الأحلام ومغزاها
تضطرنا الحضارة إلى أن نكظم عواطفنا، فتنحدر هذه العواطف في كياننا النفسي إلى أعماق لا نسبرها، ومجموعة هذه العواطف المكظومة نسميها «الكامنة» أي: العقل الكامن؛ لأن هذه العواطف المكظومة ليست راكدة، ولكنها كامنة متربصة، وهي — من حيث لا ندري — تؤثر في سلوكنا وتصرُّفنا وتوجُّهنا وُجُهات في الحياة نعجز عن تعليلها إلا بعد التحليل الشاق.
ومهما ظَنَنَّا أننا نعيش الحياة الوجدانية الموضوعية المنطقية فإننا في الواقع ننساق ببواعث هذه الكامنة فنعيش حياة عقيدية استغراضية؛ أي: قائمة على هوًى معيَّن، فنؤثر أشياء ونبرر سلوكنا بالوجدان، وقليل منا — بل قليل جدًّا — مَنْ يستطيع أن يكشف عن بواعث هذه الكامنة، ويسلط وجدانه على سلوكه.
وهذه العواطف المكظومة تبدو لنا سافرة أو كالسافرة وَقْت الاسترخاء؛ أي: حين يزول عنا التوتر النفسي الذي يُطَالِبُنا به الواجب والفضيلة والشرف والمروءة؛ أي: حين يزول عنا الوجدان الذي نَكْظِم به عواطفنا، فبعد الغداء مثلًا حين نُقَيِّل، أو حين نأوي إلى الفراش قبل النوم في الليل، نسترخي ونفرج عن عواطفنا المحبوسة، فنجد أننا نتخيل خيالات نسعد بها — وقد يكون بعضها فاسقًا — وعندما يتم هذا الاسترخاء في النوم نحلم أحلامًا تجد فيها العواطف المكظومة أَوْسَع المجال للتعبير — بل العربدة — أي إن ما لا نجيزه لأنفسنا بالوجدان في صحونا نستبيحه بالحلم في نومنا.
ونحن ننحدر في النوم إلى درجة التطور الحيواني، حتى إننا في الأحلام نجد التفكير يجري بصور متتابعة خالية من الكلمات إلا قليلًا جدًّا؛ لأن اللغة طور جديد راقٍ في البشر، والحلم هو رِدَّة إلى العواطف التي لا تحتاج في تعبيرها وعربدتها إلى لغة.
ولما كان الحلم خاليًا — في الأغلب — من الحديث والكلمات فإنه يسير بالرموز؛ ومن هنا الصعوبة في تفسيره، كما أننا نستطيع أن نستنير به في الوقوف على نشأة التفكير عندنا؛ فإننا ننظر إلى الدنيا في الحلم «كما لو كانت كذلك»؛ أي إن الإنسان البدائي حين واجَهَ الدنيا وهو عاجز عن فَهْمِهَا صار يحاول هذا الفهم «كما لو كانت كذلك» فالسماء سقف تقعد عليه الآلهة، والرعد إله غاضب يزمجر، وصار يظُنُّ أنه يستطيع أن يقتل الحيوان بأن يرسم صورته على الصخر وفي بطنه حربة، فهو لم يكن يستطيع الوقوف على كُنْه الأشياء، فصار يحاول فَهْمَها بأن يفرض أنها على حال مُشْبِهة من ممارساته اليومية، ونحن حين نرى الحلم مقنعًا حافلًا بالرموز التي تحتاج إلى تفسير؛ إنما نرى في الحقيقة محاوَلَة بَشَرِيَّة بدائية للتفكير، ومن الحلم نعرف كيف نشأت اللغة بكلماتها؛ أي: رموزها كما نعرف البواعث الخفية في كياننا النفسي، هذه البواعث التي ننكرها في صَحْونا؛ لأنَّ وجداننا يُطَالِبُنا بالمنطق في وسط الحضارة فتَثِب هي في نومنا.
وليست هذه الرموز مع ذلك سهلةً، انْظُرْ إلى رجل يحلم أن ثعبانًا عظيمًا يهجم عليه، فهنا كابوس يدل على خوف مكظوم، وانْظُر إلى امرأة تحلم أن ثعبانًا ينساب تحتها؛ فالرمز هنا جنسي يدل على اشتهاء الجنس الآخر؛ فالرمزية هنا واحدة ولكنها تدل على حال نفسية مختلفة بين الاثنين؛ هي الخوف عند الأول، والشهوة عند الثانية.
أو انظر إلى زوجة تحلم حلمًا متكررًا بأنها تعود طفلة تلعب مع إخوتها وأمها، فهنا نفس كارهة للحاضر؛ أي: لبيت الزوجية، تود لو تعود إلى أيام الصبا، وتفهم من هذا الحلم عاطفة سيئة مكظومة نحو الزوج أو الحياة الزوجية عامةً بما فيها من حماة أو غيرها.
