الكظم والعقل الكامن
كلنا يعرف أن المغيظ الكاظم يُعَدُّ خطرًا؛ لأنه قد ينفجر في أي وقت، والحقد هو غضب مُحْتَقَن؛ أي: مكظوم، والمعنى الواضح أن عاطفة الغضب لا يمكن أن تموت بالكظم؛ إذ هي تبقى تحت الرماد، ثم تعود عندما تحين الفرصة فتضطرم.
وليس هذا شأنَ عاطفة الغضب وحدها؛ فإن جميع العواطف تبقى حية متربصة تفور بنا فجأة أو تتحايل للبروز بشكل مستور نحتاج إلى بحثه حتى نكشف عنه ونعرف أصوله.
اعْتَبِر طفلًا يسمع نداء المثلجات في الشارع، فيطلب من أبيه قرشًا كي يشتري قطعة، فيرفض أبوه، فيكظم الطفل غيظه، وبعد دقائق يحادثه أخوه الأصغر حديثًا بريئًا، ولكن هذا الطفل المغيظ الكاظم يرد عليه بصفعة صاخبة على وَجْهه.
أو اعْتَبِر نفسك قد خرجت من البيت في الصباح وأنت غاضب لسلوك الأولاد أو الخادمة، فيطب منك كمساري الترام ثمن التذكرة في كلمات عادية، ولكنك تجد أنك تنهره وتتشاجر معه؛ لأن غيظك الذي كظمته في البيت قد كمن وتربص حتى وَجَدَ الفرصة، لا، بل هو قد خلق الفرصة من لا شيء تقريبًا للتنفيس.
وحياتنا الحضارية تكاد تكون كلها كظمًا إذا قورنت بحياة الحيوان، وهي كذلك؛ لأننا نعيش في مجتمع مُتَمَدِّن كثير الزواجر، فنحن نكظم الشهوة الجنسية ونكظم الرغبة في التسلط أو السيطرة ونكظم الخوف، ونعيش جميعًا في مباراة للكسب والوجاهة تجعلنا نكظم كثيرًا من عواطفنا.
وهذه العواطف المكظومة لا تموت كما رأينا في الطفل المحروم من الحلوى المثلجة أو في ذلك الشخص الذي يخرج غاضبًا من بيته، ولكن في هذين المثالين رأينا تفريجًا سريعًا بمشاجرة مختلَقة مع الكمساري أو بإيذاء الأخ الأصغر، ولكن في حياة الحضارة التي نعيشها لا نجد مثل هذا التفريج السريع؛ ولذلك تكمن هذه العواطف في «العقل الكامن = الباطن» أي في الكامنة.
والعقل الكامن هو مجموعة عواطفنا المخزونة المكظومة، ونحن ننسى الحوادث أو الظروف التي أحدثت الكظم، كما أن الطفل حين ضرب أخاه لم يكن يعرف أن الإساءة الأصلية لم تكن من أخيه بل كانت من أبيه الذي حَرَمَه القرش لشراء الحلوى، وكذلك الآخر الذي تشاجر مع الكمساري لا بد أنه دَافَعَ عن نفسه وحسب نفسه بريئًا؛ لأنه نسي أن الإساءة جاءته من البيت قبل أن يبارحه في الصباح.
وقد تَثْقُل وطأة الكظم فتؤدي إلى الإجرام أو الجنون، كالغيرة في الزوجة تحملها على ارتكاب الجريمة، وكالخوف الدائم، أو المتردد، يصير همًّا لا يطاق حتى يحمل صاحبه إلى الفرار منه بالخمر، أو أحيانًا بالنسيان التام، كما حدث لهيس في محاكمته في نورمبرج بألمانيا.
وهذه العواطف المكظومة تؤثر في سلوكنا وتُعَيِّن تصرفنا في الحياة من حيث لا ندري؛ أي: إنها تتغلب على وجداننا وترسم لنا اتجاهات وميولًا لا نستطيع أن نقف على مأتاها ومصدرها إلا بالتحليل النفسي أو ما يسمى «سيكلوجية الأعماق»؛ لأنها تسير نفوسنا وتحللها، وفي حياتنا — منذ نولد — نصادف مخاوِف ووساوِس ومخازِيَ وانهزاماتٍ تقع بنا في السنوات الخمس أو الست الأولى من العمر، حين لم نكن قد شببنا، وصار لنا وجدان نجابه به الدنيا ونتدبر ونفكر فيها بروية، أو قد تقع بنا حوادث خطيرة رهيبة حتى ونحن كبار قد بلغنا العشرين أو الثلاثين، وهذه الحوادث — كالقتال في الحرب أو انهيار منزل في غارة جوية أو إفلاس لا رجاء فيه، أو شك لا يطاق — تلغي وجداننا وتثير فينا عاطفة الخوف التي نكظمها؛ لأننا مضطرون إلى أن نتخذ موقف الشجاعة والتمالك والتجلد، وعندئذٍ ينحدر الخوف إلى العقل الكامن ويتخذ أسلوبًا معينًا يظهر به.
