عقل الإنسان وعقل الحيوان
حين نقارن بين العقلين في الإنسان والحيوان يجب أن نميز بين الحيوانات؛ فإن القرد والسلحفاة والسمكة والنملة والإسفنج من الحيوانات، والاختلاف بينها في القوى «العقلية» من العِظَم بحيث يجعل المقارَنة شاقة، بل مستحيلة. بل إن من الخطأ أن نقول: إن للإسفنج أو المحار عقلًا؛ إذ ليس لهما دماغ، ولكنا نجد فيهما بداية الجهاز العصبي والإحساس.
اغرز إبرة في يد إنسان فيصرخ بعد ثانيتين.
واغرز إبرة في إسفنجة فتقفل فتحتها بعد عشر دقائق.
ومعنى هذا: أن الإحساس يسير بسرعة ٢٥٥ ميلًا في الساعة في الإنسان، أما في الإسفنج فلا يسير إلا بسرعة ثلاثة أميال ونصف ميل في الساعة.
لما ظهر الإسفنج على كوكبنا كانت الطبيعة مبتدئة تصنع آلات بطيئة، فلما وصلت إلى الإنسان بعد نحو ٥٠٠ أو ٦٠٠ مليون سنة استطاعت أن تصنع آلات سريعة، والإسفنج من أحط أنواع الحيوان، ليست له عين أو أذن أو أنف، وليس له دماغ؛ ولذلك لا تصلح المقارنة بيننا وبينه، ولكن المقارنة بين الإنسان والقرد الشمبنزي أو القرد الغوريلا معقولة، تنهض على أساس حسن؛ لأن الفرق بيننا وبينهما درجي وليس نوعيًّا.
وأصلنا مع ذلك من الحيوان، ولنا غرائزه التي تعمل بعواطف نضبطها بالعقل وأحيانًا لا نضبطها، وامتيازنا على جميع الحيوانات هو الدماغ الكبير الذي يستطيع ضبط عواطفنا أكثر مما يستطيعه الحيوان، وليس معنى هذا أنه ليس للحيوان الباقي دماغ، إنما معناه أن دماغنا أكبر وأضخم يتسع للتفكير الذي لا يصل إليه أرقى الحيوانات دوننا.
ويمكن أن نقول على وجه الإجمال: إن أحط الحيوان كالإسفنج أو المحار يقتصر نشاطه العصبي على الرجع الانعكاسي، كما يحدث لأحدنا عندما تُطْرَف عينه؛ فإذا ارتقى الحيوان على ذلك أصبح نشاطه عاطفيًّا؛ يغضب فيقاتل، أو يخاف فيفر، كما نرى في السمك؛ فإذا ارتقى على ذلك صار للعقل قوة الضبط — قليلًا أو كثيرًا — لهذه العواطف، وهذا الضبط على أكثره في الإنسان.
وضبط العاطفة يعود إلى الوجدان؛ أي إلى تلك الوقفة أو الحالة التي لا نستسلم فيها لعاطفة الغضب مثلًا، فلا نندفع إلى ضرب الخصم؛ بل نقف ونتأمل، وندري أننا نقف ونتأمل، ونفكر في الخطة المثلى التي يقتضيها الظرف؛ أي وجدان يؤدي إلى التفكير الذكي، بل هو التفكير الذكي.
وكثير من نشاطنا العصبي رَجْع انعكاسي؛ كما نرى في طرفة العين عند لقاء النور الساطع وتحرك اللعاب عند رؤية الطعام، وكثير منه رجع عاطفي؛ كما نرى في الغضب والحزن والاشمئزاز والفرح. وأساس العاطفة مع ذلك هو الرجع الانعكاسي، والقليل من نشاطنا العصبي وجداني حين نحاول حَلَّ مشكلة فنزن الاعتبارات المختلفة، وقد نصل إلى قرار ضد عواطفنا، كالشاب يحس عاطفة قوية نحو الفتاة ثم يفكر في الزواج بها، ولكنه ينتهي إلى الإحجام لاعتبارات اجتماعية أو اقتصادية.
نحن نمتاز على الحيوان بضخامة المخ ووفرة أخاديده وزيادة الوجدان؛ أي: زيادة التفكير.
وبالطبع هناك اعتبارات أخرى كثيرة جعلت الإنسان يمتاز بالرقي العقلي على الحيوان قبل ضخامة المخ وكثرة أخاديده؛ منها مثلًا: أننا اعتمدنا على النظر دون الشم في التعرف إلى الأشياء والحيوان والنبات، وتفكيرنا — أو بالأحرى وجداننا — هو وجدان الرؤية، حتى إننا نقول: «يرى رأيًا» كما لو كنا نقول: «يفكر تفكيرًا»؛ فنحن نعرف الدنيا بالعين، في حين أن معظم الحيوانات يعرفها بالأنف؛ أي: الشم.