أو انظر إلى رجل يحلم أنه قد بَنَى بيتًا من الخشب، ولكنه ركيك يصعد إليه فتصطك أجزاؤه ويترنح، كما لو كان يوشك على السقوط، وبعد حديث قصير نَجِدُ أنه كان في يقظته يُفَكِّر كثيرًا في مشروع يرغب في القيام به، ولكنه يخشى الخيبة والفشل، فهنا خوف مكظوم قد رُمِزَ إليه في الحلم ببيت ركيك متخلِّع.
كلما كانت العاطفة مكظومة في الصحو يكون الانفراج بالحلم في النوم؛ أي: على قَدْر الكظم والتوتر يكون الانفراج والتنفيس، وفي الحضارة القائمة يَكْثُر الكظم للعاطفة الجنسية؛ ولذلك تتجه معظم الأحلام هذا الاتجاه في التفريج وخاصة عند الشبان والفتيات.
- (١)
عجل يثب على بقرة.
- (٢)
شاب وفتاة يتغازلان.
- (٣)
ترى والدها يصب البنزين في الأتومبيل.
ففي الحلمين الأولين الرمز واضح يدل على جوع جنسي مكظوم يخفف برؤية هذين المنظرين، ولكن الرمز مستتر في الحلم الثالث، وهو يحتاج إلى أن نقول: إن الفتاة تنظر إلى والدها باعتباره يمثل الذكورة، وصب البنزين في الأتومبيل عمل مُشْبِه (كما لو كان كذلك) للتعارف الجنسي بين الرجل والمرأة.
وقد قلنا: إن تَصَرُّفنا أو سلوكنا في الحياة يتأثران بالكامنة؛ أي: بهذه العواطف المحبوسة الكامنة، انظر إلى الحلم التالي:
كان أحد الأطباء الشبان يرفض الزواج ويتعلل بأن حالته المالية لن توفر له المعيشة الهنية في الزواج، وحدث ذات مرة أنه كان يفحص صبيًّا مريضًا بالسل، فلما خَلَعَ الصبي ملابِسَه أحَسَّ الطبيب أنه قذف، وحَمَلَتْه هذه الحالة المفاجئة على أن يقصد إلى سيكلوجي ويقص عليه ما حَدَثَ، وبعد التحليل أفهمه هذا السيكلوجي أنه مصاب بشذوذ جنسي، وأن هذا الشذوذ هو العلة الحقيقية التي تمنعه من الزواج.
فهنا طبيب في مركز اجتماعي يطالبه بالوقار والاستقامة قد حبس عاطفة شاذة ونجح في إخفائها حتى على نفسه، ولكنها في لمحةٍ غاب فيها الوجدان وثَبَتْ وحقَّقَتْ وجودها، وكان يتعلل بعلل كاذبة للامتناع عن الزواج، فلما اتضحت له الحقيقة رأى الحلم التالي:
رأى أنه على باب مرْقَصٍ معيَّن، وقد خرج أحد مرضاه ومعه خطيبته، وكان هذا الخطيب مدينًا له، فوقف الاثنان يحدثان الطبيب، ورفع الخطيب صوته بقوله: إنه سيؤدي دينه.
والتفسير أن الطبيب بعد أن عرف عِلَّتَه استخدم وجدانه في يقظته وحَدَّث نفسه بضرورة الزواج، وارتضت عاطفته الجنسية هذا الانقلاب بعض الشيء، ووقف الخطيب يقول للطبيب ما معناه: «لا تخف الزواج من الناحية المالية التي تتعلل بها كذبًا؛ فإني مدين لك وسأؤدي ديني، وسيفعل مثلي كثيرون هنا.»
ومعظم الأحلام ننساها عقب اليقظة، ولكنا إذا تركنا الاسترخاء يطول قليلًا، وتركنا الخواطر المُطْلَقة تتداعى بلا ضابط استطعنا أن نستعيدها، فنفهم معناها؛ أي إننا نستعيد الحلم بأن نستعيد حال النوم أو ما يقرب منه باسترخاء الأعضاء، ونترك الخواطر مطلقة بلا ضابط كما لو كانت حلمًا، والعادة الغالبة أن تكون هناك علاقة بين الحلم وبين حوادث اليوم السابق، ولكن ليس هذا محتومًا.
وفي الحلم تبرز العواطف المكظومة ولكن على مستويات قديمة ربما تعود إلى حال الإنسان قبل أن يخرج من الغابة، كما ترى في الطفل يسقط في الحلم من مكان عالٍ كأنه يعيش على شجرة؛ فإن خوفه هنا من صبي يضربه أو رجل ينهره قد اتخذ هذا المستوى القديم حين كان الإنسان لا يزال مع القرود يعيش على الشجر ويخشى السقوط، أو انظر إلى تاجر يخشى الإفلاس؛ فإنه يرى في الحلم أنه يغرق في البحر، أو انظر إلى زوجة تكْرَه حماتها وتخشاها؛ فإنها تجد كابوسًا في حلمها هو لبؤة أو كلبة تريد نهش لحمها.
ومن الأحلام التي رأيتها في شاب متدين يستمتع بطرب العقيدة ونشوتها أنه في الحلم يجد هذا الطرب قد استحال إلى طرب جنسي ساذج، وهذا هو ما ننتظر بعد التأمل القليل؛ لأن الأحلام تعبر عن العواطف المكظومة وتنحدر إلى المستويات القديمة، وأقدم ألوان الطرب عندنا هو الطرب الجنسي.