- (١)
شاب تشاجر مع آخر وتغلب عليه هذا الآخر، وهو لا يطيق هذه الحالة التي يرى نفسه فيها مهزومًا مهانًا، فهو يستسلم لأحلام اليقظة حيث يتخيل مواقف يضرب فيها هذا الخصم أو ينتصر عليه بالحجة الدامغة.
ثم اعْتَبِر هنا جميع الخواطر التي تَمُرُّ برءوسنا في أحلام اليقظة حين يخمد الوجدان فنتخيل مواقف لذيذة نرتاح إليها، فإنها جميعها تدل على عواطف مكظومة وأمانٍ محبوسة، نُنَفِّس عنها بهذه الأحلام في اليقظة، وهذه الخواطر تعويضية، أي: تعوضنا من آلام حياتنا.
- (٢)
وأحلام اليقظة لا تكفينا؛ فإننا في النوم نحلم الأحلام التي تجري على مبدأ «الجائع يحلم بالخبز» أي إن الذي كظم عاطفة الجوع في الصحو يتخيل الطعام في النوم، وهذا هو المبدأ العامُّ للأحلام: تفريج عن عاطفة مكظومة.
- (٣)
وأحيانًا حين يتردد علينا خوف — أو هم — مكظوم نعمد إلى الهرب منه بالخمر حتى ننساه، بل أحيانًا نهرب بألوان مختلفة من السلوك كالنسك والرهبنة، ونشوة الشراب هي في النهاية انتصار للذاتية على الموضوعية؛ أي: انتصار للعاطفة على الوجدان، والرهبنة هي هرب من مُجَابَهة الواقع في الدنيا.
- (٤)
وأحيانًا يكون الهرب من الكظم؛ أي: التفريج عنه بالزيغ الأخلاقي كالعادة السرية عند المحروم من التعارف الجنسي السوي، بل قد يلجأ هذا المحروم إلى ألوان من التعارف الجنسي الشاذ.
- (٥)
وأحيانًا يؤدي الكظم إلى الإجرام الصريح، بل إن جميع الجرائم تعود إلى كظم؛ لأن الجريمة هي في لبابها تفريج لكظم سابق، ويجب ألا ننسى أن ما نسميه «جرائم» قد لا يكون كذلك في اعتبار آخر؛ فإن الشهداء كانوا مجرمين في أعين قاتليهم، وقد كظموا الإيمان طويلًا ثم باحوا.
- (٦)
ولكن هناك ألوانًا من السلوك تستتر، كالرجل لا يباشر عملًا — أي عمل — إلا ويخيب فيه، وعند التحليل نجد أنه يخيب؛ لأنه في كامنته يكره زوجته ويرغب في الخيبة حتى لا تنتفع هي بنجاحه، وكالشاب المدلل يُقْدِم على الانتحار كي ينتقم من أبويه.
- (٧)
وأحيانًا نجد جنديًّا في الجيش قد شُلَّت ذِرَاعه حتى لَتُقْطع لحمها فلا يُحِسُّ وهذه هي الهستيريا، وعند التحليل نجد أنه كظم الخوف في المعركة، ولكنه لم يُطِق حاله فاحتال له عقله الكامن على هذا الشلل، حتى يجد فيه الراحة بترك المعركة؛ لأنه — من حيث لا يدري — كان يتمنى سببًا يمنعه من القتال.
- (٨)
وأخيرًا نجد المجنون الذي يصرح بأنه مَلِك أو أمير أو مدير لإحدى الشركات؛ لأنه كان تاجرًا وأشرف على الإفلاس أو أَفْلَس فلَمْ يُطِقْ حاله، فانتهى به عقله الكامن إلى هذه السعادة الخيالية التي استقر عليها ووَجَدَ فيها راحته وهربه من مخاوفه.
ولكن اذْكُر أيها القارئ أننا كلنا هذا المجنون، والفرق بيننا وبينه دَرَجِيٌّ؛ لأننا نتخيل في أحلام اليقظة وأحلام النوم هذا الثراء الفاحش والوجاهة العظيمة، واذكر أن التلميذ الذي يكره المدرسة يدعي المرض كالجندي الذي يجد المرض؛ الأول يَدَّعِيه بوجدانه والثاني يحسه بكامنته، والحضارة في السلم والحرب تَحْمِلنا على أن نكظم عواطفنا، ولكن العاطفة قوة كالبخار المحبوس إذا لم يخرج من الأنابيب الأصلية المعدة له فتش عن مسارب نفسية أخرى يتسلل منها؛ حتى ولو اتخذ هذا التَّسَلُّل صورة الأدب أو الشعر؛ فإن كتاب ألف ليلة وليلة هو في صميمه أحلام الجائعين المحرومين من الطعام الفاخر والمرأة الجميلة والقصر الفخم، وأشعار أبي العلاء المعري هي زُهْد المحروم من الدنيا الذي يَجِد الحصرم عنبًا، والنكات الجنسية التي يتمازح بها الشبان وَقْتَ عزوبتهم تَدُلُّ على كظم جنسي.
