، أخبار عجيبة فيما استخرج في أيامهم من الدفائن والأموال والجواهر، وما أصيب في القبور من المطالب والخزائن» (ج١، ص٣٨٤).
«وقد كان أحمد بن طولون بمصر بلغه في سنة نيف وستين ومائتين [بعد سنة ٢٦٠ﻫ] أن رجلًا بأعالي بلاد مصر من أرض الصعيد له ثلاثون ومائة سنة [١٣٠ سنة] من الأقباط، ممن يشار إليه بالعلم منذ صباه، والنظر والإشراف على الآراء والنحل من مذاهب المتفلسفين وغيرهم من أهل الملل، وأنه علامة بمصر وأرضها من برها وبحرها وأخبارها وأخبار ملوكها، وأنه ممن سافر في الأرض، وتوسط الممالك، وشاهد الأمم، وأنه ذو معرفة بهيئات الأفلاك والنجوم وأحكامها.
فبعث أحمد بن طولون برجل من قواده مع أصحابه فحمله في النيل إليه مكرمًا …، وأحضر له من حضره من أهل الدراية، وصرف همته عليه، وأخلى نفسه له في ليال وأيام كثيرة يسمع كلامه وإيراداته وجواباته فيما يسأل عنه» (ج١، ص٣٦٣).
«وأقام عند ابن طولون نحو سنة فأجازه وأعطاه، فأبى قبول شيء من ذلك، فرده إلى بلده مكرمًا … وله مصنفات تدل على كلامه» (ج١، ص٣٧١).
«وسئل هذا القبطي عن بناء الأهرام، فقال: إنها قبور الملوك، وكان الملك منهم إذا مات وضع في حوض حجارة، يسمى بمصر والشام الجرن، وأطبق عليه، ثم يبنى من الهرم على قدر ما يريدون من ارتفاع الأساس، ثم يقنطر عليه البنيان والأقباء، ثم يرفعون البناء على هذا المقدار الذي ترونه ويجعل باب الهرم تحت الهرم، ثم يحفر له طريق في الأرض بعقد أزج [بنفق من حجر] فيكون طول الأزج [النفق] تحت الأرض مائة ذراع وأكثر، ولكل هرم من هذه الأهرام باب يدخل منه، على ما وصفت.
فقيل له: فكيف بنيت هذه الأهرام المملسة؟ وعلى أي شيء كانوا يصعدون ويبنون؟ وعلى أي شيء كانوا يحملون هذه الحجارة العظيمة التي لا يقدر أهل زماننا هذا على أن يحركوا الحجر الواحد إلا بجهد إن قدروا؟
فقال: كان القوم يبنون الهرم مدرجًا ذا مراق كالدرج، فإذا فرغوا منه نحتوه من فوق إلى أسفل، فهذه كانت حياتهم، وكانوا مع هذا لهم صبر وقوة وطاعة لملوكهم.
فقال: دثر الحكماء وأهل العصر الذين كان هذا قلمهم [كتابتهم]، وتداول أرض مصر الأمم فغلب على أهلها القلم الرومي، وأشكال الحروف للروم، والقبط تقرؤه على حسب تعارفها إياه، وخلطها لأحرف الروم بأحرفها على حسب ما ولدوا من الكتابة بين الرومي والقبطي الأول، فذهبت عنهم كتابة آبائهم» (ج١، ص٣٦٦-٣٦٧).
ويحدثنا المسعودي عن مشاهدته الأهرام وما عليها من كتابة فيقول:
«والأهرام، وطولها عظيم وبنيانها عجيب، عليها أنواع من الكتابات بأقلام الأمم السالفة والممالك الداثرة، لا يدرى ما تلك الكتابة ولا ما المراد بها، وقد قال من عني بتقدير ذرعها إن مقدار ارتفاعها نحو من أربعمائة ذراع أو أكثر، وكلما علا به دق ذلك، والعرض نحو ما وصفنا، عليها من الرسوم ما ذكرنا، وإن ذلك علوم وخواص وسحر وأسرار للطبيعة، وإن من تلك الكتابة مكتوب:
«إنا بنيناها، فمن يدعي موازنتنا في الملك وبلوغنا في القدرة وانتهاءنا من السلطان فليهدمها، وليزل رسمها، فإن الهدم أيسر من البناء، والتفريق أيسر من التأليف»، وقد ذكر أن بعض ملوك الإسلام شرع في هدم بعضها فإذا خراج مصر وغيرها من الأرض لا يفي بقلعها، وهي من الحجر والرخام.» ويضيف أنه يختصر هذه الأخبار لأنه ذكر في كتابه «القضايا والتجارب»: «سائر ما شاهدناه حسًا في مطافاتنا الأرض والممالك، وما نمي إلينا خبرًا من الخواص وأسرار الطبيعة من الحيوان والنبات والجماد في عجائب البلدان والآثار والبقاع» (ج١، ص٣٧٧).
(٢) منارة الإسكندرية
يروي المسعودي ما كان شائعًا ومتداولًا بين الناس من افتراضات وأساطير بخصوص بناء مدينة الإسكندرية، ويقول، بناء على تلك المعلومات المتناقضة، إن الإسكندرية كانت أيام الإسكندر المقدوني تضيء في الليل بغير مصباح، وذلك لشدة بياض ما فيها من الرخام والمرمر، وكانت القناطر المسقوفة تملأ أسواق هذه المدينة وشوارعها وأزقتها، فلا يصيب أهلها شيء من المطر، كما كانت تحيط بها سبعة أسوار من أنواع الحجارة المختلفة الألوان، بينها خنادق، وبين كل خندق وسور مسافة، وكانت تعلق على المدينة أحيانًا قطع كبيرة من الحرير الأخضر لتخفيف شدة بياض الرخام الذي يخطف أبصار الناس.
ولعل المسعودي كان أميل إلى أن الإسكندر هو من بناها، ولهذه الغاية جلب إليها الرخام والمرمر والأحجار من جزيرة رودس المقابلة للإسكندرية والتي يقول عنها إنها:
«على بعد ليلة منها في البحر، وهي أول بلاد الإفرنجة، وهذه الجزيرة في وقتنا هذا، وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة [٣٣٢ﻫ] دار صناعة الروم، وبها تنشأ المراكب البحرية، وفيها خلق كثير من الروم، ومراكبهم تطرق بلاد الإسكندرية وغيرها من بلاد مصر فتغير وتأسر وتسبي» (ج١، ص٣٨٦).