لا، بل أكثر من هذا؛ فإن الطرب الجنسي عامٌّ عند جميع الشبان، وهو ما نتسامى به كي نصل به إلى الطرب الفني أو الديني؛ فإذا كان موضوع الحلم فنيًّا أو عقيديًّا انحدر إلى المستوى الأصلي وهو الطرب الجنسي، فصار التعبير جنسيًّا؛ ومن هنا تفسير الاستهتار الذي وقعت فيه بعض الفرق الدينية القديمة؛ ومن هنا اتصال البغاء ببعض المعابد الوثنية قديمًا وحديثًا.
والأحلام مفيدة؛ لأنها تفريج وتنفيس رخيصان للكظم والتوتر، والحلم هنا كالخمر، فنحن نأوي إلى فراشنا متوترين منقبضين فنلعب ونمرح في الحلم بخيالات سارة نضرب فيها خصمنا، أو نشبع فيها جوعًا جنسيًّا، أو نربح فيها ورقة حظ، أو نحو ذلك، فنستيقظ في الصباح مرتاحين منبسطين قد تجَدَّدَ نشاطنا، وأحيانًا تجدنا مغتمِّين بغم لا نعرف سببه، وقد يرجع هذا إلى أننا حاوَلْنا كظمًا في مشكلة معينة، والكظم هو ربْط وضبْط وحبْس للعاطفة؛ ولذلك يعم هذا الكظم أحيانًا سائر نشاطنا، فنكره الحركة والعمل ويشملنا جمود، ولو كنا قد وُفِّقْنا إلى حلم تفريجي لاستيقظنا نَشِطِين سعداء، وبالطبع ليس الحلم تفريجًا كاملًا؛ لأننا في الصباح نعود إلى المشكلة، ولكنه يعطينا بعض الراحة بعض الوقت، أما التفريج الكامل فهو التحليل؛ أي إننا نضع المشكلة أمام الوجدان ونحلها الحل الموضوعي المنطقي.
وأحيانًا يؤدي الحلم إلى حَلِّ مشكلة شاقة؛ لأن الكظم الذي نمارسه في الصحو يتشعع إلى كياننا كله فتجمد خواطرنا فنعجز عن التفكير، كما نرى في الخائف الذي تجمد من الخوف، ولكن الحلم يفكك روابط هذا الكظم وقيوده فتنطلق الخواطر وتتداعى فنهبط على حل.
«وهنا يجب أن ننصح للقارئ بألا يروي حلمه — مهما ظَنَّه بريئًا — لأحد، إلا إذا وَثِقَ من أخلاقه؛ لأن أبسط الأحلام قد يكشفه كما لو باح بسر كان يحب أن يخفيه.»
وحالة الحالم عندما يَقُصُّ حلمه تدل على معنى الحلم، اعتبر مثلًا رجلًا يقص عليك أنه رأى في نومه أنه ينتحر، وأنه كان في النعش والجنازة خلفه، ثم آخر يقص عليك مثل هذا الحلم؛ فإذا كان أحدهما يقصه وهو يضحك فرحًا فهو — بلا شك — ينوي الانتحار؛ لأن الموت لا يُرْهِبه بل يُغْرِيه، أما إذا يقص كان الحلم وهو متألم يتضرر من التفاصيل التي يسردها فحالته هذه تبعث على الطمأنينة؛ أي إنه فكر في الانتحار ولكنه لا يزال يخشى الموت، والأغلب عندئذٍ أنه لا يجرؤ على الإقدام عليه.
وأحيانًا تفور بنا الكامنة وتتغلب على وجداننا، فنهب من الفراش ونحن لا نزال في النوم ونؤدي أعمالًا مختلفة في البيت، أو حتى نخرج إلى الشارع، ونؤدي حركات رمزية، وكثيرًا ما يقع بعض الناس في أخطار هذه الحالات.
وأحيانًا تفور الكامنة أيضًا وتتغلب على وجداننا؛ فإذا كان أَحَدُنا يكره زوجته فإنه ينسى البيت ولا يعرف الشارع الذي يَقَعُ فيه، وقد يبقى على ذلك شهورًا أو سنوات، ثم يعود إلى وجدانه، ولهذا تزدوج شخصيته: الشخصية الأولى التي يعرف بها بيته وزوجته وأولاده، شخصية الوجدان الأصلي عنده، ثم شخصية أخرى تتغلب فيها كامنته حين ينسى بيته وزوجته وأولاده.
وأخيرًا تتغلب الكامنة أحيانًا تغلبًا تامًّا على الوجدان بالسيكوز؛ أي: الجنون.
وقد آثرنا عبارة العقل الكامن على عبارة «العقل الباطن»؛ لأن الكُمون ينطوي على معنى التربص والنشاط، وهما صفة الكامنة، ولكن عبارة العقل الباطن توهم بالركود والخمود وليسا هما من صفات الكامنة.