والرؤية تجعلنا نفهم الدنيا — إلى حدٍّ ما — فهمًا موضوعيًّا منفصلًا من عواطفنا، أما الشم فيجعل الفهم — إلى حد كبير — ذاتيًّا؛ فالدنيا عند الكلب، هي مجموعة من الانعكاسات العصبية في فمه وأنفه، أما العين عندنا فترسم لنا خارطة تكاد تكون صحيحة للدنيا، ولكن الأنف والفم لا يرسمان خارطة صحيحة للكلب؛ ومن هنا كلماتنا في معاني التفكير: الرأي، النظر، التطلع، الاستطلاع، الرؤية، الرؤيا، الرَّوِيَّة، التبصر، التشوف؛ فإنها كلها كلمات تدل على تفكير العين.
ونستطيع أن نزيد في المقارنة بيننا وبين الحيوان، فنقول: إن تَعَقُّل الحيوان — مثلًا — حسيٌّ، وتعقُّلنا تَصَوُّرِيٌّ؛ هو يحس ويسلك بمقتضى إحساسه فقط، ونحن نحس ونسلك بمقتضى تصوُّرنا وتخيُّلنا. وهذا أيضًا كلام مُجْمَل؛ لأن كثيرًا من الحيوانات العليا تتصور وتتخيل، وإن لم تَبْلُغ درجتنا.
واللغة عندنا تجعل كثيرًا من التعقل تخيليًّا تصوريًّا. والحيوان محروم من اللغة، فلا يجد ما نجد من رسم الصور في أذهاننا والتفاهم بالكلمات عن الأشياء حين تنتقل الصور، وتتغير الأخيلة في أذهاننا بالحديث.
ولننظر نظرة أخرى، هي النظرة التطورية:
أحَطُّ الأنواع في النشاط العصبي هو الرجع الانعكاسي؛ وبرهان انحطاطه أننا نحس هذا الرجع بلا حاجة إلى المخ؛ فإن حركة القدم من التجميش أو الوخز تحدث بعد قطع رأس الحيوان؛ لأن مركز الإحساس هنا هو الحبل الشوكي «داخل الفقار» وليس المخ.
وأعلى من الرجع الانعكاسي، العاطفة؛ أي: الرجع الغريزي.
وأعلى من هذين، هو الوجدان الذي يؤدي إلى التعقل.
وأقدم الحيوانات، وجميع الأحياء البدائية القديمة — مثل الإسفنج — انعكاسية السلوك، وأقل منها قِدمًا الحيوانات العاطفية (الغريزية)، وأَجَدُّ الحيوانات هي الوجدانية التي تتعقل ولا تستسلم للعواطف، وأعلاها هو الإنسان.
وهذا نراه في نومنا أو وقت التخدر بالخمر أو غيرها؛ فإن أقدم رجوعنا العصبية هو بالطبع أرسخها في نفوسنا، لا يتزعزع بالنوم أو الخمر، وأَجَدُّها هو أكثرها تزعزعًا وزوالًا في النوم أو الخمر، فنحن في هاتين الحالين نعجز عن التعقل بالوجدان. ولكن الرجع الانعكاسي يبقى حيًّا؛ كما إذا جمش أحدٌ قَدَمَنَا فإننا نسحبها حتى ونحن نيام، بل أحيانًا العاطفة تبقى حية فنجد نشاطًا جنسيًّا في النوم، ولكن ليس هناك مكان للوجدان في النوم أو وقت التخدر.
تفكير العاطفة هو مثل الغضب والحسد والأنانية والشره والكراهة، وتفكير الوجدان هو مثل المنطق والهندسة والمروءة والواجب والتبصر والشرف. وحين تملكني العاطفة أكون منفعلًا فلا أكاد أفكر كما يحدث عندما أجري من الخوف أو آكل وأنا جائع أو أتشاجر في غَضَب.
ولكني في الوجدان أُوَازِن بين عاطفة وأخرى، فأقف وأَتَبَصَّر وأعتمد على المنطق وأروي وأنتقد وأُحَلِّل وأؤلف.
الوجدان هو أن أفكر وأعمل وأنا أدري أني أفكر وأعمل، هو كما قال ديكارت، قبل أكثر من ٣٠٠ سنة: «أنا أفكر؛ ولذلك أنا موجود.»
العاطفة هي أن أنساق في رغبة أو شهوة قسرًا أو كالقسر، وأنسى نفسي فلا أكاد أفكر.
الحيوان عاطفي لا يدري بوجوده (= بوجدانه)، وهو ينفعل بعاطفته وينساق بها مضطرًّا أو كالمضطر في تصرفه. والدنيا مصوَّرة في عقله تصويرًا ذاتيًّا أمْلَته العاطفة، وهو تصوير يخالف الواقع.