وكان للمنارة العجيبة في الإسكندرية أهمية عسكرية كبيرة جعلتها هدفًا دائمًا للفرنجة والروم يتمنون تدميره، إذ يقول المسعودي إن من بناها:
وإذا ما صحت حكاية الحيلة التي يقال إن ملك الروم دبرها لهدم هذه المنارة، فلا شك بأن خطرها العسكري على الأعداء هو ما دفعه إلى تدبير تلك الحيلة، على أن المسعودي يسرد الحكاية في آخر صفحات الجزء الأول من «مروج الذهب»؛ فيقول إن ملك الروم في عهد الوليد بن عبد الملك بن مروان أرسل خادمًا من خواصِّ خدَمه ذا رأي ودهاء سرًّا، فجاء الخادم إلى بعض الثغور يطلب الأمان ومعه جماعة، ودخل على الوليد فأخبره أنه من خواص الملك، وأن الملك أراد قتله لوشاية وشكوك بلغته عنه لم يكن لها أصل، وأنه هرب منه ويريد اعتناق الإسلام، فأسلم على يدي الوليد، وتقرب من قلبه، وأهداه كنوزًا ودفائن استخرجها له من بلاد دمشق وغيرها من بلاد الشام بكتب كانت معه فيها صفات تلك الدفائن، فلما رأى الوليد تلك الأموال والجواهر شرهت نفسه، واستحكم طمعه، فقال له الخادم: يا أمير المؤمنين، توجد هنا أموال وجواهر ودفائن للملوك.
فبعث الوليد مع الخادم بجيش وأناس من ثقاته وخواصه فهدم نصف المنارة من أعلاها، وأزيلت المرآة.
فضجَّ الناس من أهل الإسكندرية وغيرها، وعلموا أنها مكيدة وحيلة في أمرها، ولما علم الخادم انتشار الخبر وأنه سيصل إلى الوليد، وأنه قد بلغ ما يحتاج إليه هرب في الليل في مركب كان قد أعده واتفق مع قوم على ذلك، فتمت حيلته، وبقيت المنارة على ما ذكرنا إلى هذا الوقت وهو سنة ٣٣٢ﻫ.
ومن يدخل المنارة يتيه فيها إلا أن يكون عارفًا بالدخول والخروج فيها، وذلك لكثرة بيوتها وطبقاتها وممراتها، وقد ذكر أن المغاربة حين جاءوا في خلافة المقتدر في جيش صاحب المغرب دخل جماعة منهم على خيولهم إلى المنارة فتاهوا فيها، وفيها مهاوٍ عميقة ومخارق إلى البحر فتهوروا بدوابهم وفقد منهم عدد كثير، وعلم بهم بعد ذلك.
وفيها مسجد في هذا الوقت يرابط فيه في الصيف متطوعة المصريين وغيرهم.
(٣) قناة بين البحرين: الأحمر والمتوسط
(٣-١) قبل الإسلام
لقد جرت منذ قديم الزمان محاولات لشق قناة مائية تصل بين البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط، غير أنه لم يكتب النجاح لأيٍّ من تلك المحاولات إلى أن تمكن الإنكليز في أواخر القرن التاسع عشر (١٨٦٩م) من شق ما يُعرف اليوم بقناة السويس؛ إذ سبق أن حاول بعض ملوك الروم في القديم حفر قناة بين بحر القلزم (البحر الأحمر) وبحر الروم (البحر الأبيض المتوسط) فلم يستطيعوا، ومنعهم من ذلك ارتفاع القلزم وانخفاض بحر الروم. والموضع الذي تم حفره بالقرب من بحر القلزم يعرف بذنَب التمساح (هو اليوم بحيرة التمساح في حوض قناة السويس) على بعد ميل من مدينة القلزم، وعليه قنطرة (جسر) عظيمة يسلكه من يريد الحج من مصر، كذلك مدُّوا خليجًا من هذا البحر إلى موضع هو ضيعة تعرف اليوم (سنة ٣٣٢ﻫ) باسم الهامة من أرض مصر، فلم يستطيعوا الوصل بين بحر الروم وبحر القلزم.
وحفروا خليجًا آخر بعد بلاد تنيس ودمياط وبحيرتهما يعرف بالربر والخبية، واستمر الماء في هذا الخليج من البحر الأبيض المتوسط إلى موضع يعرف بنعنعان حتى وصل إلى منطقة قريبة من قرية الهامة. وكانت المراكب، كما يقول المسعودي، تأتي من البحر المتوسط إلى مكان قريب من هذه القرية، ومن البحر الأحمر في خليج ذنب التمساح، ثم يجري نقل الأفراد والبضائع من بحر إلى بحر، ثم ردم ذلك مع مرور الدهور، وملأته السواقي من الرمل وغيره.
ويدون الرحالة المسعودي ما شاهده في أيامه، ويشير إلى الفوائد التي كانت ترتجَى من شق قناة بين البحرين المذكورين؛ إذ يقول:
«وآثار الحفر بين هذين البحرين، فيما ذكرنا من المواضع والخلجان، بينة على حسب ما شرعت فيه الملوك السالفة طلبًا للعمارة، وخصب الأرض، وخصب البلاد وعيش الناس بالأقوات، وأن يحمل إلى كل بلد ما ليس فيه من الأقوات وغيرها من ضروب المنافع وضروب المرافق» (ج٢، ص٢٦٣).
(٤) ملوك اليونان: الإسكندر بن فليبس (٣٥٦–٣٢٤ق.م.)
يرد ذكر هذا القائد العسكري العظيم في كتب التراث العربي تحت أسماء كثيرة، منها: الإسكندر ذو القرنين، والإسكندر المقدوني، والإسكندر بن فليبوس، وكلهم واحد. والإسكندر هو القائد العسكري الأشهر (الأول والوحيد حتى الآن) الذي فتح بالحرب وأخضع لسلطانه العالم الذي عاصره، وقد حاول بعده السيطرة على العالم عن طريق الحرب رجال كثيرون فأخفقوا، وأشهر أولئك الرجال في العصر الحديث نابلون بونابرت (١٧٦٩–١٨٢١م)، وأدولف هتلر (١٨٨٩–١٩٤٥م).
وعن الإسكندر يقول المسعودي:
«وكان أول ملوكهم من سماه بطليموس في كتابه فليبس. وقد قيل إن اليونانيين، لما سار البخت نصر من ديار المشرق نحو الشام ومصر والمغرب وبذل السيف، كانوا يؤدون الطاعة ويحملون الجزية إلى فارس، وكانت جزيتهم بيضًا من ذهب عددًا معلومًا ووزنًا مفهومًا وضريبة محصورة، فلما كان من أمر الإسكندر ما كان من ظهوره وهمته بعث إليه داريوس ملك فارس، وهو دارا بن دارا، يطالبه بما جرى من الرسم، فبعث إليه الإسكندر: إني قد ذبحت الدجاجة التي كانت تبيض الذهب وأكلتها.