والإصرار على التفاؤل قد يكون أحيانًا مهربًا من التشاؤم المفرط الذي تصرخ به ظواهر الأحوال؛ لأننا — لِفَرط ما نخاف — نؤمن بالفرج ونجد الراحة في هذا الإيمان.
وقد سبق أن قلنا: إن كل الالتواءات في التفكير تعود إلى أننا نجابه الدنيا ونعامل الناس بعواطفنا بدلًا من وجداننا، ولكن هذه العواطف إما سافرة فنعرفها، وإما مستترة فنجهل أصولها لأنها في العقل الكامن، وهي — لأننا نجهلها — ننساق في تيارها، ونجد لنا منها ميولًا واتجاهات وتصرفات ندافع عنها بالوجدان ونبررها بالمنطق حتى ولو كانت سيئة، وقليل جدًّا من تصرفنا يعود إلى الوجدان، و٩٩ في المائة من تصرفنا يعود إلى العواطف السافرة أو المستترة في العقل الكامن.
قلَّما يكون أولئك الذين يمنعون الاستحمام المختلط على الشواطئ أو الذين يعارضون في اتخاذ النساء لملابس لا تتفق مع الحياء — في زعمهم — قلَّما يكونون من الحكماء الذين استطاعوا أن يضبطوا رغباتهم في تعَقُّل، وهم في العادة بعض أولئك الذين كظموا غرائزهم العنيفة، وكأنهم على إحساس غامض بأن هذه الدوافع التي لم يضبطها العقل ويُقَوِّمها، توشك على أن تجمح بهم وتقذفهم من موقفهم الأخلاقي.
فمن هذا المثال يرى القارئ أن هناك ألوانًا من النشاط تبدو بريئة ولكنها تدل على أعماق مستورة.
أو انظر مثلًا إلى ازدواج الشخصية حين يسلك أحدنا كأنه في يوم جيكل وفي يوم آخر هايد؛ فإن هذا الازدواج يعود إلى أن الكامنة قد احتبست فيها شهوات ورغبات يحملنا المجتمع على إنكارها، فإذا بها في يوم ما تطغى علينا فننسى شخصيتنا الاجتماعية التي نعيش بها ونبرز في شخصية أخرى هي التي كنا نتمناها في أحلام النوم واليقظة.
- الأولى: أننا حين نكظم، ونحن على وجدان بالكظم، نُحِسُّ قلقًا وتزعزعًا، ولكننا نبصر بالأسباب ونستطيع لذلك العلاج، ولكن إذا كانت العاطفة مجهولةً قد اندست إلى الكامنة، فإننا لا نبصر بالأسباب فنحس قلقًا وتزعزعًا لا ندري أصلهما، ولذلك نحتاج إلى التحليل، وبكلمة أخرى نقول: إن الكظم مع معرفة السبب يَسْهُل التخلص منه، ولكن الكظم مع جهل السبب يَصْعُب التخلص منه.
- والثانية: أن العاطفة المكظومة قد تبقى في نوم أو خدر سنوات، ثم تنتبه بالعدوى، كالأم التي فَقَدَت ابنها، قد تعود إلى ذكراه بعد عشر سنوات؛ لأنها سَمِعَتْ أن قريبة أو صديقة لها قد فقدت ابنها.
- والثالثة: أن الكوارث مهما فَدَحَتْ لا تؤثر في النفس كالحوادث اليومية المتكررة الطفيفة؛ ولذلك تستطيع الأم أن تفقد وحيدها وتكظم حزنها وتستبقي عقلها، ولكن الزوجة الشابة تفقد عقلها؛ لأن حماتها تُوَبِّخها كل يوم وتناكدها في مسائل تافهة، أو لأنها تجد المناكدات الصغيرة من زوجها أو ضرتها.
- والرابعة: أن الكظم إذا خف، صار بخارًا محبوسًا؛ أي: قوة تدفع قاطرة الشخصية دون أن يؤدي إلى الانفجار، ولكنه إذا اشتد أدى إلى الانفجار، وبكلمة أخرى نقول: إن القليل من السخط يُحَفِّز على العمل، والكثير منه يؤدي إلى الإجرام.