ولكن الإنسان وجداني، يدري بوجوده، يقف ويتأمل ويوازن بين الاعتبارات، والدنيا مصوَّرة في ذهنه تصويرًا موضوعيًّا؛ أي كما هي تقريبًا في الواقع غير متأثر بانفعالاته أو متأثر قليلًا.
وعندما نتأمل أنفسنا نجد أننا نختلف في الوجدان عما نكون عليه في العاطفة، ويكاد هذا الاختلاف يساوي الفرق بين اليقظة والنوم. والواقع أن كثيرًا من الحيوانات — كالديدان والزواحف والحشرات — يعيش كما لو كان في حال النوم البشري؛ ينساق بغرائزه وعواطفه وانعكاساته؛ لأن هذا هو كل ما يملك؛ إذ ليس له وجدان.
وغاية الفلسفة والدين والعلم أن ينقلنا كل منها من العاطفة والنظر الذاتي التسليمي للدنيا إلى الوجدان بالنظر الموضوعي الانتقادي. ويمكن أن نقيس رُقِيَّ المجتمع بقَدْر ما في زعمائه وأشخاصه ومذاهبه من وجدان. والرجل الحكيم هو الذي يرفض السلوك العاطفي الذاتي ويعمد إلى السلوك الوجداني الموضوعي. والمقياس السديد للسلامة النفسية هو الوجدان؛ إذ على قدر اعتمادنا في السلوك والتصرف على الوجدان بالنظر الموضوعي تكون سلامتنا، وعلى قَدْر بُعْدنا من الوجدان وانسياقنا وراء العواطف يكون المرض النفسي.
والوجدان يؤدي إلى الذكاء، وهو «الغريزة العالمية» التي تحملنا على ترك إحساسنا الخاص والتخلص من انفعالاتنا حتى نرى الدنيا رؤية موضوعية؛ أي: كما هي في حقيقتها وليس كما يُصَوِّرها لنا غضبنا أو هوانا أو طمعنا أو خوفنا؛ أي: ليس كما تُصَوِّرها لنا انفعالاتنا. بل يكاد الوجدان في البشر يكون عاطفة جديدة؛ لأننا بالوجدان نُحِسُّ قِيَمًا ونتخذ مقاييس عالمية — بل كونية — نتساءل عن أصل العالم والنجوم والحيوان والنبات وأصل الكون ومنتهاه، ونبحث الحضارة الصينية وأجزاء الذرة وقيمة الفلسفة والدين والغاية من الوجود، وأصل الفضيلة، وننتقد الطبيعة ونصوغ المستقبل. أليس الوجدان هو الذي يحمل غاندي على أن يجمع بين الثورة والقداسة؟ ففي حين يرى الطبيعة حمراء بين الناب والمخلب كلها قسوة وبطش وتقتيل، يعمد هو بوجدانه — أي بإحساسه الأفيانوسي — إلى الدعوة إلى حب الإنجليز، حتى وهو يرى بنادقهم مُسَلَّطة على الهنود.
ومع ذلك هذا هو وجداننا الآن في أسمى إنسان نعرفه في عصرنا. ولكنا لا نعرف ما سوف يكون هذا الوجدان بعد الألوف من السنين!
ووجداننا كما ورثناه من الطبيعة شيء عظيم في ذاته؛ أي إنه اختراع جديد يفصل ما بيننا وبين الحيوان، ولكنه أعظم بالمجتمع والثقافة.
انظر إلى فكرة الموت التي يعرفها البشر ولا يعرفها الحيوان؛ فإن هذه الفكرة الوجدانية قد جمعت حولها مركَّبات: اختراع الآلهة ومبادئ الدين، والفضائل والرذائل، وفكرة الحياة الفاضلة، كما أنها حركت الكثير من الصناعات والحرف، وزاد الوجدان بذلك زيادة عظمى.
وانظر إلى اكتشاف الزراعة التي أوجدت الحكومة وعلوم الهندسة والفلك وشتى المعارف الأخرى.
وكذلك لا ننسى قيمة اللغة في الوجدان، وكذلك النظريات الاجتماعية التي تعد كل منها محاولة لتفهُّم المجتمع تفهمًا وجدانيًّا، وأذكر مثلًا قولنا: «ليس عند هذا العامل وجدان طبقي»؛ أي إن فهمه لحالته الاقتصادية مقصور على نفسه، ولم يتعمم إلى آلاف العمال في هذا العالم، وقِسْ على هذا.
وغاية الوجدان كما نبصرها الآن في ضوء تكوُّنه وتطوُّره الماضِيَيْنِ أن يكون حاسَّةً كونية نعرف بها الأشياء في هذا الكون كما هي في حقيقتها.