فكان من حروبهم ما دعا الإسكندر إلى الخروج إلى أرض الشام والعراق، فهزم من كان بها من الملوك، وقتل دارا بن دارا ملك الفرس.
وسار الإسكندر بعد أن ملك بلاد فارس فسيطر على ملوكها، وتزوج بابنة ملكها دارا بعد أن قتله، ثم سار إلى أرض الهند، وهزم ملوكها، وحملت إليه الهدايا والجزية، وحاربه ملكها فور، وكان أعظم ملوك الهند، وكان له معه حروب، وقتله الإسكندر مبارزةً.
ثم سار الإسكندر نحو بلاد الصين والتبت فدانت له الملوك وحملت إليه الهدايا والضرائب، وسار في مفاوز الترك يريد خراسان من بعد أن ذلل ملوكها، ورتب الرجال والقواد فيما افتتح من الممالك، ورتب ببلاد التبت خلفًا من رجاله وكذلك ببلاد الصين، ودخل خراسان وبنى مدنًا في سائر أسفاره، وكان معلمه أرسطاطاليس حكيم اليونانيين، وهو صاحب «كتاب المنطق»، و«ما بعد الطبيعة»، وتلميذ أفلاطون، وأفلاطون تلميذ سقراط. وصرف هؤلاء هممهم إلى تقييد علوم الأشياء، وأقاموا البراهين على صحتها وأوضحوها لمن استعجم عليه تناوُلها.
وسار الإسكندر راجعًا من سفره يؤمُّ المغرب، فلما صار إلى مدينة شهزور اشتدت عليه علته [وقيل: ببلاد نصيبين من ديار ربيعة، وقيل: بالعراق]، فعهد إلى صاحب جيشه خليفته على عسكره بطليموس.
فلما مات الإسكندر طافت به الحكماء ممن كان معه من حكماء اليونانيين والفرس والهند وغيرهم من علماء الأمم، وكان يجمعهم، ويستريح إلى كلامهم ولا يصدر الأمور إلا عن رأيهم، وجعل بعد أن مات في تابوت من الذهب مرصع بالجوهر بعد أن طُلي جسمه بالأطلية الماسكة لأجزائه، فقال عظيم الحكماء والمقدم فيهم: ليتكلم كل واحد منكم بكلام للخاصة معزيًا، وللعامة واعظًا.
فلما ورد نعيه إليها ووضع التابوت بين يديها، نادت في أهل مملكتها على ما به أمرها، فلم يلبِّ أحد دعوتها، ولا بادر إلى ندائها، فقالت لحشمها: ما بال الناس لم يجيبوا دعوتي؟
فقالوا لها: أنت منعتهم من ذلك.
قالت: وكيف؟
قيل لها: أمرت ألا يجيبَك من فقد محبوبًا أو عدم خليلًا أو فارق حبيبًا، وليس فيهم أحد إلا وقد أصابه بعض ذلك.
فلما سمعت ذلك استيقظت وعلمت ما به سُئلت، وقالت: يا إسكندر، ما أشبه أواخرك بأوائلك!
وأمرت به فجعل في تابوت من المرمر، وطُلي بالأطلية الماسكة لأجزائه، وأخرجته من الذهب لعلمها أن من يأتي بعدها من الملوك والأمم لا يتركونه في ذلك الذهب، وجعل التابوت المرمر على أحجار نُضدت وصخور نُصبت، من الرخام والمرمر قد رصفت، وهذا الموضع من الرخام والمرمر باقٍ ببلاد الإسكندرية من أرض مصر يعرف بقبر الإسكندر إلى هذا الوقت وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة [٣٣٢ﻫ]» (ج١، ص٣٠٣-٣٠٤).
(٥) من ملوك اليمن قبل الإسلام
ويذكر المسعودي أن حكم اليمن آلَ في قديم الزمان إلى رجل ليس من أهل بيت الملك، اسمه ذو شناتر، وكان مغرمًا بالغلمان من أبناء الملوك، وعدل مع ذلك في الرعية، وأنصف المظلوم، وكان ملكه ثلاثين سنة، وقيل تسعًا وعشرين سنة، «وقتله يوسف ذو نواس، وكان من أبناء الملوك، خوفًا على نفسه، وأنَفة أن يفسق به» (ج٢، ص٨٥).
كان يوسف ذو نواس على دين اليهودية، وبلغه أن قومًا بنجران على دين المسيح عليه السلام: «فسار إليهم بنفسه، واحتفر لهم أخاديد في الأرض وملأها جمرًا، وأضرمها نارًا، ثم عرضهم على اليهودية، فمن تبعه تركه، ومن أبى قذفه في النار» (ج١، ص٧٧)، وقد أدى به ذلك إلى هلاكه، وهو مذكور في القرآن الكريم: قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارُ ذَاتُ الوَقُودِ، وهذا ما جعل النجاشي ملك الحبشة يرسل جيشًا من النصارى الأحباش يقوده أرياط بن أصحمة؛ فعبر البحر الأحمر إلى أرض اليمن، وبعد حروب طويلة غرَّق يوسف نفسه خوفًا من العار.
وحكم أرياط بن أصحمة أرض اليمن عشرين سنة، إلى أن وثب عليه أبرهة الأشرم فقتله وملَك اليمن، ولما بلغ النجاشي ذلك غضب على أبرهة الأشرم: «وحلف بالمسيح أن يجزَّ ناصيته، ويريق دمه، ويطأ تربته، أي أرض اليمن، فبلغ ذلك أبرهة فجزَّ ناصيته وجعلها في حِق من العاج، وجعل من دمه في قارورة فليُهرقه، وبجراب من تربة بلادي فليطأه بقدميه، وليطفئ الملك عني غضبه، فقد أبررت يمينه وهو على سرير ملكه … فلما وصل ذلك إلى النجاشي استصوب رأيه، واستحسن عقله، وصفح عنه، وكان ذلك في عهد ملك قباذ ملك الفرس» (ج١، ص٨٦).
وأبرهة، كما يقول المسعودي، هو الذي سار بأصحاب الفيل إلى مكة لتخريب الكعبة.
وملك بعد أبرهة ابنُه يكسوم فعم أذاه سائر اليمن، وكان مُلكه إلى أن هلك عشرين سنة، ثم ملك بعده مسروق بن أبرهة، فاشتدت وطأته على اليمن، وعم أذاه سائر الناس، وزاد على أبيه وأخيه في الأذى، وكانت أمه من ذي يزن.
وكان سيف بن ذي يزن قد ركب البحار ومضى إلى قيصر (ملك الروم) يستنجده فأبى أن ينجده، وعند ذلك قصد كسرى أنوشروان (ملك الفرس) فوعده بالنصرة، ولم يستطع تنفيذ وعده إلا في عهد معد يكرب بن سيف، عندما أرسل لنجدته واحدًا من قواده اسمه وهرَز، فقطع «رأس مسروق ورءوس خواص الحبشة ورؤسائهم، وقتل منهم نحو ثلاثين ألفًا» (ج٢، ص٨٩).
وأقام معد يكرب بن سيف بن ذي يزن ملكًا على اليمن فلم يَعتبر، بل عاد يستعين بالأحباش:
«واتخذ عبيدًا من الحبشة حَرابةً يمشون بين يديه بالحراب، فركب في بعض الأيام من باب قصره المعروف بغمدان بمدينة صنعاء، فلما صار إلى رحبتها عطفت عليه الحرابة من الحبشة فقتلوه بحرابهم، وكان ملكه أربع سنين، وهو آخر ملوك اليمن من قحطان» (ج٢، ص٩٢).
ولما قتلت الحبشة معد يكرب بن سيف بن ذي يزَن: «كان بصنعاء خليفة لوهرز على رأس جماعة من العجم، فركب وهزم من كان هنالك من الحبشة، وضبط البلد، وكتب بذلك إلى وهرز وهو بباب أنوشروان الملك، وذلك بالمدائن من أرض العراق؛ فأعلم وهرز بذلك الملك، فسيَّره في البر في أربعة آلاف من الأساورة [الفرسان] وأمره بإصلاح اليمن وأن لا يُبقي على أحد من بقايا الحبشة أو له نسب بالسودان [الزنوج]، فأتى وهرز ونزل صنعاء فلم يترك بها أحدًا من السودان ولا من أنسابهم» (ج٢، ص٩٤-٩٥) وملك اليمن حتى مات، ثم آلَ حكم اليمن من بعده إلى الفرس زمنًا طويلًا.
(٦) هارون الرشيد والروم
عن … عن … أخبرني شبل الترجمان، قال: «كنت مع الرشيد حين نزل على هِرَقلة وفتحها …
فلم يخرج إليه من الناس أحد، ينتظرون إذَن الرشيد، وكان الرشيد نائمًا؛ فعاد الرومي إلى حصنه. فلما استيقظ الرشيد أُخبِر بذلك، فتأسَّف ولامَ خدَمه على تركهم إيقاظه، فقيل له: يا أمير المؤمنين، إن امتناع الناس منه اليوم يُطمِعه ويُطغيه ويجرِّئه أن يخرج في غدٍ فيطلب المبارزة، ويعود لمثل قوله.
فطالت على الرشيد ليلته، وأصبح كالمنتظِر له إذ فُتح الباب؛ فإذا الفارس الرومي قد خرج وعاد إلى كلامه، فقال الرشيد: من له؟
فأومأ إلى رجل منهم يُعرَف بابن الجزري، مشهور في الثغور، موصوف بالنجدة، فقال له الرشيد: أتخرج له؟
قال: بلى، وأستعين بالله عليه.
فقال: أعطوه فرسًا وسيفًا ورمحًا وترسًا.
فقال: يا أمير المؤمنين، أنا بفرسي أوثق، ورمحي في يدي أشد، ولكن قد قبِلت السيف والترس.
فنادوه: ليس يخرج لك منَّا إلا رجل واحد.
فلما خرج منهم ابن الجزري تأمله العلج، وقد أشرف أكثر الروم من الحصن يتأملون صاحبهم. فقال له الرومي: أتَصدقني عما أسألك عنه؟
قال: نعم.
قال: أنت ابن الجزري، بالله؟
قال: اللهم نعم، فكُفءٌ لك؟
قال: بلى، كفء.
وكبَّر المسلمون، وانكسر المشركون، وبادروا الباب ليغلقوه.
(٧) النرد١٧ والشطرنج
ولا يفوت المسعودي أن يأتي على ذكر لعبتَي النرد والشطرنج والأساس الفلسفي لظهورهما عند الملوك أول الأمر.
إذ يورد المسعودي ما كان شائعًا عن أن أول من صنع لعبة النرد واللعب بها هو واحد من ملوك الهند البراهمة كان يؤمن بأن المرء لا ينال المكاسب والأرزاق بالعمل ولا بالحيل في هذه الدنيا؛ فأراد ذلك الملك أن يبين للناس أن الرزق لا يأتي عن طريق المهارة والمعرفة، وإنما كل شيء قسمة ونصيب، كما يقال.
ويضيف المسعودي:
«وقد ذكر أن أردشير بن بابك أول من صنع النرد ولعب بها، وأرى [أي بين وأظهر للناس] تقلب الدنيا بأهلها، واختلاف أمورها، وجعل بيوتها [خانات لعبة النرد] اثنَي عشر بيتًا بعدد الشهور، وجعل كلابها [أحجارها] ثلاثين كلبًا بعدد أيام الشهر، وجعل الفصَّين [المكعبَين، أو حبَّتَي الزهر] مثلًا للقدر وتقلُّبه بأهل الدنيا، وأن الإنسان يلعب بها فيبلغ بإسعاد القدر إياه في مراده باللعب بها ما يريد، وأن الحازم الفطن لا يتأتَّى له ما تأتَّى لغيره إلا إذا أسعده القدر، وأن الأرزاق والحظوظ في هذه الدنيا لا تُنال إلا بالجدود [أي بالحظوظ].»
إلا أن ملكًا آخر من ملوك الهند كان له رأي مختلف بهذه المسألة؛ فرفض التسليم بالاعتماد على الحظ، والتقليل من شأن العقل والعمل، واسم هذا الملك هو الذي آمن بأن الحياة أكثر صعوبة وتعقيدًا؛ فلا يكون النصر والنجاح فيها للجاهل وإنما للعاقل الحازم صاحب الإرادة، وبلهيت هو من:
«صُنعت في أيامه الشطرنج، فقضى بلعبها على النرد، وبين الظفر الذي يناله الحازم، والبلية التي تلحق بالجاهل، وحسب حسابها [لعبة الشطرنج]، ورتَّب لذلك كتابًا للهند يعرف ﺑ «طرق جنكا» يتداولونه بينهم، ولعب بالشطرنج مع حكمائه، وجعلها مصوَّرة تماثيل مشكلة على صور الناطقين وغيرهم من الحيوان مما ليس بناطق، وجعلهم درجات ومراتب، ومثل الشاه بالمدبر الرئيس، وكذلك ما يليه من القطع، وأقام ذلك مثالًا للأجساد العلوية التي هي الأجساد السماوية من السبعة والاثنَي عشر، وأفرد كل قطعة منها بكوكب، وجعلها ضابطة للمملكة، وإذا كان عدوٌّ من أعدائه فوقعت منه حيلة في الحروب نظروا من أين يؤتون في عاجل أو آجل، وللهند في لعب الشطرنج سرٌّ يسرُّونه في تضاعيف حسابها، ويتغلغلون بذلك إلى ما علا من الأفلاك، وما إليه منتهى العلة الأولى» (ج١، ص٩٢).
كما يبدي هذا الرحالة إعجابه القوي بطبيعة الهند الجميلة، ويصف الفِيَلة، والتماسيح، والببغاوات، ووحيدات القرن، وظباء المسك … إلخ.
(٨) بيوت النار المجوسية
وعدد هذه البيوت عشرة:
«وكانت قبل ظهور زرادشت بن أسبيمان نبي المجوس، ثم اتخذها زرادشت بن أسبيمان بعد ذلك بيوت النيران.»
ومن تلك البيوت بيت سابور، وبيت بارنوا، وبيت جور الذي زاره المسعودي وقال عنه: «وفي مدينة جور من أرض فارس، وهو البلد الذي يحمل منه ماء الورد الجوري وإليه يُنسَب، بيت للنار بناه أردشير بن بابك، وقد رأيته، وهو على ساعة منها، على عين هناك عجيبة، وله عيد، وهو أحد منتزهات فارس. وفي وسط مدينة جور بنيان كان تعظمه الفرس يقال له الطربال أخربه المسلمون، وبين جور ومدينة كوار عشرة فراسخ، وبها يعمل ماء الورد الكواري وإليها يُنسَب، وهذا الماء الورد المعمول بجور وكوار أطيب ماء ورد يُعمَل في العالم، لصحة التربة وصفاء الهواء، وفي ألوان سكان هذه البلاد حُمرة في بياض ليست لغيرهم من أهل الأمصار» (ج٢، ص٢٥٤-٢٥٥).
(٩) الضيزَن وسابور
بعد ملوك السريان والنعمان بن المنذر: «تملَّك الديار الضيزن بن جبهلة، وكان كثير الجنود، مهادنًا للروم، متحيِّزًا إليهم، يغير رجاله على العراق والسواد، وكان في نفس سابور عليهم ذلك، فلما نزل على حصنه تحصن الضيزن في الحصن، فأقام سابور عليه شهرًا لا يجد سبيلًا إلى فتحه، ولا يتأتى له حيلة في دخوله. فنظرت النضيرة بنت الضيزن يومًا وقد أشرفت من الحصن إلى سابور فهويته وأعجبها جماله، وكان من أجمل الناس وأمدَّهم قامة، فأرسلت إليه:
إن أنتَ ضمنتَ لي أن تتزوَّجني وتُفضِّلني على نسائك دللتُك على فتح هذا الحصن.
فضمن لها ذلك، فأرسلت إليه:
ائتِ الثرثار — وهو نهر في أعلاه — فانثر فيه تبنًا ثم اتبعه فانظر أين يدخل فأدخل الرجال منه؛ فإن ذلك المكان يفضي إلى الحصن.
ففعل ذلك سابور، فلم يشعر أهل الحصن إلا وأصحاب سابور معهم في الحصن.
وقد عمدت النضيرة فسقت أباها حتى أسكرته طمعًا في أن يتزوجها سابور.
وأمر سابور بهدم الحصن بعد أن قتل الضيزن ومن معه، ثم وفَّى بوعده وعرَّس بالنضيرة بنت الضيزن، فباتت مسهَّدة.
فقال لها سابور: ما لكِ لا تنامين؟
قالت: إن جَنبي يتجافى عن فراشك.
قال: ولم؟ فوالله ما نامت الملوك على ألين منه وأوطأ، وإنَّ حشوه لزغب النعام!
فقالت: بالزبد والمخ والثلج والشهد وصفو الخمر.
فقال لها سابور: إني جدير بألا أبقيك بعد إهلاك أبويك وقومك، ما دامت حالتك كانت عندهم الحالة التي تصفين.
فأمر بها، فرُبطت بغدائرها إلى فرسين جموحين، ثم خُلِّي سبيلهما فقطعاها» (ج٢، ص٢٥٦-٢٥٧).
(١٠) الفيل
ليس الاهتمام بعالم الحيوان، طباعًا وصفات وعادات وحياةً … بجديد في التراث العربي، يظهر ذلك الاهتمام جليًّا في القرآن الكريم، و«نهج البلاغة»، وكتاب الجاحظ «الحيوان» (ثمانية أجزاء)، و«كتاب الإبل» للأصمعي … إلخ. وبهذا المعنى ليس المسعودي فاتحًا، بل هو يسجل مشاهداته، فيضيف ما يراه جديدًا، ويدقق في صحة ما هو شائع فيصحح بعض المعلومات الغلط عن حيوانات معينة.
وعلى هذا الأساس يعود المسعودي إلى وصف الفيل والحديث عنه في مواضع متفرقة كثيرة من كتابه «مروج الذهب» (في الجزأين الأول والثاني)، وقد جمعنا هنا من ذلك ما رأيناه مفيدًا وطريفًا، فجعلناه نصًّا واحدًا، وذلك تيسيرًا لتحصيله والاطلاع عليه في هذه الصورة.
يقول المسعودي إن الفيلة في بلاد الزنج كثيرة جدًّا، وهي وحشية كلها غير مستأنسة، والزنج لا يستعملونها في الحروب ولا غيرها، بل يقتلونها، فهم يطرحون لها في الماء نوعًا من ورق الشجر ولحائه وأغصانه، ثم يختبئون في مكان قريب، وعندما تشرب الفيلة من ذلك الماء يحرقها ويسكرها فتقع، وهي لا تستطيع النهوض لأن قوائمها ليس فيها مفاصل ولا ركب.
وعندئذٍ يخرج إليها الزنج بأعظم ما لديهم من حراب ويقتلونها لأخذ أنيابها العاجية، وكل ناب يزن سبعين كيلو غرامًا وأكثر، وينقل هذا العاج إلى عمان، ومنها إلى الصين والهند، فملوك الصين وقادتها يتخذون قوائم رماحهم من العاج، ولا يدخل قوادها أو أحد من خواصها على ملوكها بشيء من الحديد، بل بتلك الرماح المصنوعة من العاج، كما يستعملون العاج لتبخير بيوت الأصنام والمعابد، ولا يربي أهل الصين الفيلة في أرضهم، فهم يتشاءمون من اقتنائها ومن استخدامها في الحروب.
وفي الهند تعيش الفيلة وتتكاثر، وهي ليست وحشية هناك، وإنما هي حربية ومستعملة كاستعمال البقر والإبل، وأكثرها يأوي إلى المروج والضياع والغياض كالجواميس في أرض الإسلام، والفيلة تهرب من المكان الذي يكون فيه الكركدن (وحيد القرن)، فلا ترعى في موضع تشمُّ فيه رائحة هذا الحيوان.
ولكن المسعودي يحدثنا عن نوع من الطِّيب (أي العطر) عجيب يظهر في وقت من السنة من جِباه الفيلة بأرض الهند ورءوسها من العرق الذي هو كالمسك، والهند تراعي وقت ظهور هذا الطيب، فتأخذه وتضعه على بعض أدهانها الطيبة لتصبح أغلى وأفخر ما يستعمله الملوك وأصحاب الشأن في تلك البلاد؛ لأن له منافع كثيرة، ومنها طِيب عطره والتبخر برائحته عندما يحرق فوق الجمر كالبخور؛ فهو يؤثر في الإنسان عند شمِّه واستعماله، فيلتهب في الرجال والنساء الحب والطرب والنشاط والأريحية، وكثير من رجال الهند الشجعان يستعمل هذا الدهن وقت المعارك والحروب؛ لأنه «يشجع القلب، ويقوي النفس، ويبعثها على الإقدام»، وأكثر ما يظهر هذا النوع من العرق من جباه الفيلة في ذلك الفصل من السنة الذي يكون فيه هيجانها من أجل التكاثر؛ فإذا جاء ذلك الوقت هرب عنها سواسها ورعاتها، لأنها لا تعود تفرق بين من تعرف وغيره من الناس، وعند ذلك تسلك الفيلة الأودية والجبال، ويهرب منها الكركدن نفسه (واسمه أيضًا النوشان، ووحيد القرن)، ولا يبقى في المكان الذي هي فيه، لأن الفيل يكون بحال السكران، لا يعقل ولا يميز بين الكركدن وغيره، ولما يذهب الهيجان عن الفيل ويسترجع إلى بلاده عن مسافة شهر وأكثر وهو في بقية من سكره، يبقى عليلًا حوالي شهر أيضًا حتى يعود طبيعيًّا كما كان، ولا يصاب بذلك إلا الفحول من الفيلة وذوو الجراءة منها والإقدام، ومن الفيلة في أرض الهند ما يعمِّر مائة سنة ومائتين، ويضع حمله (يتكاثر) في كل سبع سنين، والفيلة لا تتكاثر وتتوالد إلا بأرض الزنج والهند، ولا تعظم أنيابها بأرض السند والهند كما تعظم بأرض الزنج، ويصنع الزنج من جلودها دروعًا لا تضاهيها في المتانة والمنعة دروع أخرى.
والفيل يهرب أيضًا من السنانير (جمع سِنَّور)، وهي القطاط، ولا يقف أمامها البتة إذا أبصرها، وملوك الفرس في وقت الحرب يواجهون الفيلة المقاتلة بالحيلة فيطلقون السنانير عليها، وكذلك كان يفعل ملوك السند والهند.
وكان رجل من أرض السند يُدعى هارون بن موسى، وكان شاعرًا شجاعًا ورئيسًا في قومه، وكان في حصن له، فالتقى في حرب مع بعض ملوك الهند تتقدمهم الفيلة؛ فلما دنا في حملته من الفيل خلَّى القط عليه، فولَّى الفيل منهزمًا لما أبصر الهر، وبذلك وقعت الهزيمة بجيش الهنود، وقتل الملك، وكتب النصر للمسلمين على يد هارون بن موسى.
ويمضي المسعودي فيصف الفيل لأبناء عصره قائلًا:
«وخرطومه أنفه، وبه يوصِّل الطعام والشراب إلى جوفه، وهو شيء بين الغضروف واللحم والعصب، وبه يقاتل ويضرب، ومنه يصيح، وليس صوت الفيل على مقدار عظم جسمه وكبر خلقه … وكل حيوان ذي لسان يكون أصل لسانه إلى داخل، وطرفه إلى خارج، إلا الفيل، فإن طرف لسانه إلى داخل، وأصله إلى خارج» (ج٢، ص١٢).
وعندما يرِد الفيل مياه الغدران والأنهار للشرب يخاف إذا كان الماء صافيًا، ولذلك تراه يثير الماء ويعكره، ويمتنع من شربه عند صفائه، كذلك أكثر الخيل إذا وردت الماء وكان صافيًا ضربته بأيديها فكدرته قبل أن تشرب منه، وتشترك في هذه الصفة الخيل والفيلة وبعض الإبل دون سائر الحيوان، والسبب هو أنها تشاهد صورها في الماء الصافي فتعكره بأيديها كي تزيل الصورة، غير أن باقي الحيوانات الكبيرة الجسم إذا رأت صورتها منعكسة على صفاء الماء أعجبتها لعظمها وحسنها وما فاق به من حسن الهيئة غيره من أنواع الحيوان.
أما عن العاج فيقول المسعودي إنه يستعمل في الهند لصنع الشطرنج والنرد، وإن أهل الهند يغلب عليهم القمار في لعبهم بالشطرنج والنرد على الثياب والجواهر، وربما خسر الواحد منهم ما معه فيلعب على قطع عضو من أعضاء جسمه، ولذلك يضعون بحضرتهم قدرًا من النحاس صغيرة على نار فحم، وفي القدر دهن لحم أحمر، فيغلي ذلك الدهن الذي يدمل الجرح ويقطع سيلان الدم؛ فإذا خسر اللاعب إصبعًا من أصابعه يقطعها بخنجر ساخن مثل النار، ثم يغمس يده في ذلك الدهن فيكويها ويتوقف نزيف الدم، ثم يعود إلى اللعب على إصبع ثانية، وقد يستمر في الخسارة فيقطع أصابعه والكف، ثم الذراع والزند وسائر الأطراف، وكل ذلك يستعمل فيه الكي بذلك الدهن العجيب الذي يعمل من أخلاط وعقاقير بأرض الهند عجيب المعنى.
ويروي المسعودي في (ج١، ص١٨٠) قصة كان شاهدًا عليها، فيقول إن لملك المنصورة (في بلاد السند) فيَلة حربية، وعددها ثمانون، ورأيت له فيلَين عظيمَين كانا موصوفَين عند ملوك السند والهند لما كانا عليه من البأس والنجدة والإقدام على مقاتلة الجيوش، وكان اسم أحدهما «منفرقلس» والآخر «حيدرة»، ولمنفرقلس هذا أخبار عجيبة، وأفعال حسنة، وهي مشهورة في تلك البلاد وغيرها، ومنها أنه مات بعض سُوَّاسه، فبقي أيامًا لا يأكل ولا يشرب، يُبدي الحنين، ويظهر الأنين، كالرجل الحزين، ودموعه تجري من عينيه لا تنقطع، ومنها أنه خرج ذات يوم من دار الفيلة وحيدرة وراءه، وباقي الثمانين يتبعونهما، ولما وصل منفرقلس في سيره إلى شارع ضيق قليل العرض من شوارع المنصورة فاجأ في مسيره امرأة على حين غفلة منها، وحين رأته دهشت واستلقت على قفاها من الجزع، وانكشفت عنها ثيابها في وسط الطريق، فلما رأى ذلك منفرقلس وقف بعرض الشارع مستقبلًا بجنبه الأيمن ما وراءه من الفيلة، مانعًا لهم من الوصول إلى المرأة، وأقبل يشير بخرطومه بالقيام، ويجمع عليها أثوابها، ويستر منها ما بدا، إلى أن انتقلت المرأة وتزحزحت عن الطريق بعد أن عاد إليها روحها، فمضى الفيل في طريقه وتبعته الفيلة.
وقد افتخرت الهند بالفيلة وعِظم أجسامها، ومعرفتها، وحُسن طاعتها، وقبولها الرياضيات، وفهمها المرادات، وتمييزها بين الملك وغيره، وأن غيرها من الدواب لا يفهم شيئًا من ذلك ولا يفصل بين شيئين» (ج١، ص٢٩٠-٢٩١).
(١١) الحوت
ومن الحيوانات الأخرى التي يصفها المسعودي في «مروج الذهب» نوع من السمك شاهده في بحر الزنج هو:
(١٢) التمساح
«وكذلك التمساح يموت من دُويبة في سواحل النيل وجزائره، ذلك أن التمساح لا دبر له، وما يأكله يتكون في بطنه دودًا، وإذا آذاه ذلك الدود خرج [التمساح] إلى البر فاستلقى على قفاه فاغرًا فاه، فيُقيض الله إليه طيرًا كالطيطوي والحصافي وغير ذلك من أنواع الطيور، وقد اعتادوا ذلك منه، فيأكل الطير ما ظهر في جوفه من ذلك الدود، وتكون تلك الدُّويبة قد كمنت في الرمل تراقبه، فتدب إلى حلقه، وتصير في جوفه، فيخبط بنفسه في الأرض ويطلب قعر النيل حتى تأتي الدويبة على حشوة جوفه، ثم تتخرق جوفه وتخرج، وربما يقتل نفسه قبل أن تخرج فتخرج بعد موته، وهذه الدويبة تكون نحوًا من ذراع على صورة ابن عرس، ولها قوائم شتى ومخالب.
وفي بحر الزنج أنواع من السمك بصور شتى، ولولا أن النفوس تنكر ما لم تعرفه وتدفع ما لم تألفه، لأخبرنا عن عجائب هذه البحار وما فيها من الحيتان والدواب وغير ذلك من عجائب المياه والجماد» (ج١، ص١١٩).
(١٣) ظِباء المسك
وقد أعجب المسعودي أيَّما إعجاب ببلاد التبت، وهي مملكة مجاورة للصين، وما فيها من طبيعة وناس، فقال في ذلك:
«ولبلاد التبت خواص عجيبة في هوائها وسهلها ومائها وجبلها، ولا يزال الإنسان أبدًا ضاحكًا بها فرحًا مسرورًا، لا تعرض له الأحزان ولا الغموم ولا الأفكار، ولا تُحصى عجائب ثمارها وزهرها ومروجها وهوائها وأنهارها.»
- (١)
ظباء التبت ترعى سنبل الطيب والنبات الطيب والنباتات الزكية الرائحة، أما الظباء الصينية فترعى الحشيش وليس النبات الطيب الرائحة.
- (٢)
أن أهل التبت لا يقومون بإخراج المسك من نوافجه بل يتركونه فيها، أما أهل الصين فيخرجونه من نوافجه ويغشونه بالدم وغيره.
كما أن أهل الصين ينقلون مسكهم عبر البحار فيتعرض للرطوبة واختلاف الهواء، وإذا ما كفوا عن غش مسكهم ووضعوه في أوان زجاجية محكمة الإغلاق ثم جاءوا به إلى بلاد الإسلام (عُمان وفارس والعراق …) فإنه سيكون كالمسك التبتي.
وأجود المسك وأطيبه، كما يقول المسعودي، هو ما خرج من الظباء بعد أن ينضج تمامًا. ولا فرق بين غزلاننا وغزلان المسك في الصورة والشكل واللون والقرن إلا بأن لغزلان المسك أنيابًا كأنياب الفيلة، لكل ظبيٍ نابان خارجان من الفكَّين قائمان منتصبان أبيضان، نحو الشبر وأقل وأكثر.
وتُنصب لغزلان المسك في بلاد التبت والصين الحبائل والأشراك والشِّباك فيصطادونها، وربما رمَوها بالسهام فيصرعونها، ثم يقطعون عنها نوافجها والدم حار في جوفها (في السرَّة) لم ينضج بعد، فتكون رائحته كريهة، وتبقى زمانًا حتى تزول، ويتحول بفضل مواد من الهواء فيصير مسكًا …
وخير المسك ما نضج في سرة الغزال، فإذا نضج هناك تألم الغزال فحكه مستلذًّا بأحد الصخور والأحجار الساخنة من حر الشمس، فينفجر حينئذٍ ويسيل على تلك الأحجار كانفجار الخراج أو الدمل، فيجد لخروجه لذة، وبعد إفراغ المسك تندمل السرة، ويعود المسك يتكون فيها من جديد، ويخرج رجال التبت يقصدون مراعي الغزلان بين تلك الأحجار والجبال، فيجدون الدم قد جف على تلك الصخور والأحجار بعد أن أنضجته الطبيعة في حيوانه، وجفَّته الشمس، وأثر فيه الهواء، فيأخذونه ويضعونه في نوافج معهم أخذوها من غزلان اصطادوها، فذلك أفضل المسك (ج١، ص١٦٩-١٧٠).
(١٤) القرود
وحين جاء وفد الصين إلى المهدي ذكروا له ما في القرد من منافع لملوكهم عند الطعام، ومنها بخلجان بلاد الزابج في الصين.
وهذه القرود مشهورة في هذا الصقع، معروفة بالكثرة في هذه الخلجان، وهي ذات صور تامة، وكان أحمد بن هلال، أمير عمان يومئذٍ، قد جاء إلى الخليفة المقتدر بعدد منها في سلاسل عظام، وكان بين تلك القرود ذوو لحًى وسِبال كبار وشيوخ وشبَّان مع أنواع من الهدايا من عجائب البحر، وهذه القرود أمرها مشهور عند البحريين من أهل سيراف وعُمان ممن يسافرون إلى الهند والصين، يعرفون كيف تأتي بالحيلة لصيد التماسيح من جوف الماء.
أما اليمن فلا خلاف بين من دخله في أن القرود منه في مواضع كثيرة وأعدادها لا تُحصى، فمنها في وادي نخلة، وهو كثير العمائر، ومصابُّ المياه إليه كثيرة، وشجر الموز فيه كثير، والقرود فيه كثيرة، فهي قطعان، وكل قطيع منها يسوقه هرز، والهرز هو الذكر العظيم الذي يقودها، كالفحل، وقد تلد القردة في بطن واحدة نحو عشرة قرود أو اثنَي عشر، وتحمل القردة البعض من أولادها كحمل المرأة ولدها، ويحمل الذكر باقيهن، وللقرود أندية ومجالس تجتمع فيها، فيسمع حديث ومخاطبات وهمهمة، والإناث كالنساء منفصلات عن الذكور، وإذا سمع السامع حديث القرود في الليل وهو لا يراها بين تلك الجبال وأشجار الموز، لم يشكَّ أنهم أناس لكثرتهم بالليل والنهار، وليس في جميع البقاع أحسن ولا أخبث ولا أسرع قبولًا للتعليم من قرود اليمن، وأهل اليمن يسمون القرد الرباح، وللقرود الذكور والإناث جمم (شعر كثيف) قد سُرِّحت، ومنها سود كأَسود ما يكون من الشعر، وإذا جلسوا يجلسون مراتب دون مرتبة الرئيس، ويتشبهون في سائر أعمالهم بالناس، ومن القردة باليمن، ببلاد مأرب بين صنعاء وقلعة كهلان، ما يكون في برارٍ وجبال هنالك كأنها السحب في تلك البراري والجبال لكثرتها.
(١٥) العَربد والعَرانس والنَّسناس
ينقل المسعودي أخبارًا عن نوع من الحيوان هو العربد (جمعها عرابيد)، وهو يشكك بصحة هذه الأخبار، كما أسلفنا، ويقول إنه نوع كالحيات، تعيش ببلاد حجر اليمامة، فيما زعموا، وكان الخليفة المتوكل في بدء خلافته سأل حُنين بن إسحاق أن يأتي له بحمل من النسناس والعربد، فلم يسلم منهم إلى سُرَّ من رأى (مدينة سامراء اليوم) إلا اثنان من النسناس، ولم تتأتَ له الحيلة في حمل العربد من اليمامة، وذلك أن العربد إذا خرج عن اليمامة وصار إلى موضع منها معروف المسافة اختفى من الوعاء الذي حُمل فيه.
وأهل اليمامة ينتفعون به لمنع الحيَّات والعقارب وسائر الهوام، كمنفعة أهل سجستان بالقنافذ، ولذلك كان في قانون أهل سجستان القديم ألا يقتل قنفذ ببلدهم؛ لأنه بلد كثير الرمال بناه الإسكندر ذو القرنين، والبلد كثير الأفاعي والحيات جدًّا، فلولا كثرة القنافذ لتلف من هنالك من الناس.
(١٦) العنبر واللؤلؤ
ويروى المسعودي قصة نوع من العنبر الذي يقذفه البحر على الشواطئ:
وهم ذوو فقر وفاقة، ولهم خيل يركبونها بالليل تُعرَف بالنجب المهرية تشبه في السرعة بالنجب البجاوية، بل عند جماعة أنها أسرع منها، يسيرون عليها على ساحل بحرهم؛ فإذا أحست هذه النجب بالعنبر قد قذفه البحر بركت عليه، قد ريضت لذلك واعتادته، فيتناوله الراكب، وأجود العنبر ما وقع في هذه الناحية وإلى جزائر الزنج وساحله، وهو المدور الأزرق النادر كبيض النعام أو دون ذلك، ومنه ما يبلعه الحوت المعروف بالأوال … وذلك أن البحر إذا اشتدَّ قذف من قعره العنبر كقطع الجبال وأصغر … فإذا ابتلع هذا الحوت العنبر قتله فيطفو فوق الماء؛ ولذلك أناس يرصدونه في القوارب من الزنج وغيرهم، فيطرحون فيه الكلاليب والحبال، فيشقون عن بطنه ويستخرجون العنبر منه، فما يخرج من بطنه يكون سَهِكًا [لزجًا، رائحته كريهة تذهب إذا جف] ويعرفه العطارون بالعراق وفارس والهند، وما بقي على ظهر الحوت منه كان نقيًّا جيدًا، على حسب بقائه في بطن الحوت.»
والعنبر موجود أيضًا بين جزر في هذا البحر عددها حوالي ألفين، وكلها عامر بالناس ويحكمها امرأة: «وبذلك جرت عادتهم منذ قديم الزمان لا يملكهم رجل.»
وهذا العنبر الذي يقذفه البحر: «كأكبر ما يكون من قطع الصخر، وأخبرني غير واحد من نَوَاخذة السيرافيين والعُمانيين بعُمان وسيراف وغيرها من التجار ممن كان يختلف [يسافر] إلى هذه الجزائر أن العنبر ينبت في قعر هذا البحر، ويتكون كتكوُّن أنواع الفطر: من الأبيض، والأسود، والكمأة والمغاريد، وبنات أوبَر ونحوها، فإذا هاج البحر واشتد قذف من قعره الصخور والأحجار وقطع العنبر.»
ويأتي على ذكر جزيرة خاركي في بحر فارس (الخليج العربي)، وفيها مغاص اللؤلؤ المعروف بالخاركي، وفي هذا البحر مغاصات الدر واللؤلؤ، وفيه العقيق، وأنواع الياقوت والماس …
والغوص على اللؤلؤ في بحر فارس يكون في أول نيسان إلى آخر أيلول، وما عدا ذلك من شهور السنة فلا غوص فيه، واللؤلؤ خاص ببلاد خارك وقطر وعُمان وسرنديب وغير ذلك من هذا البحر، وهناك صَدَف اللؤلؤ العتيق، واللؤلؤ الحديث الذي يسمى بالمحار، والمعروف بالبلبل، وفي الصدف لحم وشحم.
والمحار الذي في الصدف حيوان كان يُظَن في أيام المسعودي أنه «يفزع على ما فيه من اللؤلؤ والدرِّ خوفًا من الغاصة [الغوَّاصين] كخوف المرأة على ولدها» (ج١، ص١٦١-١٦٢).